أدب وفنون

نحو خارطة طريق ثقافية عربية

Q-Vector-10ماذا لو استيقظ المواطن العربي البسيط ذات يوم على نبأ في وسائل الإعلام مفاده أن وزارة الثقافة في بلده قد اختفت فجأة؟ ترى: هل سيخرج المواطنون يبحثون عن وزارة الثقافة؟ هل ستندلع المظاهرات غاضبة ومستنكرة ماحدث؟ أغلب الظن أن شيئاً من هذا لن يحدث. بل ربما نادي البعض بضرورة التوقف عن البحث ضغطاً للنفقات.
وبعد شهر من اختفاء وزارة الثقافة. سؤال ضروري: هل طرأ على حياة المواطن البسيط أى تغيير؟ هل أصبح أكثر تعاسة مثلاً؟ هل افتقد شيئاً ما؟ أغلب الظن أن شيئاً من هذا لن يحدث كذلك.
ماهي إذن مشكلة الثقافة في بلادنا العربية؟

shutterstock_70174066تكمن المشكلة في مفهوم الثقافة المطبق لدينا، وهو مفهوم الثقافة النخبوية الذي يقتصر على الفنون الجميلة والتطبيقية وفنون الأداء …إلخ. وهذا مفهوم يجب أن يتطور أو تتغير أولويات السياسة الثقافية لتضع متطلبات الشعوب في المقدمة. فنحن بحاجة لمفهوم يساعد الفقراء وغير المتعلمين والحرفيين، مفهوم يراعي موروثاتنا الثقافية وبيئتها الشفهية في نشر الثقافة، أى أننا في حاجة للمفهوم الأنثروبولوجي للثقافة. الذي يركِّز في العمل الثقافي على الإنسان الفرد والجماعة المحددة ذات الهوية الثقافية المشتركة، ويٌعنى بالأساس بتنمية سلوك الفرد والجماعة في العمل والحياة المعاشة انطلاقاً من أن الثقافة تجسد مدى انعكاس مايؤمن به الفرد من حزمة قيم ومفاهيم ومعارف إيجابية في سلوكه وتعاملاته على المستوى الشخصي والمستوى الاحترافي في العمل.

أما التوجه النخبوي فيهتم في المقام الأول بالمنتج الثقافي (الكتاب، الفِلم، المسرحية…إلخ) انطلاقاً من أن المنتج الثقافي هو الذي يغير الأفراد الذين يختارونه  أو يشترونه وهم في المعتاد نسبة ضئيلة.

Printسلبيات اقتصاد العمل الثقافي على المفهوم النخبوي
أولاً: الابتعاد عن الشعب.
ثانياً: عدم قابلية نتائجه للقياس بشكل عملي (فنحن لانستطيع أن نقيس تأثير عروض فنية مثلاً على مَنْ حضروها إلا بدراسات مطولة وعلى عينات صغيرة). أما ما يحققه من نتائج بالفعل فإنها تعكس عدم التناسب الهائل بين حجم الاستثمارات والعائد من ورائها في شعوب يعاني أغلبها من فقر مدقع، وهو ما يجعل فرص تمويله ضعيفة محلياً ودولياً.
ثالثاً: عدم توفيق النخب الثقافية في تقديم رؤية مقنعة لنا عن العالم من حولنا، في الوقت الذي تعتمد فيه رؤية أنصار الفكر المتطرف والتدين السطحي بالأساس على «العالم البديل» وهو عالم وهمي ماضوىّ، وينهض أصلاً على نفي العالم الحقيقي، إما نفياً لوجوده أو نفياً لقيمته وبالتالي فلدينا عقول كثيرة غير جاهزة للتعامل مع عالم اليوم ولا مع نفسها.

إيجابيات المفهوم
الأنثروبولوجي للثقافة
على النقيض من المفهوم النخبوي فإن إدارة العمل الثقافي بالمفهوم الأنثروبولوجي تتسم بقابلية كافة أعمالها للقياس من حيث النجاح وقوة التأثير لأنها تكون عبارة عن مشروعات لها أهداف محددة وتظهر نتائجها مباشرة على الأفراد، بما يعكس مفاهيمهم الثقافية وقيمهم ومعتقداتهم الإيجابية.

shutterstock_133351625أما الميزة العملية الأساسية فإنها تكمن في تعديل دور المؤسسة المسؤولة، كوزارة الثقافة، حيث سيقتصر على التوجيه العملي والرقابة والوساطة الثقافية مع الجهات الداعمة. وبذلك تحل مشكلة البطء الشديد في التحولات الثقافية الملموسة في المجتمع، لأن المنفِّذ هو المستفيد، وستتحول قطاعات كبيرة من الشعب إلى جهات منتجة للثقافة لا مستهلكة لها فقط.

كما أننا بهذا المفهوم سوف نتيح الفرصة لمؤسسات المجتمع المدني والشركات عابرة القارات ذات المسؤولية الاجتماعية لتطرح برامج تطويرية لقطاعات ضخمة وتفتح المجال لإطلاق طاقات العمل المنتج بها.

وهناك عديد من النماذج التي يمكن تكوينها لتطبق على كل فئات المجتمع التي أغفلتها الأنظمة المتعاقبة، أوتقريباً استثنتها من نطاق العمل الثقافي من البداية، مثل الفلاحين وطلاب المدارس الفنية والصناعية والعاملين متوسطي أو عديمي التعليم في مجال السياحة والفنادق وغير ذلك. فالثقافة التي تهم الفلاح من هذا المنظور هي معرفته بما يلوث البيئة في منظومة عمله وإنتاجه والأساليب التي يمكنه اتباعها نحو تطوير وسائل عمل وأساليب معيشية له ولأسرته، تساعده على إعادة تدوير المخلفات والنفايات بشكل أفضل وكيفية تحقيق كسب مادي من وراء ذلك. وفي السياحة مثلاً تطوير أساليب التعامل مع السياح والارتقاء بها بعد أن بلغت في مصر على سبيل المثال كبلد سياحي حداً منفراً لدرجة تُقصي مرتاد السياحة المتميز عن زيارة البلاد وتهبط بالصورة الذهنية للشعب المصري أكثر كثيراً مما تتسبب فيه عوامل مباشرة مثل الإرهاب والاضطرابات السياسية.

Printكما يتميز هذا التوجه بأنه أكثر مرونة في انتقاء أفراده، حيث يخاطب مجتمعات بكاملها، وفق تكوين هذه المجتمعات واحتياجاتها ونقاط قوتها. علاوة على أن دوراته أسرع، ولا يتطلب حداً أدنى من المعرفة أو التعليم النظامي للفرد ليبدأ التدريب، وبالتالي فإنه لايستثني أحداً في المجتمع. وعلينا ألا ننسى أن نسبة الأمية مرتفعة للغاية في العالم العربي، ولو أن هذا الكم الكبير من البشر قد ضاع حظه في التعليم مرة وسقط من اعتبارات العمل الثقافي والتثقيفي مرة أخرى لأنه فقد حظه في التعليم فسنجد أنفسنا أمام جريمة ضد الإنسانية ومسؤولية تاريخية تجاه شعوب تتساقط تباعاً وبتسارع مذهل في هوة سحيقة من التخلف، تجاوزتها البشرية المتحضرة منذ قرون طويلة.

يتضح لنا هنا أن هذا المفهوم لايهتم بالمعارف والمعلومات النظرية التي يتم حفظها في وعاء الذاكرة فقط، ولكنه يهتم بالمفاهيم التطبيقية التي تعود على المواطنين بما يدعمهم مباشرة في حياتهم اليومية والمهنية.

Printبين الثقافة والتعليم
وحتى لا يتم الخلط بين أهداف العمل التعليمي والعمل الثقافي لا بد من توضيح أن الهدف الرئيس من التعليم هو تكوين منظومة معرفية تتميز بالتوحيد القياسي والمساواة المعرفية قدر المستطاع. وبالتالي، فهي قادرة على إنتاج النمط الإيجابي المطلوب لنمو المجتمع في متطلباته النمطية (من زراعة وصناعة وتجارة وخدمات…إلخ). أما الثقافة بالمفهوم الإنثروبولوجي فتكتسب أهميتها من التنوع الطبيعي للحياة الإنسانية والذي تفرضه إلى حد كبير الجغرافيا الثقافية والملابسات التاريخية للإقليم أو المنطقة المعنية، وعلاقة ذلك بالإطار الأعم كعلاقة أخلاقيات مهنة الفلاحة بثقافة البيئة الصحية وأخلاقيات مهن السياحة بالتواصل مع الثقافات الأخرى والمردود الإيجابي في كليهما من جراء السلوك الثقافي السليم.

ويصبح دور الجهاز التعليمي هنا هو إتاحة قنواته للتعاون مع المؤسسة الثقافية المعنية، التي تعنى من ناحيتها بإصدار حزمة وسائط تعليمية حديثة وكتب وميديا ترافق المنهج التعليمي النظامي في المرحلة الإلزامية، وتختلف باختلاف المحافظة المعنية من حيث التاريخ والجغرافيا والعادات والتقاليد والثقافة السائدة بالإقليم.. ويكون هذا المحتوى الثقافي جزءاً لايتجزأ من المحتوى التعليمي. وبهذا تسير المنظومتان جنباً إلى جنب: منظومة التوحيد المعرفي والمهاري القياسي (التعليم) ومنظومة التنوع الحضاري (الثقافة). فتكون الأولى لبناء الإنسان العربي وهويته العامة، والثانية لبناء شخصيته ومهاراته العملية وهويته الشخصية. ولا شك في أن المؤسسات والشركات الكبري بالوطن العربي سيسعدها أن تدعم مثل هذا المشروع التعليمي الثقافي الحيوي.

أولويات مهمة
محو الأمية الثقافية
انطلاقاً من المفهوم الأنثروبولوجي لابد أن يأتي محو الأمية الثقافية وتنمية الوعي لدى ضعيفي التعليم في مرتبة متقدمة على محو أمية القراءة والكتابة، على أهميته البالغة. إذ إننا هنا ننطلق من محددات الثقافة الشفهية التي يعيش فيها مايقرب من نصف الشعوب العربية. علينا أن نركز أولاً على محو الأمية الثقافية. فهي أسرع كثيراً في نتائجها وأكثر فاعلية في الواقع. إذ إنه لا معنى على الإطلاق لمحو أمية الكتابة والقراءة لدى بسطاء الناس مع تركهم غرقى في أمية ثقافية مظلمة.

الضبط الفكري
تنهار القيم مع اختلال المفاهيم واضطراب الفكر. والمتابع لصفحات التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وغيره سيتأكد حتماً من أننا في حاجة ماسة لنتحدث للناس عن البديهيات. الناس في حاجة لضبط فكري لترى بوضوح ماهو ظاهر بذاته للعيان. ومن أهم مزايا التطوير الثقافي هي العمل على ضبط المفاهيم لدى الناس الذي معه ينضبط الفكر بالضرورة. نحن بحاجة كبيرة لإنتاج ميديا توضح للناس كارثية ما يرتكبون كل يوم مع زملائهم بالعمل ومع أسرهم من تصرفات يأتونها بجهالة متناهية، وتوعيتهم بالنهج الحضاري.

حلول ومشاريع مبتكرة
من أهم خصائص المفهوم الأنثروبولوجي للثقافة من الناحية التنفيذية القائمة على فكرة «المشروع» هو وجود منتج نهائى ملموس وأن يعمل الناس معاً شيئا بأنفسهم وألا يقتصر دورهم على التلقى السلبي. هذه فرصة كي تتلاحم الشعوب العربية مع بعضها البعض من خلال المشروعات الثقافية العملية المشتركة. ولنبدأ بمشروعين يمكن اقتراحهما كحل عملى لتحقيق عائدات كبيرة وإيجاد فرص عمل هائلة للشباب فضلاً عن الأثر الثقافي الإيجابي، وهما: «الأيزو الثقافي» و«النحو الجمالي».

shutterstock_163193279الأيزو الثقافي (تطبيقاً على السياحة في مصر)
«الأيزو الثقافي» هو عبارة عن «شهادة رسمية» يستطيع الفرد العامل بشكل مستقل أو المنشأة السياحية الحصول عليها بعد اجتياز مجموعة دورات تدريبية تنويرية وميدانية للتعريف بالثقافات الأخرى والمفاهيم المختلفة التي تحكم التواصل بين الثقافات وكذلك أخلاقيات وثقافة العمل في المجال السياحي بحسب نوع المنشأة. ويعقب هذا ما يفيد باستحقاق المشارك بالدورة بحصوله على شهادة «الأيزو الثقافي». ولضمان إقبال الأفراد والمؤسسات على هذه الشهادة، تتم توصية السياح بالوسائل المختلفة عن طريق المكاتب الثقافية والشركات السياحية بالخارج والكتب الإرشادية السياحية، بتفضيل التعامل مع المنشآت والأفراد الذين يعلقون شهادة «الأيزو الثقافي» على المنشأة من الخارج أو يحملون شارتها على صدورهم. وهكذا ترتبط الثقافة بلقمة العيش. وحده هذا الاقتراح سيقضي على كثير من المشكلات السياحية، بما فيها الاعتداءات التي تحدث حتى داخل منشآت سياحية من فئة خمسة نجوم. لأن «الأيزو الثقافي» لايركز على البنية الأساسية والتجهيزات المكانية للمنشأة، ولكن على السلوك الثقافي للأفراد في التعامل مع الضيف. وبالتالي لا يستثني أية مؤسسة صغرت أم كبرت من التنمية والتطوير الثقافي.

ونظراً لأن المفهوم الإنثروبولوجي للثقافة لا يقتصر هنا على المتعلمين فقط، ولكن ينسحب كذلك على الأميين، فليس التعليم هو المعيار ولكن السلوك الثقافي للفرد، ومن هنا نجد أنه يمثل باباً رحباً يتعامل باحترام مع المجتمع وواقعه بكل نقائصه ويعمل على تنمية الطبيعة الطيبة للمجتمع والتغلب على عيوبه بقدر ماهو متاح من إمكانات.

النحو الجمالي
shutterstock_77771935لقد اختلت مفردات لغة الجمال عندنا وتاهت قواعدها، وصار لزاماً علينا أن نصححها و«ننحو هذا النحو». ولعل من أهم واجبات الثقافة ومؤسساتها هي رعاية الجمال الثقافي بكل أشكاله في الحياة العامة. كالاهتمام بالنسق المعماري المتناغم مع روح التراث الثقافي للمنطقة المعنية. وتُعد المملكة المغربية رائدة في هذا الصدد بكل عبق وروعة وسحر مدنها من مراكش إلى الرباط وفاس وغيرها. حدث هذا لأنهم اهتموا ثقافياً بكل تفصيلة صغيرة من تفاصيل جماليات هذه المدن فصار الجمال واحداً من أهم أسباب إقبال السياح على زيارتها. وهنا تحقق مفهوم إيجابي للثقافة يرعى الهوية ويفتح مجالات عمل وكسب للناس. هذا مجرد مثال ولا أريد أن أسأل هنا عن عدد شركات البناء والتعمير العالمية التي سيسرها أن تشارك في ضبط «النحو الجمالي»، بحيث يعود لبلادنا العربية جمالها المرتبط بهويتها، وتكون الثقافة هي الشريك الأول في هذه المشاريع. فإذا توسعنا ليصير الجمال الثقافي هو صديق العين حيثما تسير القدم، فتصبح ألوان الجدارن والبنايات وإضاءة الميادين وتصميمات واجهات المتاجر مستوحاة من هويتنا العربية باختلاف مشاربها. فنحن نتحدث هنا عن تحقق ثقافي في الشارع وبين الناس. فالجمال الحقيقي لايصنعه البذخ بل تصنعه البساطة وهوية صانعيه.

shutterstock_24853315إن الأزمة الحقيقية في بلادنا العربية هي أزمة ثقافية في المقام الأول. فكما صنع الإنسان الثقافة فإنها تصنعه كذلك. ولو صحت الثقافة صح ماسواها. لأن الأزمة تكون في أوجها حينما تطال الإنسان بسبب أفكار تهدِّد كيانه. ثم تتدرج للمستويات التالية بعد ذلك كالمستوى الاقتصادي والمستوى السياسي. ولكننا قلما نرى المشكلة من هذه الزاوية لأننا نتعامل مع الثقافة حتى الآن على أنها شيء مجرد وقليل الخطورة وليس له أهمية في الحياة اليومية.

لابد أن نعترف بأن الثقافة لا تؤخذ بالجدية الكافية عندنا، بل إننا نصبر على تجريفها صبراً عجيباً، قلما ينتبه له أحد. بالثقافة سيعمل الناس، وتصبح لحياتهم قيمة مادية ومعنوية، وعندما يعمل الناس ويشعرون بقيمتهم وبثراء الجمال من حولهم، فإن حياتهم ستصبح أكثر هدوء واستقراراً. والاستقرار هو أقدم صديق للحضارة.

أضف تعليق

التعليقات

نوريهان

المقال رائع جدًااااااااااااااااااااا

عبدالقادر الجندي

مقال رائع،يلقي الضوء على المفاهيم الحقيقية للثقافة،وأهمية موروثاتنا الثقافية،ودور العادات والتقاليد في تشكيل بيئتنا الثقافية.كما ينبه المقال إلى الأهمية البالغة “للسلوك الثقافي للفرد” في مقابل التعليم

أحمد صلاح

مقال رائع ومعبر عن الواقع الثقافي في عالمنا العربي

Enas Salem

في الحقيقة فكرة الثقافة في حد ذاتها قد ضاعت في مجتماعتنا في وسط الإسفاف والانحدار الثقافي الذي تبثه وسائل الإعلام فلا بد في الأساس أن نهتم بتلك الوسائل وعن طريقها سيتم يث الثقافة للمجتمع