نشرت القافلة في هذا الباب من العدد السابق مقالاً للدكتور عبدالله الفيفي عنوانه «تربية العنف»، تطرَّق فيه إلى الأثر «السلبي» الذي تتركه ألعاب الفيديو العنيفة على الناشئة في بلادنا. وهنا تعقيب من الكاتب السعودي عبدالله الجابر، يذهب في اتجاه مختلف لما ورد على المقال السابق.
يدعو الدكتور عبدالله الفيفي في مقاله «تربية العنف» إلى تقنين استيراد ألعاب الفيديو العنيفة التي تربي في أطفالنا -كما يرى الكاتب- نزوعاً إجرامياً يتفشى بسببه ظواهر اعتداء اليافعين على أقرانهم ومعلميهم بل ويتجاوز هذا ليمتد إلى أفراد الأسرة الواحدة. ويختم الدكتور الفيفي مقاله بدعوة مرَّة وساخرة في الوقت نفسه، يطلب فيها من الجهات المسؤولة البحث عن مورِّدي مثل هذه الألعاب لأسواقنا ومراكز ألعابنا لعلنا نجد لديه مسوغاً تربوياً معقولاً لوجودها، كي يتضح لنا ما قد غاب عنا وعن الأمم المتحضرة الأخرى التي حظرت مثل هذه الألعاب العنيفة ولم تسمح بتصنيعها أو بدخولها أراضيها.
ما تقوله الدراسات
والحقيقة أن ما راق لي ووافقني، وأنا القارئ لمقال الدكتور الفيفي، هو حرصه الواضح والشغف الذي تموج به كلماته سعياً نحو مصلحة البلد والمجتمع. إلا أنني أنا القارئ أيضاً، غابت عني في مقاله الإحاطة بزوايا الموضوع وتتبع الدراسات الموثقة التي نُشرت في هذا الجانب. وربما الأسهل أن نركِّز على الأبحاث والدراسات التي تشير إلى وجود علاقة قوية بين تصاعد مستوى العنف في الألعاب وبين تنامي السلوك العنيف لدى لاعبيها. إلا أن هذه الدراسات -وهو ما يروق أحياناً لإعلامنا إغفاله- ليست دراسات مطلقة أثبت العلم صحة نتائجها، بل هي قابلة للنقاش والتصحيح، ويقابلها، وهذا هو الأهم، دراسات مماثلة تقترح أن علاقة كهذه غير موجودة وأن البحث لا يزال مستمراً.
بعض هذه الدراسات يشير إلى أن جرائم الأحداث في أمريكا على سبيل المثال تميَّزت بانخفاض ملحوظ في بداية التسعينيات من القرن الماضي واستمر انخفاضها حتى انتهاء ذلك العقد الذي بلغ فيه عنف ألعاب الفيديو أَوْجَه. فإن كانت هذه الألعاب كما يدعي الإعلام مثيرة لكل هذه النوازع الإجرامية فلماذا انخفضت النسبة ولم تتصاعد كما تقترح بعض الأبحاث؟ كذلك يشير لورانس شيرمان عالم الجريمة في جامعة بنسلفانيا الأمريكية إلى أن إحصاء الجرائم في المدارس الأمريكية في العقدين الأخيرين لم يرتفع. ما ارتفع هو نسبة التغطية الإعلامية التي تمنحها محطات التلفزة ووسائل الإعلام لمثل هذه الجرائم.
ومع إدراكنا لضرورة تشكيل هيئة رقابة لتقنين دخول هذه الألعاب إلى بلادنا، بالإضافة إلى الرقابة الذاتية والأسرية التي تفحص ما يمر أمام أعين أطفالنا وعقولهم، علينا إدراك أن جوهر متعة ألعاب الفيديو الشائعة هو تجاوزها لما يمكن القبول به على أرض الواقع، والعنف أو القوة، إذا جاز لنا التعبير، جزء أساسي وجوهري من منظومة هذه الألعاب وسر جاذبيتها. وقد تجد الدليل في إقبال الناشئة في العالم أجمع على ألعاب «الأكشن» أو تلك التي تلعب القوة الجسدية عاملاً أساسياً في ربحها أو خسارتها، وقد تجده أكثر تحديداً في تجاوز هيئة الرقابة الأمريكية عن العنف في تلك الألعاب التي تُقدَّم على أساس أنها لكل شرائح العمر، إذ إن أي لعبة من ألعاب الفيديو تستقبلها الأسواق الأمريكية وعليها رمز تعريفي بشريحة العمر التي تلائمها. أول مستويات هذا التقييم هو المستوى E الذي يرمز إلى أن اللعبة يمكن أن تكون للكل (Everyone).
المدهش، أن تقرير المعهد الوطني الأمريكي للإعلام والعائلة يشير إلى أن %35 من هذه الألعاب تحتوي على عنف متعمد ومقصود، و%27 منها تسمح للاعب بقتل شخصيات مختلفة من اللعبة. وهذا يقودنا إذن إلى أن ما يمكن رؤيته عنفاً قد يختلف من بلد لآخر ومن منظور لآخر، وفقاً لسلسلة المعايير التي يكون من خلالها تعريفه، ووفقاً للمنطلقات التي ننظر منها إلى فكرة ألعاب الفيديو العنيفة من الأساس.
مشاهدون فاتتهم التجربة
من أهم المنطلقات التي أرى أن الهجوم على ألعاب الفيديو العنيفة يتجاوزها، هو أن معظم الناقمين عليها ليسوا جزءاً من التجربة، بل مشاهدون لها لم يقبلوا حقيقة أن ألعاب الفيديو أصبحت جزءاً أساسياً من التشكيلة العامة لطفولة أجيال قريبة ماضية وأجيال كثيرة قادمة.
كل من في أوائل العشرينيات من العمر اليوم يتذكر فرحته بـ «الأتاري» ومتعته، من دون أن يتذكر مقدار العنف الذي صحب ألعابها. وربما يتذكر الكثيرون ظنهم بأن ألعاب الفيديو موضة ستزول سريعاً. فعندما ظهرت «الأتاري» أول مرة في السوق الأمريكية في منتصف ثمانينيات القرن الماضي صُنِّفت من أضخم مظاهر النجاح التكنولوجي التي ظهرت في تاريخ الولايات المتحدة، لأنها نجحت في بيع 3 ملايين جهاز في السنة. بعدها بعشرين عاماً، سُحب جهاز «سيجا دريم كاست» الجديد من الأسواق بعدما مُني بفشل ذريع، لأنه باع العدد نفسه فقط .
ويقول أحد أصحاب محلات الألعاب في الرياض إنه ومجموعة من العاملين في هذا الحقل، استقبلوا «الأتاري»، بصفتها فرصة استثمارية كغيرها من الفرص عندما دخلت الرياض أول مرة، بفرح وبحذر في آنٍ. ولم يخطر ببالهم أن هذا النوع من الألعاب سيكون مصدراً أساسياً من مصادر الدخل بعد سنوات قليلة.
جزء من ثقافة الطفل
ألعاب الفيديو أصبحت وستظل عقوداً -وربما قروناً، وعلم ذلك عند الله- جزءاً من ثقافة الطفل وتجربة -إن توازنت- غنية وممتعة ومفيدة، كما تشير أبحاث كثيرة تناولت بالتحليل أثر ألعاب الفيديو في تطور قدرة الطفل على التعلُّم. فأظهرت أن أثر ألعاب الفيديو كان إيجابياً فيما يتعلق بتطوير القدرة على اتخاذ القرارات وحل المسائل والتناسق الحركي البصري.
بل إن الدراسات تجاوزت ذلك، لتحلل كيف يمكن لألعاب الفيديو أن تطور شخصية الطفل والراشد الذي سيكونه، ليصبح فاعلاً في مجال العمل، ككتاب «الأطفال على مايرام» للمؤلفين جون سي بيك وميتشل ويد. فعند هذه الأجيال الصاعدة، احتلت ألعاب الفيديو مكانها قناة تسلية رئيسة إلى جانب القصة المصورة والتلفزيون وكرة القدم، ولا نتحدث هنا عن ألعاب الفيديو التعليمية المباشرة أو الرياضية البحتة بل نتحدث عن أكثر الألعاب انتشاراً بين الأطفال والشباب وهي ألعاب الفيديو المعتمدة على القوة أو العنف كيفما أردت أن تنظر إلى الأمر.
أعود فأقول إن هذا الطرح لا يعني فتح الباب على مصراعيه لأي لعبة بغض النظر عن محتواها، بل هو طرح يسعى إلى النظر إلى جميع المعطيات بعقلانية وحساب ما يمكن عمله لمصلحة أطفالنا. لا أحد يطالب بأن تحتل إحدى قنوات التسلية المتاحة للطفل مكان الأخرى ولكن على من يتعامل مع هذه الظاهرة الطارئة والمستمرة -ممن لم يحظ بأن يكون «لاعباً» في طفولته- أن يتعامل معها على أساس هذا المنطلق، لا أن يتعامل معها على أنها موضة أو عاصفة في فنجان يمكن السيطرة عليها مع أمنيات آملة خفية بمحوها من الوجود.