رأي ثقافي

حماية الفصحى بالتعليم والإعلام

في العدد 6 من المجلد 64 نشرت مجلة القافلة مقالة، تحدَّث فيها كاتبها الأستاذ نزار قبيلات عن خطر يهدِّد اللغة العربية، وعن انهزام الفصحى أمام اللهجات العامية في وسائل التواصل الحديثة، «الآي باد»، و«الواتس أب»، وكل ما له صلة بالإنترنت. وختم مقالته بقوله: «هناك حاجة لدقِّ ناقوس الخطر، وعقد مزيد من الملتقيات والمؤتمرات التي تُعنى بهذا الشأن».

ولما كانت المشكلة بالغة الخطورة، فإن انتظار الملتقيات والمؤتمرات، وما تتمخَّضُ عنه من توصيات، تُقبل أو تُرفض، قد يتيح للخطر أن يتحوَّل إلى جائحة، يشقُّ على المؤتمِرِين – مهما أوتوا من بُعد النظر وصدق النية وعمق الحمية – أن يجتثوها من جذورها. وذلك لأن جذورها مغروسة في كل مكان، أي في كل جهاز من أجهزة التواصل التي تملأ أيدي الناس من صغار الطلاب إلى كبار الأساتذة، ومن الأدباء والكُتَّاب إلى عامة الناس ممن لا شأن لهم في علم ولا إعلام. ولأنه يستحيل تعقبُّ هذه الأجهزة ومراقبتها، وحذف ما فيها من بثٍّ وغثٍّ طفا وبغى حتى غدا أكثر من رمال الصحراء، وزبد الشواطئ.

المشكلة في حاجة إلى علاجين: علاج سريع الإقرار والتنفيذ، تتكفَّلُ به وزاراتٌ وإدارات آمرة زاجرة. وإلى علاج بطيء يظاهرُ السريع، ويجري تنفيذه على أناة وروية، بالإقناع العقلي لا بالإجراء الرسمي. السريع تقع تبعته على وزارتين قادرتين: وزارة التعليم ووزارة الإعلام. الأولى تُعنى ببذر البذور، وسقي الجذور، والثانية تُعنى بتلقيح الأزهار وجني الثمار، فلا يُصنعُ الكلام المكتوب والمسموع إلا على هُدىً وبصيرة وتوجيه وتسديد. أمَّا وزارة التعليم فعليها تبعات ثقال: أُولاها أن تُلزم المعلِّمَ قبل المتعلِّم إتقان الفصحى. وهذه الفصحى إن لم تكن معربة في البداية، فإنها ستعرب في النهاية. لكن إعرابها من البداية أنفع، وتعليمها الصغيرَ قبل الكبير أيسر. فقد أوتي الصغير من سلامة الفطرة ما يُتيح له أن يُتقن لغات الأجانب، فكيف لا يتقن لغته، وهو يسمعها صباحَ مساءَ من قنوات الفضاء، وفي مواعظ الخطباء؟ ومتى اضطلع المعلم بهذه التبعة فإن الفصحى تغدو سجيةً نقية في أَصْغَرَيْ المتعلِّم: قلبه ولسانه. فلا يشق على عقله تركيبُ جملةٍ، ولا يعثر لسانه بنطق لفظ.

وثانية التبعات أن تُشرف وزارات التربية والتعليم في الوطن العربي كله على مناهج المدارس الخاصَّة، وأن تكلِّفها تطبيق هذه المناهج، لكيلا تتسرَّب إليها أوضارُ اللهجات العامية، وهُجْنَةُ النطق الأجنبي، فيُفسد التعليم الخاصُّ ما يصلحه التعليم الرسميُّ. ولا يحق لأحد أن يتهم هذا الإشراف بالتزمتّ والتعنت، لأن الصغار ملك الأمة. ولكل أمة الحق في أن تنشِّئ ناشئتها على النحو الذي يحفظ وحدتها، ويكفل بناءها من التصدُّع والانهيار.

وثالثة التبعات أن تخصِّصَ وزاراتُ التعليم ساعة أسبوعية، يتعلَّم فيها الصغار كيف يستعملون الفصحى في أجهزة التواصل. ومن المعروف أن الصغار أقدرُ من الكبار على التمرس بالآلات الحديثة، لما فيها من تصوير وتلوين وإغراء. وبذلك تتحوَّلُ هذه الأجهزةُ من لُعب إلى كُتبٍ، ومن عبثٍ يغتال أعمار الصغار، إلى علم يرفد ما تُقرره المناهج.

وبعد أن يتخرَّج الصغار في المدارس والكبار في الجامعات، تنتقل تبعةُ الحفاظ على الفصحى من التعليم إلى الإعلام. وفي عصرنا الحاضر أصبحَ للإعلام مقروئه ومسموعهِ ومنظوره شأنٌ عظيم التأثير في الارتقاء أو الهبوط بالعربية. فإذا أَلْزمت وزاراتُ الإعلام الصحفَ والمجلاتِ وقنواتِ الفضاء استخدام الفصحى وحدها، فإنها تُكمل رسالة التعليم. وإذا تسامحت وسمحت للهجات العامية بأن تخالط الفصحى، أو أن تحلَّ محلها، فإنها تهدم ما بنى التعليم.

على الإعلام عامة، وعلى المرئي والمسموع خاصة، مجانبةُ الحوار بغير الفصحى متعللاً بالتيسير والتطوير. فقد طغت القنوات على المكتبات، وزاحمت الإذاعات المجلات، وآثر أكثر الناس المشاهدة والسماع على القراءة. فإذا غَزوْنا الأسماع بلهجات عامية، أوشكْنا أن ننتزع من الفرد ما غَرس فيه التعليم.

قد يُقال: إن هذه اللهجة قريبةٌ من الفصحى، أو هي أقربُ إليها من سواها، فلا ضيرَ من التحدث بها في المحاورات الإعلامية. والردُّ على هذا القول هو: أنه ليس في العاميات كلها لغة أفصحُ من لغة ولا لهجةٌ أجمل من لهجة. وإنما فيها لغة أسوأ من لغة، ولهجة أقبح من لهجة. وعلينا في مقارنة العامياتِ بعضها ببعض أن نستخدم أسماءَ الترذيل لا أسماء التفضيل، كأن نقول: هذه العامية أبعدُ عن الفصحى من تلك.. والثالثة أعجزُ عن الإبانة من الرابعة. والعاميات كلُّها لغاتُ الأمية والجهل، لا ألسنة العلم والعقل، ولا فصاحة إلا في لغة الكتاب المُنزل.

ولمعترض أن يعترض فيقول: أنَّى لرأيِ شخص واحد أن يعالج مشكلة عامة؟ ولماذا لا نرجئ المعالجة إلى أن يتداعى أهلُ الذكر وأصحاب الرأي إلى مؤتمرات، تقتل المشكلة بحثاً؟ فيقال له: إن المرض حينما تفشو فاشيتهُ، فيغدو جائحة كهذه الجائحة يحتاجُ إلى تدبير سريع يحيط به ليكف البلاء عن الناس، ولا ينتظر عقد المؤتمرات، واتخاذ المقررات. وبعد ذلك يتلاقى جهابذةُ الطبِّ ليعالجوا المرض على هُدىً وبصيرة، فيأتي العلاج البطيء مكملاً للسريع، وتسلم البلاد والعباد من استشراء الداء.

أضف تعليق

التعليقات