علوم

لِمَ لا نرى

العجلات

في الطبيعة؟

27العجلات في كل مكان تقريباً، ليس فقط في السيارات والطيارات وعربات تسوق السوبرماركت، بل أيضاً ستجدها مختبئة داخل كل شيء تقريباً، من أقراص الحاسوب الصلبة خاصتك إلى غسالات الملابس وغيرها من الأدوات البسيطة التي تستخدمها بشكل يومي. بل إن المؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا يعتقدون أنه لولا العجلة لاضمحلت التكنولوجيا البشرية. لكن لو كانت العجلة بهذه الأهمية فلِمَ لا نراها في الطبيعة؟

تعود أقدم عجلة مكتشفة إلى 3500 قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين. تُعرف تلك الفترة بالعصر البرونزي، وتُعد مرحلة متأخرة من تطور الحضارة البشرية. إذ كان البشر آنذاك قادرين على صبّ السبائك المعدنية، وصناعة مركبات معقَّدة كالقوارب الشراعية. ومع ذلك، فإن العجلة (باعتبارها وسيلة من وسائل النقل) لم يتم اختراعها إلا في مرحلة متأخرة نسبياً من التاريخ البشري.

قد يرجع السبب لتأخر اكتشاف العجلة إلى الحاجة لوجود آلات معدنية لأعمال التصنيع الدقيقة مثل طي المعادن وتخريمها. فالعجلة ليست أسطوانة حجرية تدور كما في سيارة (عائلة فلينستون) في المسلسل الكرتوني الشهير، بل هي دولاب أسطواني متحرك، متصل بمنصة مستقرة ثابتة تسمى المحور. ولكي تتضح الصورة بشكل أفضل، يمكننا أن نتخيل القرص المدمج الذي نستخدمه في الكمبيوتر بشكل دوري. يمثل هذا القرص الأسطواني الدولاب في العجلة. يتوسطه ثقب دائري الشكل، وهذا الثقب هو المكان المخصص لدخول المحور الثابت، لنقل مثلاً الأصبع. وهنا تكمن الصعوبة، إذ يتوجب على كل من المحور وما يقابله من ثقب في منتصف الدولاب، أن يكونا مستديرين تماماً وفي غاية السلاسة والدقة. إضافة إلى ضرورة أن يكونا أملسين وناعمين جداً حتى يمنعا أي احتكاك قد يتسبب بتوقف عمل الدولاب ومنعه من الدوران بحرية تامة. فعندما تقوم بتحريك القرص بطريقة دائرية محاكاة للعجلة، تستطيع أن تلاحظ مقدار الاحتكاك الناتج عن هذا التحريك على أصبعك.

ونظراً لصعوبة تصنيع وتركيب ثنائي الدولاب والمحور هذا، يُعتقد أن العجلة لم تُخترع لأغراض النقل والمواصلات في بداية الأمر. بل كانت في الأصل تستخدم من قبل الخزّافين وصانعي الفخار على أرجح تقدير. لكن بعيداً عن السبب الرئيس وراء اختراع العجلات، سواءً كان من أجل صنع الفخار أو طحن الحبوب، فقد أحدثت العجلة ثورة في عالم التكنولوجيا آنذاك حتى أصبحت علامة فاصلة في تاريخ الحضارة البشرية وإيذاناً بعصر جديد.

ما الذي يجعل العجلة
اختراعـاً مميزاً للغاية؟

28قبل العجلات كان نقل الأحمال الثقيلة أمراً مضنياً، إذ كان من الضروري التغلب على عدو الحركة اللدود وهو الاحتكاك. كان القدماء يجّرون الأحمال جرّاً أو عن طريق زلّاقات أو إطارات خشبية يتم سحبها وتحميلها على ظهور الماشية. كانت العجلات طريقة بسيطة وفعالة تساعد في تسخير الطاقة وتحويل القوة. لكن ميزتين رئيستين جعلتا من العجلات آلية سهلة لنقل الأحمال الثقيلة.

الميزة الأولى هي في تقليل الاحتكاك، فعندما نقوم بسحب أو دفع صندوق ما ينتج عن هذا احتكاك بين أسفل الصندوق والأرض نظراً لخشونة الأرض واتساع مساحة سطح الصندوق المعرض للاحتكاك. لذلك تصبح القوة اللازمة لتحريك هذا الصندوق عظيمة. لكننا عندما نضيف العجلات إلى الصندوق فنحن نحرره من الأرض واحتكاكه بها.

كانت العجلات طريقة بسيطة وفعَّالة تساعد في تسخير الطاقة وتحويل القوة. لكن ميزتين رئيستين جعلتا من العجلات آلية سهلة لنقل الأحمال الثقيلة…

قد لا يتحرر الصندوق من الاحتكاك بالأرض بشكل كامل، إذ يبقى القليل منه مؤثراً على أطراف العجلات الملامسة للأرض. من جهة أخرى، ينشأ احتكاك آخر بين الأسطح الداخلية للعجلة وبين الأسطح الخارجية للمحاور الثابتة، كالاحتكاك الذي تلاحظه على إصبعك عندما تقوم بتدوير القرص المدمج، لكنه يبقى ضعيفاً في مجمله مقارنة بالاحتكاك بين الصندوق والأرض، لذلك يصبح نقل الأحمال الثقيلة سهلاً على العربات.

28aلكن الميزة الكبرى كانت توفير العجلة ما يسمى بالميزة الميكانيكية، فالعجلة تعمل كما تعمل الروافع تماماً. إذ إن الجزء الخارجي للدولاب الملامس للأرض يدور مسافة أكبر من الجزء الداخلي الملامس للمحور، فسواء قمت بدفع العربة أو سحبها، ستكون القوة على المحور دائماً أقوى من على حافة العجلة. بهذه الطريقة تقوم بتعظيم قوة الدفع مما يساعد في التغلب على احتكاك المحاور. ومثل الروافع تماماً، فكلما كان حجم العجلة كبيراً، كلما كانت قوتها على تعظيم القوة أكبر، وبالتالي تحريك أوزان أثقل، لكن لو كانت العجلات بهذه الفعالية والفاعلية، فلماذا لا نراها في الطبيعة؟

لِمَ لا نرى حيوانات بعجلات؟
تتنوع الحيوانات في طرق حركتها، فهناك من يرفرف بجناحيه ليولِّد قوة رفع تدفعه إلى السماء، وهناك من يجر جسمه زاحفاً بين الأماكن الضيقة والمظلمة، وهناك من يحرك زعانفه ويتحكم بعمل أعضاء جسمه الداخلية ليغوص في أعماق المحيطات، لكننا لا نرى حيواناً واحداً يستخدم العجلات!

29إن العجلة اختراع مدهش بالنسبة لنا، فهي تخلِّصنا من أعباء أرجلنا غير المميزة والتي لا تقارن بالحيوانات الأخرى. بل إن أداءنا في المشي والجري لا يقارن حتى بأداء شبيهاتنا في الحركة من ثنائيات الأرجل كالكناغر والنعام. لكن المشكلة هي أن العجلة تعتمد في عملها على اختراع يسبقه، وهو الطريق المعبد. فمحرك السيارة القوي يمكنه أن يتفوق على الخيل أو الفهد على الأسطح الصلبة والطرق المستوية، لكنه عديم الجدوى في الأماكن الوعرة كالغابات والمناطق الجبلية والصحراوية، والتي تشكل بدورها غالبية مناطق الكرة الأرضية.

لكن سبباً آخر مهماً متعلقاً بالتركيب الداخلي للأنسجة الحيوانية المعقَّدة يجعل من نشوء العجلات أمراً شبه مستحيل، لأن الأنسجة والأعضاء الحية تتطلب بالضرورة تزويدها بالدم الذي يحمل الغذاء والأوكسجين. وإمدادات كهذه تحتاج إلى شعيرات دموية وأعصاب لكي تنمو العجلات وتعيش. فلك أن تتخيل حجم الكارثة التي ستنتج إن قمنا بتوصيل هذه الشعيرات والأعصاب الثابتة بجسم منفصل ومتحرك.

الجدير بالذكر هنا هو أن هنالك كائنات حية أخرى تستخدم لحركتها أجهزة شبيهة بالعجلات. ربما لم تكن محط أنظار الجميع لصغر حجمها، لكن رغم ضآلتها وبساطة تركيبها كانت البكتيريا أول المخلوقات التي تعتمد في حياتها على العجلات، بل ربما كانت الوحيدة. تستخدم هذه الأنواع من البكتيريا آلية للدفع تشبه في تركيبها المحرك اللولبي تسمى السوط الذي يقوم بالتحرك حركة دورانية، مع أو ضد عقارب الساعة، بناءً على ما تمليه عليه الخلية البكتيرية. كما أن قاعدة السوط هذه تتألف من أجزاء صغيرة مكوَّنة من 40 بروتيناً.

29aلكن هذه الأنواع من البكتيريا كانت الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة. فنشوء هذا المحرك اللولبي وما يشبهه من الهياكل الأسطوانية الدوَّارة في الكائنات الدقيقة أمر معقول وممكن، فهي بسيطة من ناحية التركيب ولا توجد لديها ذات القيود والمحددات التي نراها في الأنسجة المعقَّدة للحيوانات متعددة الخلايا.

إن سؤالنا الذي بدأنا به المقال «لِمَ لا نرى العجلات في الطبيعة؟» قد يقودنا إلى أسئلة أعمق. إذ نستطيع بكل سهولة أن نستفسر عن عدم وجود حيوانات فقرية بستة أطراف، أو كائنات حية تستخدم الهيدروجين لتطير كبالونات المراكز التجارية. قد تكون كل هذه الاحتمالات وغيرها واردة فيزيائياً وقابلة للتطبيق بكل سهولة، لكن العملية التطورية تسلك مسارات محددة لا يمكن التنبؤ بها، فتغلق بدورها الباب على مسارات أخرى كثيرة. إنها عملية غير معكوسة، حيث لا يمكنها التوقف وتعديل نتائجها وإعادتها إلى حالة مضت، هي فقط تبني على ما تم بناءه مسبقاً.

أضف تعليق

التعليقات

ظلال

بحث علمي قيم ورائع
بارك الله بكم