أدب وفنون

مجتمع «غودريدز» القرائي:

فصلٌ جديدٌ من العلاقة بين المؤلف والقارئ

62تُعد شبكة التواصل الاجتماعية الخاصة بالكتب «غودريدز» (goodreads) أكبر شبكة تهتم حصرياً بعالم الكتب والمكتبات في العالم، إذ يصل عدد أعضائها إلى 40 مليون عضو، كما يتخطَّى عدد الكتب المسجلة فيها حاجز المليار كتاب. وتُعد الشبكة مرجعاً لجيل القرَّاء الصاعد يبنون فيه مكتباتهم الافتراضية، ويتابعون من خلالها جديد العناوين، ويفردون قوائمهم المتنوعة، ويوثقون فيه حصيلة قراءاتهم السنوية.

ما يميّز شبكة «غودريدز» بشكل رئيس هو إتاحتها الفرصة للقارئ لكتابة رأيه الصريح والخالي من طراوة المجاملة، مباشرة بلا حواجز سلطوية تؤثر على صدقية الرأي والانطباع. حتى أصبح من المهم للمؤلف الساعي لقياس تأثيره أن يوثِّق أعماله على الشبكة ويتابع من خلالها آراء قرَّائه. وتتجلَّى أهمية الشبكة في كونها باتت تزخر بالتوصيات والقراءات النقدية والانطباعية عن الأعمال الأدبية، وصارت تسهم بشكل كبير في تحديد الذائقة القرائية والفنية نحو تبجيل عملٍ ما أو الحط منه، مما أعطى لفضائها أهمية موازية لا تقل عما يُنشر من قراءات نقدية في الملاحق والمجلات الثقافية، مشكِّلة بهذا فصلاً جديداً من العلاقة بين المؤلف والقارئ.

وهنا عرض لآراء مجموعة من المستخدمين الفاعلين في شبكة «غودريدز» حول أثر هذه الشبكة على الوسط الثقافي، ومدى استجابة المؤلفين تفاعلاً مع قرَّائهم، وعن القاعدة التي يستند إليها مجتمع القرَّاء حين انتقاء قوائمهم وتفضيلاتهم. فإلى تجاربهم وأجوبتهم.

المؤلف الحاضر كقارئ
تُعد تجربة الروائي طاهر الزهراني المنضم إلى غودريدز عام 2009م من أكثر التجارب المحلية تميزاً. فهو يحتل موقعاً في قائمة أفضل عشرة مراجِعين على مستوى المملكة، وكان ولا يزال حضورُ مراجعاته المميزُ محلَّ اهتمام من القرَّاء والصحافة. يقول عنها: «منذ عام 2009م وحتى الآن كتبت أكثر من مئتيْ مراجعة، ورغم أني مؤلف، إلا أن حضوري كقارئ في غودريدز هو الأقوى، والأكثر تأثيراً، وهذا شرف كبير أن أكون منحازاً للقرَّاء، هذا أمر يسعدني جداً».

يشعر طاهر صاحب روايتي «أطفال السبيل» و«نحو الجنوب» أن قودريدز هو «المكان الذي يتعرَّف فيه على آراء القرَّاء الحقيقية بعيداً عن الصداقة والزمالة والعلاقات الأخرى»…

يشعر الزهراني صاحب روايتي «أطفال السبيل» و«نحو الجنوب» أن غودريدز هو «المكان الذي يتعرَّف فيه على آراء القرَّاء الحقيقية بعيداً عن الصداقة والزمالة والعلاقات الأخرى»، ويضيف: «من خلال متابعتي لكثير من الآراء فإني بالكاد أجد إجماعاً على جودة كتابٍ ما، هذا من ناحية الأعمال الجيدة، فما بالك بالأعمال الرديئة، والتي قد تنال في الغالب ما تستحق في عملية التقييم؟» وينبّه إلى أن بعض زملائه «لا يتعاطى مع هذه الشبكة لأنها صادمة. فلا تجد له حساباً فيه، وهو أمر يشبه الهروب من الصدمة، وأحياناً يتلصص بحثاً عن الثناء».

65وبحسب طاهر، فإن ما يهم الكاتب في النهاية هو «التقييم التراكمي لأي كتاب، بعيداً عن التقييم الشخصي» ويؤكد أنه مقتنع ككاتب بتقييمات قرَّائه ويشعر بوجود تحسن تدريجي مع كل عمل يصدره، ويكتفي بتفاعله مع المراجعات بوضع إشارة الإعجاب بها «سواء أكانت مراجعات جيدة أو سيئة، وهي إشارة للقارئ أن مراجعته محل اهتمام، ولا شك أني أسعد بالمراجعات والانطباعات الجميلة، ولكني أستفيد من المراجعات السلبية لمعرفة الأخطاء التي وقعتُ فيها. أنا في النهاية أجرِّب، وممتن لهذا القارئ على وقته الثمين الذي استقطعه من حياته ليقرأ لي».

ولا ينسى طاهر أن ينبّه إلى تفاوت وعي القرّاء الذي يصل عند البعض إلى التطاول سباً وشتماً. وعلى الرغم من ذلك، فإنه يتعاطف معهم لأنه «سبب في تلك الخيبة»، منوهاً على أنه من الصحّي تركَ أمرِ الرد لقرَّاء آخرين يختلفون معهم في الرؤى والانطباعات، ويزيد: «هي مرة وحيدة تدخلت فيها، حيث قد قرأتْ إحدى القارئات رواية لي كتبتها قبل سنوات عشر، وبدأت في محاولة المقارنة بيني كقارئ يكتب مراجعات صارمة وقاسية، وكاتب يجرّب. طبعاً بدأ البعض يبيّن لها أن هناك فرقاً بين كون الإنسان قارئاً وبين كونه كاتباً، وأنا عندما قرأت خيبتها وصدمتها تدخلت وقلت لها: هي من أعمال البدايات، واقترحتُ لها آخر رواية كتبتُها، ثم لتقرر».

ويحذِّر حجي من الإحباطات التي قد تتركها بعض التعليقات القاسية، ويوصي الكاتب بفهم الدوافع النفسية التي تلعب دوراً في تشكيل رأي القارئ حيال كتاب ما…

من ناحية أخرى، يشير الروائي حجي جابر، الفائز بجائزة الشارقة عن روايته «سمراويت»، إلى أنه متابعٌ مستمرٌ لشبكة غودريدز ويتواصل مع القرَّاء بشكل شخصي. يهتم حجي بالقرَّاء أصحاب الحس النقدي الذين يكتشفون الثغرات أكثر من الممتدحين لأعماله، ويذكرُ أنه استعان بقارئة من البحرين لقراءة مسودة روايته الأخيرة «لعبة المغزل» وذلك بعدما استفاد من انتقاداتها اللاذعة لأعماله السابقة. ويرى حجي أن تعليقات القرَّاء على غودريدز تمثّل «فرصة كبيرة أمام كل كاتب لقياس الأثر الفعلي الذي تركه كتابه لدى القرَّاء، فليس بمقدور أي كاتب في الغالب أن يستطلع آراء شريحة واسعة ومتنوعة من القرّاء من بلدان مختلفة وأعمار وخلفيات معرفية متباينة حيال منتجه. يضاف إلى ذلك أن هؤلاء يكتبون آراءهم الصريحة دون تأثير مباشر من الكاتب، وهنا تنتفي شبهة المجاملة التي تغلِّف آراء القراء الذين يلتقون الكاتب في العادة».

ويحذِّر حجي من الإحباطات التي قد تتركها بعض التعليقات القاسية، ويوصي الكاتب بفهم الدوافع النفسية التي تلعب دوراً في تشكيل رأي القارئ حيال كتاب ما، يقول: «لو أخذنا الرواية على سبيل المثال، هناك قارئ يبحث عن السرد السريع المملوء بالأحداث، بينما غيره يُفضّل وتيرة أبطأ مشحونة بالتأمل، وهناك من يريد كتاباً يوافق قناعاته وينتصر لها، وآخر لا ترضيه إلا الكتب التي تتحدّى السائد وتحاول خلخلته، وثمة من يبحث عن أمر يبهجه، بينما هناك من يغوص في مزاج كئيب. مع كل هؤلاء يصعب على أي كاتب أن يحقّق إجماعاً بين القرَّاء. لذا عادة ما أنظر لعموم التقييم والخط العام الذي يتفق حوله القرّاء دون الانشغال بالتفاوت المحيّر بين تعليق وآخر».

هند الغريب (قارئة): هذا الموقع يساعد القارئ الجاد على أن يقرأ بشكل أفضل لا أن يقرأ أكثر، وأن يعرف ما الذي يقرؤه، كما يعلِّمه الالتزام كنشاط فردي وجماعي…

يبيّن حجي مأخذَه الوحيد على غودريدز بأنه بدأ في صنع نجوم على طريقته، «نجوم يملكون ذائقة ما ويحاولون تعميمها، وهذا يقدح في صُلب الفكرة المرتجاة من الموقع، ألا وهي التنوع والاختلاف. ثمة أسماء أصبحت محل متابعة وانتباه من البقية الذين يسعون لملاحقة قوائم قراءاتهم ويتأثرون بانطباعاتهم، ولعل أسوأ جملة أقرؤها في غودريدز حين يعلِّق شخص على تقييم منخفض كتبه أحد النجوم بأن يشكره لأنه كفاه عناء القراءة بنفسه».

المساعدة على القراءة بشكل أفضل
في جانب موازٍ، تشارك القارئة هند الغريب في هذه الشبكة بشكل دائم منذ خمس سنوات، وتنوّه على أن موقع غودريدز ليس شبكة كمالية وظيفتها رصد وتنظيم الكتب المقروءة، بل تأخذ فوائدها بُعداً آخر يكمن في مساعدة القارئ الجادّ على أن «يقرأ بشكلٍ أفضل لا أن يقرأ أكثر، وأن يعرف ما الذي يقرؤه، لا أن يعرف كم قرأ وحسب. كما أنها تعلِّمه الالتزام بالقراءة كنشاط فردي وجماعي في الوقت نفسه».

ريوف خالد (مدوِّنة ومترجمة): أحببت العديد من الكتب التي لا أعتقد أنِّي كنت سأجد طريقاً إليها لولا أنَّ صديقاً أرفقها لرفوفه، أو ذيَّلها بتقييم لافت…

وتحرص هند على تضمين قوائمها القرائية عناوين متنوعة، فتقول: «بالنظر إلى الأصدقاء الرائعين الذين يشاركونني القراءة والتقييمات على كتبٍ قرأتُها أو أنوي قراءتها أو تلك التي لا أعرفها أساساً، أجدني مضطرة بين حينٍ وآخر إلى أن أنظر نظرة أفقية إلى داخل ما أقرأ، وفي كل مرة أنتهي إلى ضرورة توسيع قراءاتي وتنويعها أكثر فأكثر. والتقييمات المختلفة لكتاب واحد تدفعني لإعادة التفكير في مدى جودته وربما لإعادة قراءته إن لزم الأمر، وهكذا شيئاً فشيئاً لاحظتُ أن ذائقتي القرائية تتغير، تبعاً لعوامل داخلية أولاً ثم عوامل خارجية لم تخلُ من أثر مجتمع غودريدز، الذي هو كأي مجتمع آخر يتأثر فيه الفرد الواحد بالجماعة». وتضيف أنها كقارئة تعي تماماً حاجتها لفعل القراءة وجدواه وأن هذا الفعل «ليس فعلاً عشوائياً، فأنا أتأثر بأصدقائي القرَّاء بالقدر الذي يدفعني إلى ما أحب وأرغب من دون أن أتخذ لنفسي مساراً لا يناسبني في القراءة. فمع معرفتي الكاملة بقدراتي القرائية واهتماماتي، آخذ اختيارات الأصدقاء بعين الاعتبار دون التخلي عن الوعي والدراية بكل ما سبق».

 

دليل إلى بناء الاختيارات
من جهة أخرى، تصف المدوِّنة والمترجمة ريوف خالد مراجعاتِ وانطباعاتِ الأصدقاء كالدليل الذي يُلهمها في بناء اختياراتها دون أن ينطوي على التأثر بهم بالضرورة، وتفضّل متابعة قرَّاءٍ من خلفيات ثقافيّة وبلدان وفئات عمريّة واهتمامات متعدّدة. وتقول: «ليس لدى الواحد منّا الوقت الذي يسعفه لقراءة كل ما يقع ضمن دائرة اهتمامه. أستفيد عادةً من تقييم الأصدقاء، ممّن أثق بآرائهم في اقتناء بعض الكتب أو تجنبها، خاصة إذا مر بي عنوان جديد، وبناءً عليه أقرر إذا ما كنت سأقتنيه بصيغة ورقية أو إلكترونيّة موفّرةً وقتي وجهدي ومالي بالطبع. أحببت عديداً من الكتب التي لا أعتقد أني كنت سأجد طريقاً إليها لولا أن صديقاً أرفقها لرفوفه، أو ذيّلها بتقييمٍ لافتٍ للانتباه».

روان طلال (كاتبة): التفاعل السريع مع الكتاب يأسرني، اختلاف الآراء والانطباعات، الملاحظات التي قد يتركها قارئٌ مهتم، دائماً ما أحاول أخذها بعين الاعتبار إيماناً مني بأن الكتابة فعلٌ ناقصٌ إذا لم يلتفت الكاتب لآراء القراء…

ولا تخفي ريوفُ حماسَها من التفاعل اليومي على غودريدز، وتجد في إضافة «تحدي القراءة»، وهو أحد الطرق التي يوفرها الموقع لضبط برنامج يضع فيه المستخدم قائمة من الكتب لكي ينجز قراءتها خلال مدة زمنية يختارها. وتوضح: «ما إن أجد نفسي قد شارفتُ على الانتهاء من كتاب ما، خاصة فيما يتعلَّق بالكتب الثقيلة، التي لا خلاص منها لأهمية بعضها بطبيعة الحال، فإني أنزع إلى الجديّة، حيث حماس القرب من النهايات يتّقد ويدفعني إلى تخصيص مزيد من الوقت الحر للقراءة. فتحدِّي القراءة يعمل بمنزلة مذكّر، منبّه للهدف المنشود. وهذا يجعله أقرب إلى التنفيذ ممّا لو كان عائماً، حيث تقل احتمالية غيابه في الذاكرة خلف الالتزامات الأخرى». وترى ريوف أن الذائقة المحلية للقراء الشباب: «ثريّة ومتنوّعة، وإن تشابهت في كتب معيّنة فهذا طبيعي للغاية، نعرف أن بعض الدور أو الكتب ممنوعة أو لا تتوفّر لدينا، ببساطة، والمعروض في متاجر بيع الكتب متشابهٌ إلى حدٍّ كبير، وتشابهُ المعروضِ يجعل من الطبيعي أن تتشابه الاختيارات».

في «بلاد العجائب»
reader vs writerوتشبّه الكاتبة روان طلال عالم غودريدز وسكّانه من عشّاق القراءة والكتب بعالم (أليس في بلاد العجائب) حيث الرفوف الافتراضية المملوءة بآلاف العناوين الجذّابة، التي لا يفصل بينها وبين القارئ أية حدود تمنعه عن كتابة رأيه بكل وضوح. تتحدث مؤلفة «فتاة السقف.. تبتسم» عن تجربتها مع تفاعل القرَّاء بإيجابية، قائلة: «كإصدار أول وبتفاعلِ أكثرِ من سبعمئة قارئ عبر صفحة الكتاب الخاصة في غودريدز، أشعر بالرضى، تحديداً مع تباين الآراء وتراوحها من نجمة إلى خمس نجمات. التفاعل السريع مع الكتاب يأسرني، اختلاف الآراء والانطباعات، الملاحظات التي قد يتركها قارئٌ مهتم، دائماً ما أحاول أخذها بعين الاعتبار إيماناً مني بأن الكتابة فعلٌ ناقصٌ إذا لم يلتفت الكاتب لآراء القراء».

عمرُ تجربة روان مع الشبكة سنوات خمس، شاركت فيها بخمسة «تحديات قراءة»، وتذكر بأنها عادة ما تملك كقارئة ملتحقة بهذه الشبكة أحد خيارين، إما الاستعداد لما ستقوم بقراءته بأخذ جولة مسبقة على التعليقات، أو أن تتمسك بعنصر المفاجأة كأن تترك للكتاب «الفرصة الكاملة لخلق الصورة دون أخذ أي انطباع مسبق». وباتت تميل مؤخراً إلى قراءة الكتاب أولاً ثم التعريج على قراءات الأصدقاء، من منطلق إيمانها بأن لكل قارئٍ الحقَ المطلقَ في تناول الكتاب من زاويته الخاصة. وما نلحظه في أيامنا هذه، هو أن القرَّاء الشباب تخلصوا من السلطة الأبوية على الثقافة والأدب، كسروا الأصنام وتجاوزوها إلى مساحة أفسح، حيث آراؤهم أولاً، ولا عمل فوق النقد. ربما نشترك في قراءة عدد كبير من الأعمال ولكننا نختلف في تقييمها والتعاطي معها. ولا يسع روان نسيان جماعات القراءة التي تتنافس في وضع جداول قرائية مميزة مثل «صالون الجمعة»، إذ تَعُدها «فتحاً لآفاق أوسع في القراءة».

أضف تعليق

التعليقات