معاينة الغابات
تقلّصها خطر جداً على مستقبل الحياة.. والأمل في جهود دولية عالمية عاجلة وشاملة
تُعيل الغابات مباشرة 400 مليون إنسان. وكلما عرفنا دورها في حياتنا بدت مخاطر تدميرها أعظم وأفدح. فغابة الأمازون وحدها تمتص سنوياً 1.3 جيغا طن من الكربون، الذي يشكو العالم من ارتفاع نسبته في الغلاف الجوي، ومع ذلك يبدو أن القليل جداً من نداءات المحافظة على الغابات قد وجد بعض الاستجابة. إذ لا تزال غابات كبرى وحيوية في العالم تتعرَّض للتدمير بشكل مثير للقلق، وفق معاينة لأحوال هذه الغابات أجرتها مجلة «الإيكونوميست» البريطانية استناداً إلى تقارير منظمة الأغذية والزراعة الدولية (فاو)، وفيما يأتي أبرز ما جاء فيها.
مع انبلاج نور الفجر الباكر فوق غابات الأمازون في البرازيل، يمتد أمام الناظرَيْن مشهد ساحر لغمامة فضية اللون، تغطي بحر الخَضار الكبير على امتداده، فيما تستفيق أعظم جوقات العالم، من كل أنواع الطير المغردة، في سمفونية تأخذ بالألباب.
ومع أشعة الصباح الأولى تستيقظ أشجار الغابة، ويبدأ (كلوروفيل) أوراقها في أداء وظيفة التركيب الضوئي. فهي تستخدم ضوء النهار، من أجل تحليل جزيئات الماء، لتدمج الهيدروجين بثاني أكسيد الكربون في الهواء. ينتج من ذلك هيدرو كربونات تحوّلها الأشجار إلى سكريات تحتاج إليها لتتنفس وتقتات. أما «النفايات» الناتجة من هذه العملية، فهي… الأوكسجين الذي ينطلق في الهواء. وهو الذي يرفع الرطوبة التي نشاهدها في الغمام الذي يغطي الغابات الاستوائية.
الشجر يمتص إذن ثاني أكسيد الكربون، ويبث الأوكسجين في الهواء. تلك أمور كانت معروفة على الأقل منذ سنة 1774م حين اكتشف الكيميائي البريطاني جوزف بريستلي أن فأراً انحبس تحت وعاء مقلوب شبيه بالجرس، لم يمت مختنقاً، لأن نبتة نعناع محبوسة معه كانت تمدّه بالأوكسجين. وعلى الرغم من معرفتنا هذه، فإننا لا نبدو بعد مقدّرين كما يجب هذا الدور الذي يلعبه الشجر في جعل الكرة الأرضية مكاناً جيداً للعيش. ففي حقبتين سابقتين، حين كان جو الكرة الأرضية يحتوي على نسبة عالية جداً من ثاني أكسيد الكربون، هما العصر الكربوني (carboniferous) الذي بدأ قبل 350 مليون سنة، والعصر الطباشيري (cretaceous) الذي بدأ قبل 150 مليون سنة، انخفضت نسبة ثاني أكسيد الكربون، بفضل ازدهار الغابات التي تمتصه.
احتساب الكربون
يعدّ القضاء على مساحات متزايدة من الغابات فكرة سيئة. فالعلماء يقدّرون أن نصف وزن الأشجار الجافة تقريباً، مكوّن من كربون مخزون، وحين تتلف الشجرة، أو حين نحرقها، يتحرر من جديد معظم هذا الكربون. وقد أسهم الإنسان، منذ نحو 10,000 سنة في قطع الغابات وحرقها، من أجل الأرض الزراعية أو وقود الخشب. وبذلك جرّد الإنسان نصف المساحة التي كانت تكسوها الغابات. وثمة تقدير أن الإنسان، حتى ستينيّات القرن الميلادي الماضي، تسبب في معظم زيادة بث الكربون، من جرَّاء قطعه الغابات. وبلغت حصة هذا الإسهام، زيادة نسبتها بين 15 و%17 من الغازات، أي أكثر مما فعلت كل السفن والسيارات والقطارات والطائرات في العالم.
لكن هذه الأرقام تقلل في الواقع من أثر قطع الغابات. ذلك أن ثمة أدلة علمية متزايدة، على أن الغابات الاستوائية، أكثر من الغابات في المناطق الأخرى، تستغل فرصة ازدياد الكربون في الجو، لتزيد هي امتصاصها هذا الكربون. وهذه عملية تسمّى: «التسميد الكربوني» (carbon fertilisation). ويقدّر وزن ما تمتصه غابة الأمازون المطيرة، من كربون «زائد»، بنحو 1,3 جيغاطن في السنة، أي ما يساوي تقريباً مقدار الغازات الزائدة بفعل قطع الأشجار في السنة.
هذه واحدة من النواحي التي تحفز على حماية الغابات. لكن ثمة نواحي أخرى. فالغابات تؤوي أكثر من نصف أنواع الحيوانات والعصافير والحشرات في العالم. وفي غابة الأمازون التنوع البيولوجي مذهل. فحتى في سواقيها وجداولها الصغيرة نجد أنواعاً فريدة من القردة والعصافير والمخلوقات من كل صنف. والغابات هي مصدر معظم أنواع الأطعمة والأدوية الحديثة. وهي تعيل نحو 400 مليون نسمة من أفقر شعوب الدنيا. وكلما اكتشف العالم حقيقة دور الغابات، بدت مخاطر قطعها أعظم وأفدح.
مصدر الأمطار
تنظم الغابات دفق الماء، وتضبط مخاطر الفيضان والجفاف. هذه أمور كانت معروفة منذ أقدم العصور. وكان الأقدمون يعرفون أن الغابات تزيد من هطول المطر، وأما قطعها فيقلصه. ويؤدي قطع الأشجار إلى تقليص إنتاج الأوكسجين وبخار الماء. وهذا يقود إلى قلة المطر. وفي حال غابة الأمازون المطيرة، نجد أن أثرها هائل في المناطق الزراعية في كلا القارتين الأمريكيتين. ففي جنوب البرازيل، وشمال الأرجنتين والباراغواي، تعتمد رطوبة الرياح الأطلسية على الغابة المطيرة. هذه الرياح تدخل البرازيل من المحيط الأطلسي، وتتشبع رطوبة من غابة الأمازون، ثم تنحرف جنوباً بفعل اصطدامها بجبال الأنديز، حاملة معها المطر الغزير. وثمة أدلة أيضاً على أن الغرب الأوسط في الولايات المتحدة يستمد ماءه من المصدر نفسه، غابة الأمازون، بفضل الرياح المتجهة منها شمالاً.
ويقول باحثان روسيان، هما فكتور غورشكوف وأناستازيا ماكارييفا، إن الغابات، لا الحرارة، هي جالب الرياح الأساسي. وقد بنيا نظريتهما هذه على أن الضغط الجوي ينخفض عندما يتحوّل الماء من بخار إلى مطر، وهذا يعني أن النظام البيئي الذي يُنشئ المطر، يُحدث أيضاً الرياح التي تدفع هذا المطر إلى المناطق التي يسقيها. وإذن فاختلال هذا النظام، قد يؤدي إلى عواقب أخطر مما يُظَن.
هذه النظرية أحدثت جدلاً في محافل العلماء الغربيين، منذ نشر المقالة التي شَرَحَتها، في مجلة «بيوساينس» (Bioscience)، إذ رأى البعض فيها شيئاً من المبالغة، لكن آخرين أكدوا أنها تعزز القول إن حماية الغابات، على الصعيد المائي وحده، أمر ضروري أيضاً.
ومع ذلك فما زالوا يدمّرون الغابات. إذ جاء في أرقام المصدر الأول للمعلومات عن الغابات في العالم، منظمة الأغذية والزراعة الدولية «فاو»، أن في الكرة الأرضية لا تزال ثمة 4 مليارات هكتار (10 مليارات فدان) تغطيها الغابات، أي %31 من مساحة اليابسة. لكن ثلثها فقط غابات مطيرة. أما الباقي فكثير منه في حالة سيئة. وتصنّف «فاو» الغابة على أنها الأرض التي يغطي %10 منها فقط الشجر.
ما يقرب من نصف الغابات الباقية لنا، تقع بين المدارين، ومعظم هذه غابات مطيرة، وهي بكل المعايير أنفس وأثمن الغابات. ويقع نحو ثلث الغابات المطيرة في البرازيل، حيث يقع الثلثان منها في حوض الأمازون. ويقع خُمس الغابات المطيرة في العالم في الكونغو وفي إندونيسيا. أما المنطقة الثانية من الغابات، أي نحو ثلث مجموع المساحة المشجَّرة الباقية في العالم، فهي في المناطق دون القطبية الشمالية، وتسمّى «التايغا». ويقع معظم منطقة التايغا، في روسيا وإسكندينافيا وفنلندا وكندا. وفي الولايات المتحدة جزء صغير منها. ويقع في المناطق المعتدلة المناخ نحو %11 من الغابات، ومعظمها في الولايات المتحدة، التي دمّرت نحو نصف غاباتها الشاسعة، في القرن الميلادي التاسع عشر، وكذلك في أوروبا والصين، التي قُطعت غاباتها قبل ذلك بكثير. فقد قطعت أوروبا نصف غاباتها في القرون الوسطى. وتوقف القطع حين حلت كارثة الطاعون الأسود بالقارة الأوروبية بين سنتي 1348 و1350م. وعادت الغابات في المنطقة المعتدلة الآن إلى النمو من جديد. ففي أرقام «فاو»، أن كل سنة تشهد إعادة زرع 7 ملايين هكتار، لا سيما في الصين وأمريكا.
المشكلة في المناطق الاستوائية
المجزرة التي تحدث الآن، هي على الخصوص بين المدارين، في المناطق الاستوائية. ففي العقود الستة الماضية من السنين، تقلصت غابات هذه المناطق أكثر من %60. وأما ثلثا المساحة الباقية فهي مقطّعة، غير متصلة. وهذا يجعلها في خطر مزيد من التدمير. وعلى الرغم من كثير من الحملات، بواسطة المنظمات غير الحكومية وجمعيات التوعية وحفلات الموسيقى الداعمة لحماية الشجر، ومشاريع شراء الغابات وتأجيرها، فإن وتيرة القطع لا تزال مخيفة. وترى منظمة «الفاو»، أن 13 مليون هكتار من غابات العالم، أي ما يُعادل مساحة إنجلترا، تقطع كل سنة. فروسيا التي تملك من مساحة الغابات أكثر من أي دولة أخرى لا تزال تقطع غاباتها. إذ بين سنتي 2000 و2005م، قُطعت الغابات من مساحة 144 ألف كيلومتر مربع، أي %14 من مجموع غاباتها.
تحسّن نسبي
وعلى الرغم من ذلك، فقد كان هذا أفضل من السابق، بشكل من الأشكال. ففي تسعينيّات القرن العشرين، حين كان النفير يُطلَق على أشده في مسألة قطع الغابات، كانت أكثر من 16 مليون هكتار تُقطَع كل سنة. والتباطؤ الأكبر سببه، تقليص عدد رخص قطع الشجر في أكبر منطقتين معنيتين بالأمر في العالم: البرازيل وإندونيسيا. وقد أصدرت البرازيل، في السنوات العشر الماضية، مراسيم لحماية 500,000 كيلومتر مربع من غابات الأمازون الاستوائية. ويشير تقرير حديث للمعهد الملكي للشؤون الدولية، وهو منتدى فكر بريطاني، إلى أن قطع الغابات غير الشرعي قد تقلص كثيراً في السنوات الأخيرة، في البرازيل وإندونيسيا والكاميرون.
وثمة بلدان أخرى فيها غابات مطيرة أصغر، أخذت تهتم للأمر، مثل كوستا ريكا، التي فقدت في زمن ما %4 من غاباتها كل سنة. لكنها الآن أوقفت قطع أشجار غاباتها تماماً. وتقول كل من الغابون وغويانا، التي تغطي الغابات ثلاثة أرباع مساحتها، إنهما بمساعدة أجنبية، يسرهما أن تبقيا الوضع على حاله. ومع تنامي الوعي وتنظيم الإعلام والحملات الخاصة بهذا الموضوع، أعلنت شركات الخشب الكندية في مايو 2014، أنها أخذت تعمل مع منظمات الخضر من أجل تحسين إدارة 72 مليون هكتار من الغابات القطبية في كندا.
تفاؤل مبالغ فيه
ومع كل ذلك، يرى كثيرون من الخبراء أن التحسّن النسبي مبالَغ فيه، وأنه حتى لو كان حقيقياً، فإنه غير كافٍ، بسبب خطرين عظيمين محدقين بالغابات، أولهما هو التبدّل المناخي، الذي يُتوقّع أن يعيد رسم خريطة النظام البيئي في الغابات. فغابات المنطقة دون القطبية سوف تتقلّص نحو الشمال مع ذوبان الثلوج، وتعاظم «التسميد الكربوني». وفي تقدير ما، يمكن لغابات فنلندا أن تنمو بوتيرة أسرع %44 نتيجة لذلك التسميد. لكن هذا ليس مدعاة للاحتفال، لأن ذوبان الثلوج سيطلق مليارات أطنان الميتان، غاز الدفيئة الشديد التأثير في الاحتباس الحراري. وما نكسبه في غابات فنلندا، سنخسر أكثر منه في مناطق أخرى، بسبب زيادة الجفاف، والوعورة، وتزايد الحشرات الضارة والحرائق، وهي جميعاً من أعراض الاحتباس الحراري. فقطع الغابات الذي يسبب اشتداد الحرارة محلياً، يفاقم هذه الأعراض. وقد يجعل كل هذا المساحات التي تغطيها الغابات اليوم غير مناسبة لنموها.
ففي المناطق دون القطبية كثير من الحشرات. وقد تبيّن أن الضرر الذي تلحقه، مع الحرائق، أكبر مما توقّعت الدراسات. فبين سنتي 2000م و2005م، فقدت هذه المناطق 351,000 كيلومتر مربع من الغابات، معظمها بفعل الحشرات والحرائق. ولا تظهر هذه الأرقام في تقارير «الفاو»، لأنها تعدّ من فعل الطبيعة لا الإنسان. لكن التمييز هنا يبدو غير واضح. وكندا التي تعد صاحبة ثالث أكبر مساحة من الغابات في العالم، فقدت في السنوات الخمس المذكورة، إذا استثنينا من الحساب جهودها لإعادة التشجير، %5.2 من غاباتها. كان ذلك جزئياً بسبب وباء حشرات في القطاعات المعتدلة من المناطق القطبية. وقد اكتسحت هذه الحشرات، بوبائها، سنة 2009م، أكثر من 16 مليون هكتار، من غابة كندا الصنوبرية.
ويبدو الوضع في الأمازون أيضاً خطيراً. فالدراسات الأخيرة توحي بأن ارتفاع الحرارة والجفاف والحرائق وقطع الشجر، قد تصل بالغابة المطيرة بأسرع كثيراً مما كان يُظَنّ، إلى حافة «التحوّل الخطر» الذي تصبح معه غير قابلة للعيش. حتى الآن قُطع من الغابة في الأمازون %18 من مساحتها. وتشير دراسة للبنك الدولي السنة الماضية، إلى أن فقدان %2 أخرى من مساحة غابة الأمازون، قد يطلق مساراً يتوسّع فيه الجفاف النسبي في الجنوب والجنوب الشرقي. وقد يقلص احتمال ارتفاع الحرارة من الآن حتى نهاية هذا القرن، الغابة المطيرة إلى نصفها. ويعني هذا إطلاق نسبة كبيرة من الخمسين جيغاطن من الكربون الذي تحتبسه الغابة، على وجه التقدير، أي 10 سنوات مما يمكن أن يبثه حرق الوقود الأحفوري.
أفواه جائعة
الخطر الثاني المحدق بالغابات، خطر بشري. فتعداد البشر سيزداد، وفق التوقعات، بنسبة النصف، في العقود الأربعة المقبلة، ليبلغ 9 مليارات نسمة. ومعظم الزيادة في الأفواه الجوعى، وهي 3 مليارات نسمة، ستكون في البلدان النامية، ولا سيما المدارية. فشعب الكونغو البالغ اليوم 70 مليوناً، سيبلغ الضعف. وسيتضاعف إذن طلب الغذاء في هذه البلدان. ولما كانت الإنتاجية الزراعية فيها منخفضة، فإن الوضع سيؤدي إلى إقبال على قطع الأشجار لزراعة الأرض.
وقطع الأشجار في بلدان وسط إفريقيا، كما في الكونغو، محدود الآن. والحافز الأول له هو اقتطاع أرض زراعية، واستخدام الخشب وقوداً. فليس في الكونغو زراعة تجارية واسعة، نظراً إلى سوء حال البنى التحتية التي دمرتها الحرب. والحق أن تهالك حال الطرق التي خلفها البلجيك في البلاد سنة 1960م، وهي نحو 100,000 كيلومتر، ينبغي أن يدخل في باب «رب ضارة نافعة». فهو حمى الغابات، مثلما حماها طاعون القرون الوسطى في أوروبا (1348- 1350م).
أما الحال في البلدان الإفريقية الأخرى، وغيرها من البلدان ذات الغابات، فمختلفة. ذلك أن معظم قطع الأشجار في تلك البلدان، هو نتيجة توسّع المزارع التجارية، على حساب الغابة، توسّعا متعاظماً كالصاروخ، من جرّاء زيادة طلب الغذاء المحلي والعالمي، والإقبال على الألياف والوقود البيولوجي. ففي إندونيسيا، الحافز الأول لقطع الأشجار، هو اشتداد الطلب على زيت النخيل، المصدر الممتاز لزيت الطعام، وللوقود البيولوجي على السواء. وبين سنتي 2000 و2006م، زرعت إندونيسيا كل سنة نحو نصف مليون هكتار من الأراضي، شجر نخيل. وكان معظم هذه الزراعة في أرض غابات مقطوعة الشجر. أما قطع الشجر في البرازيل، ومعظمه غير شرعي الآن، فللمراعي. إذ نمت قطعان منطقة الأمازون، في العقدين الماضيين، حتى وصل عددها إلى نحو 40 مليون رأس. وقد أدى النمو الهائل في البرازيل في زراعة نبتة زيت أخرى، هي الصويا، إلى تدمير حقيقي لسافانا تشيرادو، وهي مناطق لا يُنظر إليها بصفتها غابات، على الرغم من أنها تحتوي على ثلثي مقدار الكربون الذي تضمه غابة الأمازون المطيرة. وإلى الشمال من هذه المنطقة يتوغل مزارعو الصويا شيئاً فشيئاً في غابة الأمازون.
لقد أدت التوقّعات غير المشجعة عن المناخ، وتضخم أسعار الغذاء أخيراً، إلى تعاظم المخاوف في شأن الأمن الغذائي، على نحو زاد الضغط. فالحكومات والمستثمرون الأجانب يتطلعون أكثر فأكثر إلى شراء الأراضي المدارية الرخيصة الغنية بالماء. فالصين مثلاً، التي وافقت على تعبيد 6,000 كيلومتر من الطرق أو إعادة تأهيلها، ترغب في زراعة النخيل هناك على نطاق واسع. لأنها حالياً المستورد الأول في العالم لزيت النخيل، ولا يكف الطلب عن الازدياد، حتى قبل أن يتعاظم تحويل هذا الزيت إلى وقود بيولوجي. وحيثما يتعاظم الإقبال على الزراعة المدارية يزداد قطع الشجر. والحصول على رخصة لقطع غابة صار في الغالب، أسهل من الحصول على غير ذلك من رخص الأعمال.
أين هي الآمال؟
وبعد كل ما سبق، هل يمكن للغابات أن تبقى، ولا سيما الغابات الاستوائية، وهي الأنفس والأشد تعرضاً للخطر؟ ثمة حكومات اليوم تنظم دفاعاً واسع النطاق. ويعمل في هذا أيضاً جمعيات أهلية وعلماء، وحتى مستثمرون، تتقدمهم منظمة تدعى: «رد» منظمة تقليص بث الغازات بفعل قطع الغابات والإساءة إليها (Reduced Emissions from Deforestation and Forest Degradation REDD) وهي منظمة نشأت برأس مال يبلغ 4,5 مليارات دولار أمريكي، وفكرتها الأساسية هي العمل لحض الدول الغنية على دفع الدول الفقيرة، للامتناع عن قطع الشجر. وثمة خشية من أن «رد» قد لا تؤتي الثمار المنشودة منها.
إن حاجة الأرض إلى الغابات لتمتص ما يُبث من كربون هي حاجة لا حدود لها تقريباً. ويجب أن ننظر إلى حماية ما بقي لنا من غابات على أنها هدف متواضع. ولكن حتى هذا الهدف يتطلب جهوداً هائلة لتحسين إدارة الغابات، مثل إصلاح تسجيل الأراضي، والتشدد بتطبيق القوانين. وقبل كل شيء، يتطلب الأمر أن تقدّر الحكومات الغابات أكثر كثيراً مما تفعل الآن. وإلا، فلا أمل في الإصلاحات التي تُعتمَد خارج نطاق معالجة الغابات. ولا بد كذلك من أن يأخذ الساسة على محمل الجد مسألة التبدل المناخي. وكل هذا يعني ثورة، وهي ثورة قد نطلب كثيراً بحدوثها. لكن حدوثها غير ممكن، دون معالجة وضع الغابات.
والأمر ليس مستحيلاً، ولا بد من المعالجة، وإلا فإن الثمن سيكون باهظاً جداً.
الغابات في المملكة
نظام بيئي فريد.. لا يزال مهدداً
على الرغم من أن مساحة الغابات في المملكة لا تتجاوز 221 ألف هكتار، أي %0.1 من إجمالي مساحة البلاد البالغة نحو 2.5 مليون كيلومتر مربع، فإن هذه الغابات تمثِّل نظاماً بيئياً فريداً في منطقة الحزام الصحراوي.
تتركز معظم الغابات في المملكة في جنوبها الغربي، على المرتفعات الشرقية من جبال السروات ما بين الطائف شمالاً وجبال جازان جنوباً. في حين تنتشر غابات أخرى أصغر مساحة ولكنها أقل شأناً من أشجار المانجروف على الساحل ما بين ضبا شمالاً وحتى حدود اليمن.
يشكِّل شجر العرعر الإفريقي نحو %90 من الغطاء النباتي في الغابات الجنوبية (وثمة دراسات تؤكد أن شجر العرعر ظهر أولاً في بلاد الحجاز، ومنها انتقل إلى إثيوبيا ثم إلى بلدان عديدة في شرق إفريقيا). ويلي العرعر الإفريقي في تلك الغابات الزيتون البري وبعض الأكاسيات على المرتفعات، في حين تنتشر في الأودية أشجار السدر والإثل وبعض الأكاسيات.
وإضافة إلى عوائدها الاقتصادية والبيئية، تمثل هذه الغابات موطناً لحيوانات ثديية كبيرة، مثل البابون والذئب والثعلب والضبع المخطط والنمس أبيض الذنب والوشق والوبر.
وواجهت الغابات في المملكة خلال القرن الماضي ما واجهته الغابات في معظم أنحاء العالم من قطع واعتداءات وتدمير. فالغابات الجبلية خسرت كثيراً من غطائها النباتي بفعل الاحتطاب للبناء والتدفئة وصناعة المفروشات والتمدد العمراني الذي تم في حيِّز ملحوظ منه على حساب الغابات. إضافة إلى الرعي الجائر والعشوائي والحرائق. أما غابات المانجروف الساحلية فقد خسرت مساحات كبيرة منها وتدهورت نوعية أشجارها في مواقع عديدة بفعل تلوث مياه الشاطئ في بعض الأماكن وأعمال الردم البحرية في مواضع أخرى من جملة أسباب عديدة.
مساعي الإنقاذ
بدءاً من ثمانينيات القرن الميلادي الماضي، بدأ الاهتمام بالحفاظ على الغابات يتعاظم على كافة المستويات الحكومية والعلمية. فبدأت الدراسات العلمية لهذه الغابات في جامعة الملك سعود بالرياض منذ عام 1980م، وأنشئت «الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها» عام 1986م.
وأولت الدولة الغابات والمراعي الاهتمام اللازم من خلال عدد من الأوامر السامية والتشريعات والقوانين، منها:
• نظام الغابات والمراعي الصادر بقرار من مجلس الوزراء والمتوج بالمرسوم الملكي الكريم عام 1398هـ.
• وضع اللائحة التنفيذية لقانون الغابات والمراعي من قبل وزارة الزراعة والمياه عام 1399ه.
• وضع لائحة ضبط المخالفات لنظام الغابات والمراعي من قبل وزارة الزراعة والمياه ووزارة الداخلية.
ولاحقاً، صدرت أوامر سامية تُكمل تطبيق قانون الغابات والمراعي، ومنها الأمر السامي بالمحافظة على الغابات وعدم تمكين أي كان من استخراج حجج استحكام عليها عام 1405هـ، والأمر السامي بتشكيل لجنة من وزارة الداخلية ووزارة الزراعة والمياه تكون مهمتها تحديد الأماكن التي تبقى كمراعٍ، والأراضي التي يتم توزيعها كمزارع ولا تضر بالمراعي في جميع مناطق المملكة.
ومن جملة ما نص عليه نظام الغابات والمراعي:
• عدم جواز قطع الأشجار أو الشجيرات أو الإضرار بموارد الغابات والمراعي أياً كانت.
• عدم استثمار أي من موجودات الغابات والمراعي وأراضيها دون تصاريح من وزارة الزراعة والمياه.
• عدم نقل أي من منتجات أراضي الغابات والمراعي بدون تصاريح.
كما شمل النظام العقوبات التي تُفرض على المخالفين. وعلى الرغم من أن هذه التشريعات والقوانين، المصحوبة باهتمام علمي جاء من أكثر من جهة، يُفترض فيها أن تبعث على الاطمئنان إلى مستقبل الغابات في المملكة. فإن الواقع يُبقيها في دائرة التهديد.
وللاطلاع على التفاصيل، يمكن للقارئ أن يعود إلى الدراسة القيِّمة التي كانت مرجعنا في هذه النبذة، ووضعها كل من الدكتور إبراهيم محمد عارف والدكتور لطفي إبراهيم الجهني من قسم الإنتاج النباتي بكلية الزراعة في جامعة الملك سعود بعنوان «ماضي وحاضر الغابات الطبيعية والصناعية في المملكة العربية السعودية»، على الموقع الإلكتروني: faculty.ksu.edu.sa.