عين وعدسة

متحف «الصندوق الأخضر»

سفارة الفن السعودي المعاصر في هولندا

001.THE-GREEN-BOX-MUSEUM--PH.GJ.vanROOIJفي أحد شوارع العاصمة الهولندية أمستردام، وفي الدور الخامس من أحد الأبنية، يوجد متحف صغير يختلف كل الاختلاف عما يمكن توقعه. إنه متحف خاص بالفن السعودي المعاصر، أُنشئ بمبادرة فردية، ليشكِّل ظاهرة لافتة للنظر حتى حدود الحيرة، ويستثير عدداً من الأسئلة ويلقى الإعجاب.
إن كان إنشاء متحف للفن السعودي المعاصر في أية بلاد أجنبية حدثاً يستدعي التوقف أمامه، وأن تكون هذه البلاد هولندا بالذات، فإن هذا يضاعف من أهميته، ويفرض قراءة هذا المتحف انطلاقاً من موقعه هذا.

الهولنديون يزاحمون الإيطاليين والفرنسيين كذوَّاقة فنون من الطراز الأرفع. إذ إن البلاد الواطئة تزعَّمت الفنون التشكيلية (إلى جانب إيطاليا، وربما أكثر منها ومن فرنسا لبعض الوقت) منذ عصر النهضة قبل ستة قرون وحتى اليوم. فهي البلاد التي اخترعت الألوان الزيتية للرسم، وهي بلاد مئات العمالقة من يان فان إيك في القرن الخامس عشر وحتى موندريان في القرن العشرين مروراً بفان دايك وفان غوخ. وفي عاصمتها أمستردام نحو 50 متحفاً، أما في البلاد بأسرها فقد يصل عدد المتاحف إلى الألف غالبيتها الساحقة وطنية ومحلية الهوية. وها هو متحف جديد يضاف إليها، أسماه صاحبه «غرينبوكس» (ترجمتها الحرفية: الصندوق الأخضر)، وخصصه للفن السعودي المعاصر.

مؤسس هذا المتحف وصاحبه هو مثقف وذواقة هولندي يُدعى أرنوت هلب، جمع خلال السنوات الماضية عدداً من الأعمال الفنية السعودية المعاصرة، واستأجر المساحة اللازمة لعرضها، ليطلق متحفاً فريداً من نوعه وفي هويته في هولندا وأوروبا بأسرها.

Canvas 7 (15)في المتحف
المتحف ليس ضخماً. وهو أقرب إلى المتاحف الخاصة التي كان كبار الهواة الأوروبيين ينشؤونها في قصورهم قبل القرن الثامن عشر، ويسمونها «خزانة اللوحات» أو «خزانة الرسم». إذ أن المتاحف الكبرى لم تنشأ إلا بعد ذلك على أيدي الحكومات وبدعمها.

فضمن مساحة لا تتجاوز الثمانين متراً مربعاً، وعلى جدران ذات لون أخضر فاتح، وتحت إضاءة ممتازة، يعرض هذا المتحف نحو 35 عملاً من أصل المجموعة التي يمتلكها صاحبه والتي تضم نحو 80 عملاً، لأسماء معروفة جيداً على الساحة السعودية وتشمل على سبيل المثال: عبدالناصر غارم، ريم الفيصل، أحمد ماطر، ناصر السالم، سارة أبو عبدالله، مها ملّوح، عبدالله العثمان وغيرهم..

Canvas 7وقبل التوقف أمام هذه الأعمال، لا بد من طرح التساؤل العام حول المفهوم الذي قام عليه هذا المتحف. وفي هذا الصدد يقول السيد هلب: «في البدء لم يكن هناك أي مفهوم محدد. فالمصممون مثلاً يحتاجون إلى مفاهيم للإجابة عن أسئلة قد تُطرح عليهم. أما الفنانون فقد يبدأون بسحب الخيط من ثقب أسود. والمتحف بدأ بشكل أو بآخر هكذا. في البدء كانت هناك خطوات وأفكار صائبة حيناً وخاطئة حيناً. فمعظم المرحلة التأسيسية كانت قائمة على الحدس… إذ إن التحدي يكمن في زيارة الأشياء القديمة والتطلع إليها تحت ضوء مختلف، ومن ثم إعادة صُنعها مجدداً. فهذا المتحف هو متحف «عودة إلى الأسس». إنه متحف أقامه فضول شخص واحد تربطه بالعالم علاقة غير نمطية، متحف كما كانت المتاحف الأوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر».

002 THE GREEN BOX MUSEUMولماذا السعودية والفن السعودي دون غيره؟
يقول صاحب المتحف: «إن أول ما قُمت به لم يكن زيارة دبي. وقلت ممازحاً أحد الرسَّامين السعوديين إنني سأسافر لمشاهدة «آرت دبي» (سوق الفن في دبي)، بعد أن أكون قد شاهدت «آرت المدينة». فلماذا المملكة العربية السعودية؟ لأنني أعتقد أن التصنيفات الجغرافية لم تعد معبِّرة. وليست الحدود الجغرافية للمملكة هي التي تثير اهتمامي، بل فضاؤها الشاسع، وعقول المسلمين، حيث تحضر دائماً مكة المكرمة كمدينة أساس ومحور للمرجعيات.. هذا هو الفضاء الذي يعمل فيه المتحف. ووجوده في هولندا هو صدفة تعود إلى أن بعض جذوري هي إندونيسية، وأذكر أن أحد المثقفين هناك كان يردِّد دائماً أن العقول تتلاقى في الحجاز وليس في ميدان المعركة».

003 THE GREEN BOXويضيف في فكرة عميقة تتناول جوهر التبادل ونقل المعارف: «إن نقل الجنود وشكسبير إلى كابول والعراق ومالي كما تعتقد حكومة بلادي بضرورته، لا يحمل أي معنى بالنسبة إليَّ على المدى الطويل. فنقل الأشياء من مكان إلى آخر هو ما تقوم به منظمات غير حكومية عديدة. ونقل الفن السعودي إلى هولندا ليس هو ما يقوم به هذا المتحف. فالهدف منه هو الإصغاء واستخراج أفضل ما في الناس المهتمين بالمشاركة. ولهذا فإن هذا المكان هو ملك الفنانين أحمد وعبدالناصر وريم ولولوة وأيمن وسامي وسارة ومساعد وغيرهم ممن ستأتي أعمالهم لاحقاً».

ولأن الأعمال المعروضة في هذا المتحف تبدو مختارة بعناية، وسبق لبعضها أن حظي بوصف مسهب في الصحافة السعودية، طرحنا على صاحب المتحف سؤالاً عن المقاييس المعتمدة في انتقاء هذه الأعمال، أو منهجه في ذلك. فجاءت بداية جوابه وكأنها مشتقة من الثقافة السعودية، إذ قال: لدينا تقنية تجعل الزيت الخفيف يطفو على سطح الزيت الخام. إن المسار يكاد أن يكون لغزاً ويحيِّرني. ولو كان لدي جواباً أوضح عن هذا السؤال لسجَّلت براءة اختراعه باسمي.. كيف يختار الشعراء الأبيات التي يضعونها على الورق؟

002 THE GREEN BOX MUSEUMزوَّار هذا المتحف ومستقبله
المفاجأة الكبرى التي تنتظر كل من يتصفَّح صفحة هذا المتحف على «فايسبوك» هي في عدد المعجبين به الذين منحوه «لايك» وفاق عددهم المليون وتسعين ألفاً، الأمر الذي يضعه في مرتبة متقدمة حتى عن بعض المتاحف الموسيقية الكبرى. ولكن ماذا عن زواره فعلاً؟

الأرقام ليست كبيرة. فصاحبه يتوقع استقبال ما بين 500 وألف شخص خلال العام الجاري. وفي هذا الصدد يقول: «إن نوعية الزوار هي المهمة. فشهرة المتحف تعود إلى ما يتبادله الناس شفهياً من فرد إلى آخر. وإلى بعض المقالات الصحافية التي تظهر بين الحين والآخر. فمن زوَّارنا على سبيل المثال قبل أيام، كانت هناك عائلة هولندية من 30 شخصاً، قررت تمضية يوم ثقافي في أمستردام، وأحد أفرادها وهو طالب يتخصص في العلاقات الدولية كان قد سبق له المجيء إلى هنا. وكالعادة فوجئ معظمهم بالأعمال المعروضة، وبدا عليهم الاهتمام والاستثارة الثقافية.

ورداً على سؤال حول ما إذا كان هذا المتحف يحظى بدعم أو رعاية حكومية أو من أية جهة أخرى أجاب: «إن %99 من تكلفة هذا المتحف مموَّلة مني شخصياً، و%1 فقط من رسوم الدخول. إن هذا المتحف لا يستطيع المنافسة المالية في أمستردام بموازاة كل تلك النشاطات الثقافية الممولة والمدعومة وفقاً لحظوظها فقط.

وحول مستقبل هذا المتحف يقول إنه حالياً في صدد إجراء مباحثات مع بعض المتاحف التقليدية لدمج متحف «غرينبوكس» فيها، كمجموعة متخصصة للأبحاث ضمن فضائها. وبهذه الطريقة، سيتمكن عدد أكبر من الناس من الاطلاع عليها، على الرغم من أنها لن تكون معروضة باستمرار.greenbox

أما على المستوى البعيد (25 عاماً)، فيخطط السيد أرنوت هلب لمنح نصف مجموعته، والمتحف نفسه، إلى مؤسسة أكبر ودائمة، وأن يعيد طرح نصف المجموعة في السوق لتعويض بعض ما تكبده على إنشائها. ويختتم حديثه قائلاً: «لقد بقيت بعيداً عن الحكومة وبعض الوكالات والصناديق الأخرى، لأن معظمها يعمل وفق قوانين وشروط لا أرغب في قبولها، ولا أجدها مناسبة للعلاقة التي تربط هذا المتحف بالمملكة العربية السعودية، وتتعلق بالفن فقط.

أضف تعليق

التعليقات