فنان و مكان

جمانة الحسيني والقدس

joumana alhussainiجمانة أيقونة القدس والقدس أيقونة جمانة. دخلت عالم الفن كما تدخل فراشة في حقل زهور. دخلت عالماً تشبهه ويشبهها، عالم مشبَّع بالحلم والانتصار. أعلنت منذ بداياتها انتسابها المطلق للحق وأعلنت أن الحق جمال. حملتها ريشتها وألوانها إلى ملاعب الطفولة، إلى القدس، وأريحا ويافا⊃ مدن وقرى وربوع فلسطين كلها احتشدت في المشهد الذي أفصحت عنه جمانة في أعمالها.

ما يلفت الانتباه في أعمال جمانة الحسيني هو تساوي عناصر الرقة والرهافة كالعصافير والفراشات والزهور وغروب الشمس، مع عناصر القوة والثبات كالأحصنة والنمور والفهود والبيوت والأشجار وشجر الصبار رمز المقاومة والبقاء. أليست كل هذه الكائنات والأشكال هي مكونات الذاكرة الطفولية التي حملتها جمانة معها من ربوع فلسطين، وخصوصاً من مسقط رأسها القدس، إلى المهاجر التي توالت بعد أن أبعدت قسراً عن وطنها الحبيب؟

للقدس كما يتبين من إنتاجها الغزير مكان الصدارة. ليس فقط لأنها من مواليد القدس عام 1932م، بل لأن مدينتها سيدة مدن فلسطين وعروسة مدن الشرق العربي. حاراتها، أزقتها، أسواقها، وسور القدس الجميل الذي يحتضن بجناحيه أزقة وشوارع وبيوت مدينة المحبة والسلام. سور القدس هو السور الوحيد الباقي لمدينة في المشرق العربي. لم تجتمع كل تلك الصفات في مدينة أخرى غير مدينة القدس.

J 5ارتباط أُسري بالمدينة
ترتبط جمانة وعائلتها العريقة لجهة والدها بالمدينة المقدسة منذ القرن الثالث عشر على أقل تقدير. تقلَّد أجدادها أعلى المناصب المدنية والروحية في المدينة. وقاد قريبها مفتي القدس وفلسطين المقاومة ضد الانتداب البريطاني والمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. والدها جمال الحسيني، شغل منصب الأمين العام للجان التنفيذية للحركة الوطنية الفلسطينية وأميناً عاماً للمجلس الإسلامي الأعلى ثم رئيساً للحزب العربي الفلسطيني، وترأس الوفد الفلسطيني إلى لندن سنة 1936م ثم تقلب في مناصب كثيرة أخرى في فلسطين وفي المهجر. أخذت عن والدتها نعمتي العلمي، سليلة العائلة المقدسية العريقة، النفحة الفنية. وتفتخر جمانة برسمة نبتة قرن الغزال التي رسمتها أمها فأطرتها ووضعتها في مكان أثير.

تجذر جمانة في القدس وانتمائها للمكان روحياً وفنياً جعل من القدس أيقونة جمانة الأولى ورأس هرم انتاجها الفني.

أكثر ما يلفت الانتباه في كثير من أعمالها هو انحيازها لمخزون ذاكرتها للتعبير عن الماضي، وعن أملها بالمستقبل، واضعة الحاضر بين هلالين لأنه شأن لا تتقن التعامل معه. ولذلك، ابتعدت عنه مبرزة تشبثها العاشق بعالم العصافير والعرائس المحلقة فوق مدينتها العتيدة القدس.

لا شك أن الحالة الحلمية تشي بكثير مما كان يجول في خيال البنت الصغيرة، التي ما لبثت أن أصبحت صبية رقيقة. صبية مقبلة على الحياة بحلم كبير وأمل واعد. مزَّق الاحتلال والاقتلاع إيقاع نغماتها الأولى ولكنها لم تستسلم. درست العلوم السياسية لتفهم أكثر ما حل بها وببلدها ولكن حدسها دفع بها إلى الجهة الأخرى، إلى عالم الخيال والحلم. صبية ما لبثت أن أصبحت زوجة ثم أماً لثلاثة أبناء، ولكنها لم تغادر مكمن أسرارها الأول، مدينتها التي شهدت أشكال عشقها الأولى.

وأظهرت أعمالها عنفوانها الرقيق ورغبتها في عالم تسوده المحبة والوداعة والمساواة.

بين أعمالها الأولى واللاحقة
J 2 (1)الفرق بين أعمالها الأولى التي كرستها للفراشات وللعرائس وللقدس ولأشيائها الكثيرة الأخرى، وأعمالها اللاحقة التي جاءت مبسطة مختصرة كتمائم عجيبة تروي حكاية تجربة وزمن وتحولات في المكان وفي الزمان. لا فرق. لا فرق إلا في اختلاف تناولها لموضوعها الأثير، إيمانها المقدَّس بعالم تسوده المحبة والتسامح ويعيد لها جنتها المفقودة وعالمها الذي حولوه إلى أشلاء.

لم تعد قوى استحضار المكان بالصورة وحدها تكفي فصارت تستحضره بالتمائم المكتوبة أو ببعض الأشكال الغامضة التي لجأت إليها لتساعدها على القبض على ذكرياتها وعالمها الحميم الأول. ما الفرق بين أعمال مرحلتها الأولى والثانية؟ لا فرق سوى أنها نزعت الخمار الأخير عن حكاياها لتكتب ذاتها ووجودها الكلي المفعم بذكرياتها الأولى. تلك الذكريات التي تأكدت وتأصلت بالاختصار والتجريد، وكأن الوقت صار للضروري المقدس بعيداً عن الرغبات والأحلام التي دونتها على مدى ما يزيد على أربعين عاماً. ازدادت بمرحلتها الثانية عمقاً وحنيناً لكل ما هو أصيل وعادل وحقيقي في هذا الوجود.

الكثيرون من محبي فن جمانة لم يحبذوا في البداية انعطافها الفني الجديد ولكنها بمثابرتها وبعمق تجربتها استطاعت ليس فقط الحفاظ على مكانتها المتوهجة، بل أثبتت أن بمقدورها أن تذهب إلى نقطة أبعد طالما انتظرت فرصة الانطلاق نحوها.

J 3القدس البداية والقدس النهاية، القدس خط الدفاع الأول حيث قضى ابن عمها عبدالقادر الحسيني في الدفاع عنها عام 1948م. القدس خط الدفاع الأخير حيث لا وجود ولا كرامة ولا ماض ولا حاضر دون امتلاكه بكليته، لأنه حق والحق لا يقبل القسمة.

قاومت جمانة بإيمان قوي لا يتزعزع ذلك الوحش الشرس الذي يتربص بوجودها وبممتلكاتها الروحية والخاصة. زارت اليابان عام 1979م وشاهدت أثر الدمار الذي حل بهروشيما نتيجة قصفها بقنبلة نووية. رسمت حية شيطانية تخترق هيروشيما متجهة إلى المسجد الأقصى، رابطة بذلك بين التدمير الوحشي الذي أحدثته القنبلة الذرية، واعتداءات الصهاينة المتطرفين على المسجد الأقصى لاستكمال جريمة مسح كل أثر للذاكرة الفردية والجماعية لشعب فلسطين بأكمله. على الرغم من كل ذلك لم تكن جمانة صاحبة شعارات طنانة، ولم تكن ترسم لتنشر رسالة تبشيرية تدعو إلى الاقتداء بها. رسمت جمانة من موقع الجرح مباشرة، رسمت من مكمن الروح، لذلك جاءت رسومها كصك بوح داخلي ارتبط كحبل سري بهويتها وببلادها وبعاصمة بلادها الجميلة، زهرة المدائن، القدس.

أضف تعليق

التعليقات