قول في مقال

…إلى التراث

نعود

DLS_3206في محاولة تفسيره لعدم نجاح صناعة السيارات اليابانية في المحافظة على حصة كبيرة وثابتة في فئة السيارات الفاخرة، وعودة الغلبة للسيارات الأوروبية والألمانية منها بنوع خاص، قال السيد تويودا مدير مجموعة تويوتا، كلمة موجزة, مفادها أن لتلك الماركات تراثاً طويلاً.

فالذين كانوا على دراية بصناعة السيارات خلال العقود الماضية ويعرفون السيارات «التي لها تراث»، فوجئوا بذاك الظهور المفاجئ والمبهر للسيارات اليابانية التي دخلت السوق متحدّية المتربعين باعتزاز على سدة الفئة الأولى. وحين لاقت هذه السيارات إقبالاً واسعاً من جهة، سلّم البعض بهذه الغلبة أمام حقيقة أن هذه السيارات الجديدة تميّزت بتفوّق تكنولوجي وبكثير من المزايا. بينما استمر البعض في التشكيك بدوام هذا النجاح، لأن في أعماق أنفسهم كانت هناك هذه القناعة بأن السيارات الأخرى لديها تراث. ولا شك أن مَنْ يسمع قولهم هذا سيهزّ رأسه مبتسماً بالموافقة!

وما حدث في سوق السيارات حدث ما يشبهه في سوق الساعات أيضاً. فعندما غزت الساعات اليابانية سوق الساعات طاردة منها أسماء كبيرة راسخة، شاعت قناعة بأن زعيمة صناعة الساعات التاريخية سويسرا على أفول. وعلى الرغم من أن الساعات اليابانية، كما السيارات، احتفظت بالغلبة في سوق الساعات المتوسّطة، إلا أن الماركات السويسرية عادت واستعادت ليس فقط جزءاً كبيراً من السوق التي كانت لها بالكامل، بل أيضاً بريق الزعامة وسمعة الجودة والأناقة.

ولربما نشاهد نحن الآن منتجات قد تكسر القاعدة: الكمبيوتر والجوّال وتوابعهما. إنها منتجات لا يضاهي عمرها عمر السيارة أو الساعة. فقد تزامن الانتشار الواسع للجوال، الذي احتلت شركة فنلندية، غير معروفة سابقاً، الريادة والحصة الكبرى لسوقه، مع طرح أول سيارة يابانية فاخرة معزَّزة بمزايا تكنولوجية متفوقة لتنافس سيارات الفئة الأولى الأوروبية. وقد مضى على ذلك الآن حوالي ربع قرن من الزمن. لكن مصنّعة الجوّال الرائدة لم تحمها ريادتها ولا التراث الحقيقي الذي كوّنته أمام الابتكارات التكنولوجية للجوّالات الذكية. على الأقل حتى إشعار آخر. ولا حتى الجوّالات الذكية من بلاد ابتكار الكمبيوتر، استطاعت أن تبقى الأولى وتحافظ على الصدارة في المبيعات، إذ بالشركة الكورية تخترق المجال وتفوز بالحصة الكبرى.

ماذا يجعل لمنتج ما تراثاً؟ يمكننا أن نبدأ التعريف بالقول إن التراث هو بالتأكيد أكثر من سمعة. السمعة ظرفية. قد تثبت صحّتها أم لا. أما إذا ثبتت، مرة تلو مرة، حينذاك يبدأ يتكوّن للمنتج تراث. وعلى مر السنين، تترسّخ هذه السمعة في كون المنتج يتمتع بمزايا مثل متانة الصنع، وجودة المواد المستخدمة فيه، وكونه قليل الأعطال، بل إنه كمنتج متكامل فإنه يحمل موثوقية تفوق تفاصيله وتجعله موضع إعجاب وثقة… تظهر في الكل كما تظهر في الأجزاء.

وما يعزز هذه السمعة ليس فقط المستخدم النهائي أو المستهلك، بل كذلك التقنيون والذين يتولون أعمال الصيانة والإصلاح. كذلك مما يعود ويعزِّز هذا الانطباع الذي ترسّخ عبر السنين التجديدات والإضافات التي يُدخلها المصنِّع إلى المنتج. وهذه التجديدات تحسِّن وتسهّل الاستخدام من جهة، لكنها أيضاً تؤكد لنا كمستهلكين تكوَّن لديهم ذاك الولاء، أن أصحاب الصناعة ساهرين عليها وعلى جودتها وتطويرها. وبالطبع كثيراً ما تتكلل هذه الصورة الراسخة، بأن يرى الناس أن من يستخدمون المنتج إياه هم بدورهم أصحاب مكانة وحسن اختيار.. ومع مرور الزمن يصبح المنتج مطبوعاً بمكانة اجتماعية.

لكن من أين يأتي «التراث» هذا، وكيف يتدخل لينقذ صناعة مهددة بالانقراض؟ لا شك أنه يأتي من حيث أتى في البداية، من تطوّر فكري وطني شامل، ترعرع في أروقة العلم والمعرفة، داخل الجامعات وخارجها. ويأتي من سلسلة قيم في العمل مثل حب الإجادة والإتقان. ويأتي من ثقة عميقة وراسخة بالإرادة الإنسانية التي اختارت السعي الذي لا يمل ولا يكل، للمحافظة على مستوى الأداء وتجاوزه. ويأتي من حس مرهف بكيف يكون المنتج أكثر تجاوباً مع حاجة المستخدم وراحته وسلامته واستمتاعه. ويأتي من قناعة قويّة بأن هناك دائماً فرصة لاكتشاف تجديد في المنتج يساعد في حملة استعادته لسمعته. ويشمل هذا كله نظرة إلى الشكل كما إلى المضمون. فالمنتجات التي لها تراث هي ككل لا يتجزّأ. وبالطبع، نادراً ما يكون هذا التراث لشركة واحدة أو لمنتج واحد، بقدر ما يتصل بمسيرة حضارية تتجاوز حتى دولة أو منطقة في دولة. وإذا ما حافظ بلد على هذه الخصائص والميزات من القيم والرؤى يستطيع أن يستنهضها لتعيد صياغة كل ملامح صناعاته المهدَّدة، التي تأخذ منها الدفعة المطلوبة لكي تستعيد مكانتها.

هكذا يفعل التراث، الذي به يبدأ التفوّق وإليه يعود..

أضف تعليق

التعليقات