عين وعدسة

مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية

من الأرض أجمل..!

DSC_6844يزداد الانطباع البصري تشويقاً كلما اقتربت أكثر من مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية، الذي افتتحه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، في 20 يناير 2016م. فموقع المركز على الطريق من مطار الملك خالد الدولي إلى قلب الرياض، جعله في صدارة مستقبلي ومودعي زوار العاصمة.

مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية هو مؤسسة بحثية مستقلة ومتخصصة في القيام ببحوث موضوعية ودقيقة في مجالات اقتصاديات الطاقة وسياساتها وتقنياتها ووقعها على البيئة. والهدف الاستراتيجي من إنشائه هو تكوين أطر بحثية تُعنى بكفاءة اقتصاديات الطاقة المستدامة، وذلك من خلال التعرف على أهم جوانبها، وهي: أقل تكلفة ناتجة من دورة توفير الطاقة، وأعلى قيمة يمكن الحصول عليها من خلال منافذ الطاقة، وإدراك النتائج المقصودة وغير المقصودة لسياسة الطاقة.

DSC_7705ينتمي بناء هذا المركز، الذي أبدعته المهندسة العالمية، عراقية الأصل، زها حديد إلى أبرز حركة معمارية في القرن العشرين، وهي ما تُعرف بـ «التفكيكية»، التي تجسِّد ما توصل إليه فن العمارة في مرحلة ما بعد الحداثة. وتتميز هذه الحركة بتفكيك الأشكال الهندسية من أحجام ومساحات بسيطة إلى أجزاء، وجمعها في هيكل يبدو عشوائياً ومفاجئاً وغير منتظم بالمعنى التقليدي.

صُمِّم المبنى بشكل وحدات سداسية الأضلاع غير منتظمة، وقشرة خارجية صلبة تظهره كما لو كان صَدَفَة. هناك صعوبة في العثور على خط أفقي أو عمودي بين كل تلك الزوايا المائلة، وثمة نوافذ صغيرة نسبياً وأسطح خارجية بيضاء لدرء أشعة الشمس وتخفيض استهلاك الطاقة للتبريد. كما أن الأفنية الداخلية والفتحات ذات الشكل المثلث في الغالب تعمل جميعها على جلب الهواء والضوء الطبيعيين إلى الداخل.

DSC_7117ومن خلال هذا التصميم متنوع التعقيدات ومتداخل التفاصيل، وعبْر هذه الفكرة التي رُبطت بروح الابتكار والاستدامة التي يستهدفها مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية، يمكن للعين أن تتنقل في المكان دون أن تقاوم استسلامها لمزيد من الشغف البصري.

الطاقة المتجدِّدة..المتعدِّدة
ثمة أشياء في هذا المركز تخبرك عن فلسفته ورؤيته تاركة لك اكتشافها بنفسك، فألواح الطاقة الشمسية المنتشرة على مساحة من النطاق الخارجي تخبرك مبدئياً عن أن الأمر هنا لا يتعلَّق بالبترول بل كذلك بالطاقة الصديقة للبيئة، والمباني التي تشرح لك كيف تكون البساطة أن تكون أكثر أناقة من أي شيء آخر، هي كذلك تحفِّزك لفهم المحتوى الداخلي الذي ينطوي عليه هذا النمط العمراني الخاص في الحي السكني بمركز الملك عبدالله للبحوث والدراسات البترولية.

مساكن هادئة تضج ابتكاراً
DSC_7400 Gالمنازل متعددة الأحجام تحمل طابعاً واحداً يجمع بين المعاصرة في التصميم والبُعد العالمي فيه، وإن كانت مختلفة قليلاً عن الشخصية الفنية المغايرة التي يتسِّم بها المركز في مبناه الرئيس، إلا أن هذا لم يمنعها من أن تملك ذات عقله الهندسي الباطن، فهي تملك المقومات نفسها من الابتكار والتقنية والحداثة، كما تطبق المعايير نفسها من حيث كفاءة الطاقة والاستدامة والترشيد.

DSC_6d849الحي السكني ليس فرصة فقط لتحديث معرفتك بجديد ما وصلت إليه المباني الذكية، ولكنها كذلك بيئة متكاملة للمجتمع الذي يعيش فيه، حيث يتوفر على مختلف الوسائل الخدمية والترفيهية والاجتماعية التي تسهِّل على ساكنيه الالتقاء ببعضهم أو التسوق وممارسة الرياضة وإقامة نشاطات عائلية، إنه المنطقة التي تخبرك بشيء آخر مهم، هو أن المركز قد أوجد هذه البيئة السكنية تكريساً لعوامل الاستقرار الحياتي بوصفه جزءاً لا يتجزأ من تحفيز الباحث ورفع مستوى أدائه النفسي والفكري.

العين ..العدسة
DSC_7135قليلة هي الأماكن التي تتحدث معك أثناء زيارتك لها، وهذا المكان هو أحدها، ولهذا فكل خطوة تمضي قدماً في زيارة مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية هي إمعان في الإنصات البصري والعقلي معاً، حتى بالنسبة لذائقة عادية، فإن العين تتمنى التحوُّل لعدسة كاميرا كي توثق لقطات بعينها، وحتى بالنسبة لصاحب اطلاع متوسط على بحوث الطاقة المتجددة فإن هذه التجربة كفيلة بأن تضعه في مرحلة متقدمة من اليقين بأن هذه البحوث لم تعد مجرد أفكار يجري طرحها (باعتبار ما سيكون) فهذا المركز بالفعل يستخدم مخرجاتها في اللحظة الراهنة.

اكتشاف الجوهرة
DSC_7244كلما تقلصت الأمتار التي تفصلك عن المبنى الرئيس لمركز الملك عبدالله للبحوث والدراسات البترولية، شعرت بأن مرحلة جديدة توشك أن تبدأ في ذائقتك الهندسية، وحين تصبح بالداخل فأول ما ستكتشفه هو أن الاحتفاظ بمحيط النظر الطبيعي ليس أمراً بتلك السهولة فثمة ما يغري دائماً للنظر على نطاق أوسع، لتوزيع النظرات في كل مكان.

DSC_7167في المبنى المخصص للمكاتب، لن تتقيَّد العين غالباً ببروتوكول خطواتك، كما أن الانتباه لن يكون بحوزتك دائماً بينما تحاول الإصغاء إلى شيء ما، قد تراقب السقف المتشكل من أسقف عدة، أو قد تستوقفك الأبعاد المائلة التي تبدو عنصراً أساسياً ومتكرراً في مختلف أجزاء المبنى، أو ربما يسترق بالك تتبع انتظام الأشكال الهندسية متعددة الأضلاع المرتسمة في الجدران والأسقف، التي تمثِّل ثيمة أخرى لا يمكن تجاهلها.

فانتازيات هندسية
DSC_7133ولأن فكرة مثل «تحويل الأرض إلى مكيف هواء» ستبدو أشبه بالفانتازيا حين تحاول شرحها لأحد، فالخيار المفضل هنا أن تدعوه إلى المركز (KAPSARC) ليرى الأمر بنفسه، سيكون لديه فرص إضافية لرؤية غرف اجتماعات تتكفل بإطفاء أنوارها ذاتياً بمجرد أن تصبح خالية من الناس، ولكي يرى كذلك كيف يمكن بناء «شرفة أرضية» تصبح بموجبها موجوداً في الخارج وأنت ما زلت داخل المبنى، وذلك من خلال مساحات الـ Outdoor التي تم وضعها بين المكاتب وقرب الممرات الداخلية لتكون مجالاً طبيعياً لضوء الشمس والهواء النقي.

المبنى الذي يتنفس
أمتار قليلة تفصل عن قاعة المحاضرات التي تسبقها مساحة استقبال كبيرة يمكن استخدامها في أغراض عدة، ويتم في القاعة تطبيق أنظمة لإدارة العروض المرئية والمحتوى الصوتي ودعم خدمات التوثيق الإعلامي والتصوير والترجمة.

DSC_7368وحين نقول إن هذا المبنى يتنفس فهذه ليس عبارة مجازية؛ لأن القاعة تطبِّق بالفعل أسلوباً متقدماً للمحافظة على ثبات درجة حرارة الجو، بالإضافة إلى استشعار أي زيادة قد تحدث في عدد الحاضرين وذلك من خلال قياس نسبة ثاني أكسيد الكربون، وحينها يقوم هذا النظام آلياً ببث مزيد من الأكسجين في المكان.

في المنطقة نفسها، صالة مفتوحة يمكن إعادة تشكيلها وفقاً لاحتياج كل مناسبة، فهي قابلة لتكون معرضاً أو قاعة للمحاضرات وللاحتفالات ولورش العمل أيضاً، وقد تم تجهيزها بكافة الإمكانات التقنية والفنية التي تجعل المبنى مستعداً لاستضافة أي معرض دولي وفقاً للمعايير المعمول بها حول العالم.

المصلَّى.. روحانية معاصرة
DSC_7161ستسير لأمتار أخرى، تستمر معها الأشكال الهندسية نفسها في مرافقتك ولكن هذه المرة مع إضاءة زرقاء هادئة تتقاطع معها أشكال زخرفية بالغة التفصيل والدقة، الأرضية ليست رخاماً هذه المرة ولكنها عبارة عن سجادة غامقة اللون لا يمكن الوقوف عليها إلا لأداء الصلاة، وهناك ستجد أن (المصلى) قد احتفظ بوقاره الروحاني دامجاً معه طابعاً عصرياً في التصميم، تبدو فيه الجدران والسقف جميعها مثل سهم يشير إلى القبلة.

العقول ..الصميم قبل التصميم
لم أكن متأكداً من أن سبب عدم وجود لوحات على الجدران هو أن المكان في حد ذاته لوحة فنية، لكن التأكد الأهم، هو أن الأسلوب الهندسي الذي جاء به المركز كان طريقته في إخبار الجميع بأن الابتكار هو خيار المستقبل.

DSC_7360(غير المتوقع) هو ما يوحي به المبنى، وهو كذلك أيضاً ما يفكر فيه الباحث حين يرفع بصره فيرى أكثر من سقفٍ تمثل السماء أحدها فقط، وحينها سيكون لهذه المرحلة الذهنية دورها الكبير في إيجاد حلول تنسجم مع عمل مؤسسي كامل يعمل بكل هدوء من أجل فوائد تعود على العالم ككل.

DSC_7811إن استخدام الطاقة المتجدِّدة ومفاهيم الاستدامة ليس السبيل الأفضل، بل هو السبيل الأوحد من أجل حفظ موارد الحياة وتطويرها وتنويع مخرجاتها، ولهذا فإن من الضروري أن نتوقَّع كثيراً من نتاج المركز، ولكن ليس قبل أن ندرك أن العقول التي تعمل داخل هذا المبنى المبهر ليست أقل إبهاراً منه.

 

أضف تعليق

التعليقات

Asma Alghamdi

خسرنا ثروة كبيره برحيل المصممه العالميه زها حديد، مجرد النظر الى تصاميمها فانك ستعرف جيدا ان هناك فرق بين ان تعمل وبين ان تعمل باخلاص وحب ، قمه في الدقه والاتقان والصدق . اتمنى ان يحذو العالم حذوها .