في حياتنا وفرة وسهولة مفاجئتان. الفضل فيهما للأجهزة الإلكترونية المختلفة التي تتسابق في القفز إلى أحضاننا لتوفر «الأكثر»، دون أن ندرك أحياناً مقابل ماذا؟
وفرة من الخدمات المعرفية والترفيهية، يكاد الحصول عليها أن يكون بالمجان، أوجدت في حياة الناس نوعاً من القبول لا بل الرضوخ لمجرد وجودها من جهة، وللتعود على القبول بالنوعية التي تتوافر بها من جهة أخرى.
ففي سماع الموسيقى، على سبيل المثال، سمحت القدرة على «تحميل» مقطوعات موسيقية وأغانٍ بكميات لم يخطر ببال إمكان توافرها بهذه الكثرة وهذا الثمن الزهيد، إلى انتشار سماع تسجيلات متدنية الجودة (مثل MP3). وأُخذ الناس، وخاصةً الشباب بهذه الوفرة بشكل جعلهم يتجاهلون سماع التسجيلات الموسيقية الراقية على أجهزة ذات جودة عالية. والفرق كبير.
وحصل شيء مشابه في فن التصوير الفوتوغرافي. ففي انقلاب مفاجئ، ألغى التصوير الرقمي الفلم بكل أنواعه بما فيه الأبيض والأسود. حيث كانت الصورة تحقِّق أرقى تجسيداتها. وأصبحت الكاميرا الرقمية هي آلة التصوير. لكن قبل أن نبدأ بالانسجام مع هذا الوضع الجديد، وبشكل مفاجئ أيضاً، تقدَّم الهاتف الجوال بإمكانات التقاط الصور السريعة، بشكل أخذ يهدِّد الكاميرا الرقمية الجديدة العهد! وبقدر ما سهَّل هذا إمكانية التقاط الصور الفورية، أوجد حالة تسيب وفوضى خاصة في الممارسة اليومية للتصوير الفوتوجرافي عند الناس. تظهر أحياناً من خلال رداءة النوعية التي تصل بها الصور، أو في ضياع هذه الصور الكثيرة في غياهب «الذاكرة الإلكترونية» المبعثرة في الأجهزة المختلفة أحياناً أخرى.
وهذا يصح بشكلٍ ما على أمور أخرى، مثل قراءة كتاب من نسخة مطبوعة على الطابعة المكتبية أو حتى على شاشة الكمبيوتر بدل قراءته كتاباً مطبوعاً مخرجاً. وكذلك الجريدة اليومية. ونادراً ما عاد أحدنا يتوقَّع أن يتسلَّم رسالة شخصية تصله عبر البريد فيفك الظرف ويفتح الرسالة المكتوبة بخط اليد ليقرأ كلاماً فيه شيء من نَفَسِ كاتبها. وحتى المعايدة أصبحت في رسائل الجوال بدل البطاقة الموقَّعة أو المكالمة الشخصية. فجأة، انحسر الحرص على شكل الوسيلة وعلى
شروط الاستمتاع بوسائل المعرفة والاتصال على اختلافها.
وفي مجال المشاهدة التلفزيونية، فإن الاشتراكات القانونية أو شبه القانونية في مراكز التقاط الأقمار الصناعية وفَّرت مئات وآلاف المحطات. وفي هذا شيء من «الوفرة المفروضة» إذا جاز التعبير، موجودة أمامك رضيت أم لم ترض، رغبت أم لم ترغب. وعلى الرغم من أن القول إنك تستطيع أن تختار ما تشاء وتهمل الباقي، منطقي ومقنع من حيث المبدأ، ولكن في الحقيقة ومع الرواج الواسع لهذا الأسلوب من الاشتراك في محطات الأقمار الصناعية، لا يجد أحدٌ منا مفراً من الانضمام إلى الركب، ويبقى ومعه كثير من الناس، يشعر بنوع من الضيق مع هذه الوفرة غير الانتقائية التي فُرضت عليهم.
إن المجتمع الإنساني يبدو وكأنه قد تم ترويضه بشكل واعٍ أو غير واعٍ على الاستسلام لكل مستجد. وتخلى على دفعات متلاحقة عن قيم وأصول في السماع والتلقي كان يتمسك بها ويدافع عنها ويسعى إليها. لكن المفارقة هي أنه حيث كان من المفترض أن يوفر التقدم التكنولوجي ارتفاعاً للمقاييس، إذا بالذي يحدث حتى الآن هو العكس. ولسنا هنا في معرض ذكر ميزات هذه الوفرة وتلك السهولة. وهي كثيرة وكبيرة. لقد كان يُطرح شعار «العالم بين يديك» على أساس أنه مبالغة إعلانية. لقد سمحت الإنترنت والوسائل الإلكترونية الأخرى بوضعه بين أيدينا بالفعل. أيدي كل واحد منا. ولكن الوفرة شيء والنوعية شيء آخر. ونحن دائماً نضع اللوم على «الممارسات التجارية» وربما هو اتهام في مكانه، لكن ألم تؤد مقاومة المجتمع البشري في كثير من الحالات إلى اعتدال الأمور واستعادة المقاييس لمكانتها، أم أن الوفرة الرخيصة طغت؟