بيئة وعلوم

أين سيارتي الصاروخية؟

  • 43b
  • Presentation of B-2 Stealth Bomber
  • India - Floods - Submerged road
  • Nextfest in San Francisco
  • 42b
  • 43a

متى يصل «المستقبل» الذي وعدنا به الخيال العلمي؟
أيحق لهؤلاء الذين بهرتهم روايات الخيال العلمي بوعودها، أن يتذمَّروا اليوم وهم يرون أن الوعود لم تتحقق؟
وهل كان الخيال العلمي مجرد أحلام غير صادقة، أم إنها قامت على رؤى حاولت استشراف المستقبل؟
وهل تواضع المنجزات العلمية مقارنة مع ما وعدنا به الخيال العلمي هو حقيقة، أم أن المنجزات محققة وتقبع داخل خزائن الحكومات والعلماء؟ أشرف إحسان فقيه يجيب.

ذات يوم، كانت عبارة «العام 2000» بمثابة كلمة السر لوصف «المستقبل» بكل ما يعِد به من منجزات وأبواب تطبيق مدهشة خارقة للمعتاد. العام الأخير من الألفية كان توقيتاً سحرياً لإطلاق الغد المخبوء كما بشَّرنا به كتَّاب وفلاسفة علوم المستقبل.

ذلك المستقبل الذي كان واعداً بالمستعمرات البشرية على الكواكب وفي قاع المحيط، وبالخدم الآليين الأذكياء والسيارات الصاروخية ومسدسات الليزر. المستقبل حيث الانتقال الآني والاتصال الذهني بالإنترنت هي وقائع يومية اعتيادية. وحيث لا مرض ولا جوع ولا تمرد على القانون.

ولكن، حلَّ العام 2000، وكرَّت السنوات من بعده دون الوفاء بأي من هذه الوعود. حتى ثورات الاتصال والجينات التي نفخر بها تبدو قاصرة عن اللحاق بالمستقبل كما تخيَّله الذين سبقونا.

أياً يكن الأمر، فإن موجة من الحنين إلى المستقبل أو «Neostalgia» تجتاح اليوم جيلاً كاملاً من البالغين الذين نشأوا على وعد بعالم مختلف. فما الذي حصل؟ هل تعرضنا -نحن الحالمون بغدٍ تكنولوجي باهر- لخدعة كبيرة؟ أم أن مبتكرات المستقبل موجودة فعلاً وقابعة في مستودعات الشركات الكبرى ومراكز الأبحاث، تمنعها من الانتشار والتسويق عوائق مالية وسياسية أقوى من كل آمالنا وأمانينا؟

الخياليون العلميون: مبدعون أم مذنبون؟
يتحجج محبو الخيال العلمي دوماً بكتابات أدباء مثل جول فيرن (1828-1905م)، الذي تحقق عدد من بنات خياله التقنية كالغواصة والصعود إلى القمر، للتدليل على الأهمية الفلسفية والواقعية لهذا الأدب. والحقيقة أن أدب الخيال العلمي ليس بحاجة لثمة استشهاد. وحتى مع عدم حدوث أفكار الكثير من كتَّابه، كرَّس الخيال العلمي نفسه بالفعل على مدار القرن المنصرم سجلاً لتدوين المستقبل. ومن رحم الخيال العلمي وُلد تخصص أكاديمي هو علم المستقبل (Futurology) الذي أسهم في تكوين فكرنا عن المستقبل الذي «سيأتي يوماً». والآن، وفيما نحن نستأخِر هذا المستقبل ونستفقِدُه، فإن كتَّاب الخيال العلمي هم أول من تُوجه إليهم أصابع الاتهام بإدخالنا في وهم تخيلي بعيد عن الحقيقة!

على سبيل المثال، تعد رواية «2001: أوديسا الفضاء» للبريطاني آرثر سي كلارك، مثالاً رائجاً لعالم المستقبل كما صوره الأدب العلمي. هذه الرواية التي نشرت عام 1968م وحظيت برواج أدبي واسع، تناولت آنذاك تصوراً للمدة بين عامي 1999 و2001م حين يتنقل الإنسان بين مستعمراته على القمر وزحل، ويتعامل مع كمبيوتر ناطق ذكي، ويحتك بكائنات عاقلة من عوالم أخرى. تلك المواضيع وإن كانت قد طُرحت أدبياً قبل ذلك التاريخ، وواصل الكتّاب والسينمائيون استهلاكها فيما بعد، إلا أنها في «أوديسا الفضاء» نوقشت بعمق، وفي توقيت جعل هذه الرواية بمثابة المرجع الموثوق عند مفكري علم المستقبل. وفي العام 1968م ومع وتيرة التغير العلمي والاجتماعي الذي كان يجتاح العالم، فإن أحداً لم يكن يساوره شك في أننا سنتحادث مع الروبوتات الذكية وسنستعمر القمر بنهاية القرن العشرين!

الكلام نفسه يمكن إسقاطه على رواية جورج أورويل «1984» (نشرت عام 1948م) وعلى كتابات إسحق آسيموف وهربرت جي ويلز وهاينلاين وكارل تشوبئك وستانيسلاو ليم وسواهم الذين ابتكروا لنا مصطلحات مثل «روبوت» و«انتقال آني» و«مصعد فضائي» وغيرها من أيقونات خيال علم المستقبل.

كتَّاب الخيال العلمي لم يكونوا يتكلمون من فراغ إذاً. وتصورهم لم يكن محض هلوسات. لكنها كانت «افتراضاً» مبنياً على الأمزجة السياسية، والاجتماعية، إضافة إلى العلمية، السائدة في أزمنتهم. لماذا إذاً خابت – أو تأخرت- خيالات هؤلاء في التحقق؟ هل كان كتّاب الخيال العلمي مبالغين مثلاً في تصورهم؟ أم إن مسيرة العلم هي التي تباطأت لتخذلهم وأفكارهم الرؤيوية؟

المستقبل: هل فاتنا من دون أن ندري؟!
كي نفهم مسوغات تأخر المستقبل الخيالي الموعود، يجدر بنا أن نتتبع الظروف التي تزامنت مع نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحاضر. وهي المرحلة التي كان يفترض بها أن تشهد انتقالنا إلى المستقبل الخيالي إياه!

بصفة عامة يمكن تصنيف فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين بمثابة العصر الذهبي لثقافة «الحلم بالمستقبل». إذ أصبح استشراف المستقبل وعياً شعبياً عاماً تجاوز حيز النخب المثقفة. في تلك الفترة اكتشف الإنسان الجينات وتعرف أكثر إلى البلاستيك والطاقة الذرية. وصل إلى الفضاء الخارجي وحطَّ على القمر. ظهر التلفزيون ومن بعده الكمبيوتر. وعلى الصعيد الاجتماعي والسياسي، كان العالم يتشكل من جديد بعد الحرب العالمية الثانية. فشهدت الشعوب أنظمة الضمان الاجتماعي والصحي أول مرة، وسمحت بعض الحكومات بحبوب منع الحمل. الإرادة الشعبية في الغرب الديمقراطي تمخضت عن حركات تنادي بالسلام وحقوق المستهلك وحماية البيئة. ومع أن «الكتلة السوفيتية» تطورت حينئذ على نحو مغاير، إلا أنها ظلت متسقة من حيث المبدأ مع تصور آخر للمستقبل يعيش فيه البشر تحت حكم شمولي نموذجي. المستقبلية كانت حاضرة وقتها في الأزياء والفنون. وفي الرسوم المتحركة أيضاً عبر مسلسل «The Jetsons» الذي يتحدث عن عائلة تعيش في مستقبل فضائي غارق في التقنية.

في هذه الأجواء تفاعلت تصورات المستقبل التي ظهرت في النصف الأول من القرن مع الزخم العلمي والاجتماعي الجديد. وكان تسارُع البحث العلمي والنمو السكاني مغرياً، وبدا للمراقب العام أن البشرية قريبة جداً من الهجرة إلى مدن في قاع البحر. ظهور الدارة الإلكترونية المتكاملة صغَّر حجم الحاسوب إلى حد توقع معه الكل أن الروبوت بات على الأبواب. «ناسا» كانت ترسل مركبات «أبوللو» الواحدة تلو الأخرى على نحو دفع جريدة «نيويورك تايمز» عام 1969م إلى الجزم بأن المستعمرات على القمر ستظهر في غضون العشرين عاماً التالية! وقتئذ لم تكن أزمة الطاقة قد وقعت، ولا كانت تعقيدات النفط قد أقحمت نفسها في حسابات الإنسان البسيط. لذا لم يجد الناس صعوبة في تخيل إمكان الاستغناء عن سياراتهم بين ليلة وضحاها لركوب مركبة صاروخية أو حزام طائر!

يذكر آلفِن توفلر، أحد أشهر مفكري المستقبل على الإطلاق في كتابه «Future Shock» الصادر عام 1970م أن التسارع التكنولوجي يتزايد على نحو يفوق قدرة الجهاز العصبي عند المواطن العادي ويهدِّد قدرة الإنسان الطبيعي على التكيّف مع البيئة. لكن مع حلول الثمانينيات، بدا واضحاً أن نظرتنا إلى المستقبل قد صارت أكثر تشاؤماً وأقل جرأة. بغتة بدا «الأمس» آمناً إذا ما قورن بالغد المحاصر بتحديات وهموم جديدة. فالحركات الشعبية فقدت زخمها أمام المدرسة السياسية القديمة التي عادت إلى الظهور. كذلك انتقلت الكيانات الاقتصادية العملاقة (Corporations) من استنفاد مقدَّرات العالم النامي إلى التحرك في قلب العالم المتقدم بوضع أسس التجارة الحرة وفرض أنماط الإدارة والتعليم والاستهلاك الجديدة. وانشغل المفكرون عن المستقبل بمشكلات معاصرة كقصور المناعة المكتسبة (الإيدز)، وثقب الأوزون، وأزمة الطاقة، والرعب النووي (بعد تشيرنوبل). مغامرات أمريكا العسكرية إضافة إلى انهيار الشيوعية ونظريتها الاشتراكية التي كانت إطاراً لعدد من أطروحات علم الاجتماع المستقبلي، كل ذلك تضافر ليكوِّن نظرة إلى الغد أكثر تحفظاً وسوداوية، وليقتل الاهتمام بالأفكار المثيرة التي انتعشت في العقدين السابقين.

ربما نجحت التسعينيات في بث شيء من الروح في جسد حلم المستقبل عبر ثورة المعلوماتية الرقمية. فالشبكة العنكبوتية والبريد الإلكتروني والتداول الرقمي للصوت والصورة، إضافة إلى تطبيقات مثيرة كالواقع الافتراضي وتكنولوجيا النانو، كلها وعدت بتغيير حقيقي لوجه الحضارة. من جديد بدأ المختصون يحلمون بعالم في المستقبل تحكمه «الشبكة» هذه المرة وتسيِّر نظامه.. لا سيما مع تزامن ذلك وثورة الاتصالات اللاسلكية والهواتف النقالة. إلا أن هذه الفورة المعلوماتية لم تلبث أن حُجِّمت مع انهيار سوق شركات الإنترنت أواخر التسعينيات، العقد نفسه الذي شهد هبَّة من نوع مختلف قادها علماء الأحياء بكشفهم لخريطة الجين البشري وتجاربهم الناجحة مع الاستنساخ والخلايا الجذعية. إضافة إلى ذلك كانت هناك عودة سريعة إلى أحلام الفضاء مثَّلها إرسال مركبات غير مأهولة للمريخ والحديث عن احتمال وجود أحافير في صخوره. لكن هذه الضجة لم تلبث أن خمدت هي الأخرى!

أين وصل علم المستقبل اليوم؟ إنه يبدو مختطفاً لدى منتجي هوليوود وتقنياتهم البصرية الخلاَّبة. بل إن المستقبل التقني المنشود بدا مختزلاً في عالم افتراضي بارد داخل الشبكات الحاسوبية. عالم يحصر العلاقات البشرية في الأسماء المستعارة وغرف الدردشة وفضاءات
Second Life التخيلية. هذا هو بالتحديد ما يثير نقمة الباحثين عن المستقبل المفقود. فإذا كانت هذه السنوات تشهد ذروة الكشف العلمي والتقني كما يقال، فلماذا لا يظهر ذلك على المشهد وراء زجاج نوافذنا؟ هل يكون جهاز iPhone، بعد كل هذا، هو دُرَّة حضارة القرن الحادي والعشرين الموعودة؟! وإذا لم يكن الذنبُ ذنبَ أدباء الخيال العلمي، فمن هو إذاً المسؤول عن غياب الروبوتات ومسدسات الليزر عن حاضرنا التكنولوجي؟

العامل الاقتصادي وواقع السوق
يقال إن الرئيس الأسطوري لشركة IBM توماس واطسون الأب، حين عُرض عليه مشروع «العقل الإلكتروني» أول مرة عام 1943م، عقَّب عليه بقوله: «أعتقد أن السوق العالمي يتسع لخمسة منه». وعلى الرغم من أن هذه القصة غير مؤكدة، إلا أنها تصلح للتعبير عن مقدار الضرر الذي قد يحدثه الساسة والتنفيذيون إذا لم يمتلكوا النظرة اللازمة إلى المستقبل للتعرف إلى الأفكار الناجحة.

بصفة عامة يمكن القول إن رأس المال كانت له كلمة حاسمة في توجيه حاضرنا ومستقبلنا التكنولوجي. لنتذكر الصراع بين إديسون وتِسلا مثلاً عن التيارات الكهربائية DC وAC. غياب التمويل كان السبب الأساسي لتوقف أبحاث تسلا أيضاً في مجال البث اللاسلكي للطاقة الكهربائية. ولعبة السوق هي التي نصرت تطبيقات PC على Mac، وهي التي زرعت منتجات «مايكروسوفت» في %90 من الحواسيب الشخصية وجعلت مؤسسها أغنى رجل في العالم. على الرغم من أن الواقع يشهد أن المستخدمين يتذمرون من منتجات «مايكروسوفت» ليل نهار في مقابل رضا فائق عن منتجات «آبل» و«لينوكس» وسواها الأقل انتشاراً بكثير.

إذا قارنّا صورة مدينة القرن الحادي والعشرين -نيويورك مثالاً بالغ التطور- بالصورة التي نحتفظ بها في المخيلة الشعبية، فإننا سنصاب بالصدمة. ذلك أن المنظر العام لشوارع نيويورك لم يتغيَّر منذ أواسط القرن الماضي: الشوارع الجامدة المغطاة بالقار الأسود، الأرصفة الثابتة التي يمشي عليها الناس بأقدامهم، وملايين السيارات التي تشغِّلها محركات الاحتراق الداخلي والوقود الأحفوري، البنزين، وتأسرها قوانين الجاذبية الأرضية. لا يزال الجنس البشري مرتهناً إذاً ومنذ مائة عام بذات السيارات ووقودها البترولي. أين السيارات الطائرة ذات الوقود النووي؟ أين الطرق المطاطية أو الفضائية الخارقة؟ أين الأرصفة المتحركة والانتقال الآني وما بين الأبعاد؟ هذه كلها مؤجلة حتى تنتهي حقبة السيارة! وهي نهاية يرفض وقوعها بلا شك ويقاتل دونها أساطين صناعة النقل ومشتقاتها؛ صُنَّاع السيارات وشركات النفط ومقاولو الإنشاءات الكبار الذين يمسكون، كما نعرف، بزمام الاقتصاد العالمي.

كثيراً ما يستخدم تعبير «الجدوى الاقتصادية» عذراً مهذباً وواقعياً لرفض مقترحات المشاريع الجديدة والغريبة. تلك التي يسعنا تصنيفها معابر نحو المستقبل الموعود. لكن هذا المستقبل المثير والبراق لا يعني الكثير لمديري الشركات الكبرى وحملة أسهمها، الذين يهمهم في المقام الأول بقاء منتجاتهم مطلوبة ومسيطرة. ولإضافة المزيد من الواقعية على مسوغات رفضهم، فإن هؤلاء غالباً ما يرفعون راية «السلامة العامة» الكفيلة بتخويف الرأي العام وسحب التأييد الشعبي من الأفكار المغامرة الجديدة. مسوغات «الجدوى الاقتصادية» و«السلامة العامة» و«حماية البيئة» توظَّف مثلاً لتفسير غياب «مستعمرات القمر» و«الحزام الطائر» و«الشوارع ذاتية التشغيل» وسواها من المبتكرات المنتمية إلى الزمن القادم. مع إنها مسوغات كفيلة أيضاً بإنهاء اعتمادنا الحاضر على السيارة أو الطيران التجاري!

الحرب: بوابتنا نحو المستقبل؟!
بقدر ما تبدو الفكرة مخيفة، إلا أن الحرب تظل واحدة من أهم عوامل التقدم في التاريخ البشري! المفارقة مع الحرب هي أنها كلما اشتد سعارها، ازدادت جدواها في إنهاء صفحة من مسيرة التقدم وبدء صفحة جديدة. وقد أثبتت الإنسانية أنها دوماً ما تنبعث بعد الحرب أقوى وأكثر تقدماً! ولعل استعراضاً سريعاً يؤيد هذا الرأي.

فالحرب العالمية الأولى جاءت بالدبابة، وهذه تعد الأب الشرعي للحصَّادة والحرَّاثة وكل المجُنزرات التي تملأ مزارعنا ومصانعنا. وجنون الحرب العالمية الثانية دفع إيان فلمنغ إلى اكتشاف «البنسلين»، أول المضادات الحيوية. وجنون الحزب النازي دفع علماءه إلى ابتكار أول المحركات النفاثة في طائرات «ميسرشمِت». ورغبة الحلفاء في إنهاء الحرب بأسرع وقت كانت وراء شطر الذرة واكتشاف طاقتها الهائلة. حتى الحاسوب الذي نرمز به لحضارتنا المعاصرة، كانت نسخته الإلكترونية الأولى التي ظهرت عام 1946م مكرَّسة حصراً لحساب مسار المقذوفات لدى فرق البحرية الأمريكية. وهذه الإنترنت.. كان أول ظهورها باسم «الأربانِت»: شبكة وزارة الدفاع الأمريكية لربط قطاعات الجيش المختلفة، قبل أن يتلقفها أساتذة الجامعات لتنمو إلى الشبكة العالمية التي نعرفها اليوم. وبسبب الحرب الباردة تحقق حلم ارتياد الفضاء، وعملت معاهد الأبحاث في المعسكرين الشرقي والغربي بكامل طاقتها، كذلك تكونت ثقافة مستقبل شعبية مَحاورها «حرب النجوم» و«عالم ما بعد القنبلة النووية».

وحتى الآن، والعالم المتقدِّم يشهد فترة من السلم النسبي، فإن المجهود العسكري لا يزال يقود الأبحاث الطليعية، ويقدِّم بعض أكثر المنتجات إثارة للدهشة. لنتذكر أن المؤسسة العسكرية الأمريكية مثلاً لا تزال ضالعة في برنامج الفضاء. وهي كشفت لنا قبل عقدين عن تقنيات التخفي من الرادار في طائرات «Stealth»، وهي تقيم مسابقة سنوية للسيارات الآلية بلا سائق، على سبيل المثال لا الحصر. لكن ما يؤسف له أن هذه المؤسسات العسكرية تتحفظ -بالتأكيد- عن أضعاف ما تبوح به من المبتكرات التي شأنها أن تقلب عالمنا رأساً على عقب بدعوى الحفاظ على الأمن القومي والبقاء في صدارة سباق التسلح.

ربما تكون كل أسلحة الدمار الشامل الماحق التي تغص بها مستودعات الدول العظمى هي الأداة التي ستقلب بها البشرية صفحتها التالية في كتاب الحضارة. يقول المطلعون أن حرباً مقبلة شأنها أن تحول هذا الكوكب لنفاية نووية يستحيل العيش فيها. ويزعمون أن من سيكتب لهم البقاء من بني آدم سيكون عليهم أن يبحثوا عن مأوى خارج هذه الأرض. أن يهاجروا لكواكب أخرى! فهل تراها هدية حرب الزمن القادم لنا؟ أن نُدفع دفعاً لنستكشف الكون على الرغم منا؟

وبعد..
فالصورة ربما لا تكون على كل هذا القدر من السوء. صحيح أن المستقبل الذي تخيلناه قبل نصف قرن لم يحل بعد. ربما لا يكون قد تأخر أصلاً! ربما لم يحن أوانه. لعلنا نحن البشر التواقون للمعرفة وللتجديد غير مستعدين بعد لتحديات هذا المستقبل.

ولكن هناك حقيقة ساطعة لا يسعنا تجاهلها مهما كان توقنا للمستقبل الموعود: هناك الملايين من سكان هذا الكوكب المحرومين أصلاً من الخدمات الأساسية بمقاييس أي حضارة. هل يليق أن نتحدث عن مسدسات الليزر واستعمار القمر فيما الملايين لا يعرفون الكهرباء وشبكات الصرف الصحي؟ هل يجدر بنا أن ننشغل بصنع روبوت يريحنا من عناء جز الحدائق وطهو الطعام فيما الملايين يعتاشون على أقل من دولار واحد في اليوم؟ لماذا نفكِّر بإقامة المدن في قاع المحيط والملايين يفترشون الأرض دون مأوى؟ هل الانشغال بالتفكير بالمستقبل يعد ترفاً فكرياً؟ أم هو ضرورة تحتمها علينا نِعم التقدم والرفاه؟

مهما يكن، فالحماس لمستقبل باهر قادم لم يخبُ بعد. حمَّى العام 2000م لم تنقضِ. هي فقط غيرت ارتباطها إلى العام 3000 ميلادية! هل تكفي ألف عام كي نسكن كواكب أخرى ونتنقل بينها عبر الثقوب السوداء والعوالم الموازية؟ أم أن الدنيا أقصر من أن تبلغ ذلك العمر؟!

بعض الوعود والمواعيد المتأخرة
• – 
السيارة الطائرة
والحزام الصاروخي

هذان المبتكران اللذان يمثلان موضوعاً ثابتاً في كل تخيلنا للمستقبل موجودان بالفعل وتعمل نماذجهما بشكل جيد. لكنهما لم يطرحا في الأسواق ولم يُروجا على نطاق واسع لأسباب فنية وأخرى نوقشت أعلاه.
الحزام الصاروخي كان نجم افتتاح أولمبياد لوس آنجليس عام 1984م. وقد جرَّبه 17 شخصاً منذ ذلك الحين! تقوم فكرة هذا الاختراع على محرك دفع صاروخي يرتديه طيَّار يُشترط أن يتحلى بالمهارة والجسارة الكافيين للتحكم بهذا الوحش الميكانيكي. فالأحزمة الصاروخية التقليدية تعمل بمحركات الهيدروجين والنتروجين المضغوط لتولد طاقة 800 حصان وفائض حرارة يبلغ 750 درجة مئوية. هذه الطاقة تكفي بالكاد لتطير برجل بالغ مدة 30 ثانية فقط!
أما السيارة الطائرة، فلعل أشهر نماذجها هي مركبة «Moller M400» الوحيدة التي تقلع عمودياً وتطير بسرعة أقصاها 375 ميلاً بالساعة (مقابل 35 ميلاً بالساعة على الأرض)! ويذكر أن برنامج وكالة «ناسا» لإنتاج نوع من المركبات الطائرة الشخصية جمَّدته الحكومة الأمريكية عام 2005م. وعلى كلٍ، فالعائق الأكبر أمام انتشار هذا الابتكار ليس تقنياً ولكنه تنظيمي والحاجة إلى سن قوانين للطيران فوق شوارع المدن. على الأقل هذا ما تزعمه شركات السيارات الكبرى!

• – 
المصعد الفضائي

فكرة المصعد الفضائي طرحها أول مرة رائد علم الفضائيات الروسي قسطنطين سيولكوفسكي، منذ أواخر القرن التاسع عشر. وقد أعيد إحياء المشروع مع اكتشاف أنابيب النانو «Nano-Tubes» مطلع التسعينيات الفائتة، وهي مركبات مجهرية مؤلفة من طبقة أو أكثر من ذرات الكربون وتتمتع بمقاومة تفوق بكثير مقاومة جميع مواد البناء المعروفة. وسيتنقل مصعد الفضاء على سلك يمتد لمسافة مئات ألوف الكيلومترات وسيسمح بنقل حمولة المركبات الفضائية والأقمار الاصطناعية، إضافة للبشر، إلى ما وراء حزام النيازك في نظامنا الشمسي. ويعتمد هيكل المصعد الفضائي المرتقب على المكونات التالية: برج هائل هو بمثابة قاعدة للمصعد على الأرض، ثقل سابح حول مدار كوكب الأرض، كابل أو حبل لوصل الثقل الفضائي بالقاعدة على الأرض، مركبة فضائية للتنقل على طول الكابل.
وكما يظهر، فالمشروع هائل بكل المقاييس. وإذا ما كُتب له التنفيذ، فإنه سيغير فلسفة السفر الفضائي. ذلك أن المعوق الأكبر لانتشار الرحلات الفضائية على نطاق شعبي اليوم هو تكلفة النقل العالية التي توازي 22 ألف دولار لكل كيلوغرام من المادة المنقولة. وهذا أمر مرتبط بكون الوقود هو العنصر الأكثر تكلفة في إطلاق مكوك الفضاء الذي يحرق قرابة مليوني كيلوغرام من الوقود السائل كل 8 دقائق. ويَعِد المصعد الفضائي بحل جميع هذه المشكلات لأن طاقة الإطلاق ستولد كهربائياً عند القاعدة ولأن الأجسام المنقولة على طول الكابل سوف تستفيد من انعدام الجاذبية ومن قوى الطرد المركزية التي يولدها ثقل التوازن لتنطلق بسرعة تقارب 11 كيلومتراً في الثانية من دون إحراق قطرة وقود. ويتوقع أن يستغرق تنفيذ ثمة مشروع نحو خمسين عاماً، بتكلفة لا يُتوقع أن تفوق نفقات بناء المحطة الفضائية الدولية (ISS) التي تجاوزت ستين مليار دولار.

• – 
الانتقال الآني

مشهد خلّدته قصص الخيال العلمي وشاشات السينما: مشهد العَالِم أندريه ديلامبر في أول تجربة لجهاز الانتقال الآني الذي اخترعه. يدخل أندريه إلى أحد صندوقي الانتقال المنصوبين في مختبره، ويغلق الباب على نفسه من دون أن ينتبه للذبابة التي تسللت معه. يضغط الزر لتبدأ ذرات جسمه بالتفكك وتختفي قبل أن يعاد تشكيلها داخل الكبينة الأخرى على الطرف الآخر من المختبر. المشكلة أن ذرات أندريه قد اختلطت بذرَّات الذبابة لذا فهو سيظهر بجسم إنسان، لكن برأس وأطراف حشرة!
هذا التصور الكابوسي الوارد في قصة «الذبابة» لجورج لانغلان عام 1957م، لايزال حاضراً حتى اليوم. والعلماء يدورون في حلقة مفرغة عن أسلوب تحقيق حلم الانتقال الآني أو اللحظي بين أي نقطتين في الفضاء.
الترجمة الحرفية لعبارة «Teleportation» تعني «النقل عن بُعد». والمقصود بها نقل الجسد البشري من دون الاعتماد على وسيلة مواصلات متحركة. ولاشك في أن المعضلة الأولى التي يواجهها المعنيون بهذه الأبحاث هي حجم الذاكرة اللازمة لتخزين موقع كل ذرَّة في الجسم البشري وحالتها، ليعاد تجميعها لاحقاً، وفي تخزين هذه البيانات ونقلها عبر الفضاء؟
التحديات الأخلاقية والفلسفية لا تقل صعوبة: هل سيضمن التفكيك وإعادة التركيب استمرار الحياة في الجسد؟ ماذا سيحل بالروح أثناء الفناء الوقتي للجسد؟ وبين الكينونتين هل يعد الإخفاء، ولو برهة بمثابة القتل وسلب الحياة؟ ومن يضمن أن تبقى الذاكرة والخبرة والأفكار حتى لو نجح تركيب خلايا الأيدي والأرجل والأحشاء؟
واحدة من أكثر تقنيات الانتقال الآنية الخيالية شيوعاً تعتمد على العبور من خلال الثقوب السوداء أو عبر الفضاء المختصر المعروف أيضاً باسم ثقب الدودة (Worm Hole). وهذه المصطلحات تعبِّر كلها عن حالات خلل في الفضاء تنهار فيها قوانين الفيزياء والزمن. وتعني إمكان إيجاد طريق مختصرة عبر «الزمكان» مروراً من إحدى هذه النقاط السحرية. وغني عن الذكر أن الثقوب السوداء تملأ الكون من حولنا ويُرصد المزيد منها من حين لآخر.
هراء! ليس تماماً! ففي عام 1993م نجح العلماء في نقل جزيء ضوء (فوتون) آنياً. وبعدها بتسع سنوات نقل شعاع ليزر كامل على نحو كمِّي آني. بمعنى أن الفريق نجح في «نسخ» فوتونات الشعاع الضوئي ومن ثم قلَّدوها وأعادوا تكوينها عبر موضع آخر من الفضاء. ويعد هذا إنجازاً باهراً وأملاً للحالمين بيوم تكون فيه أجهزة للانتقال اللحظي بين بقاع هذا الكوكب.. أو ما بعده.

أضف تعليق

التعليقات