لماذا تلجأ اليوم بعض شركات الطيران الكبرى إلى قانون الإفلاس لإعادة ترتيب أوضاعها؟ ولماذا تضطر شركات أخرى إلى التصفية وإعادة تشكيل نفسها كما فعلت البلجيكية والسويسرية، فيما تنتظر اليوم اليونانية قراراً حكومياً بشأن مصيرها؟ أي بكلام آخر، ماذا يجري لقطاع الطيران ضمن أكبر سوقين عالميين، الأمريكي والأوروبي، وربما في غيرها أيضاً. القافلة تلقي الضوء على حال القطاع في أسواق لها تأثيرات أوسع وأبعد.
لا يفوت المتابع لأحوال شركات الطيران في السوقين الأمريكي والأوروبي في السنوات الأخيرة أنه نادراً ما تنقل الصحف الاقتصادية أخباراً مشجعّة. فمسيرة تعافي القطاع منذ عام 2001م تبدو ثقيلة في الولايات المتحدة.
إذ أن أربعاً من أصل ست شركات رئيسة لا تزال في حماية قانون الإفلاس لإعادة ترتيب أوضاعها. والتحسن في موجودات الشركات في الفترة الأخيرة، حسب مجلة بيزنس نيوز الأمريكية، لا يعني أن الأسوأ قد انتهى . فقد قدرت جمعية النقل الجوي الأمريكية خسائر الشركات بـ 32.1 مليار دولار للفترة ما بين 2001 و 2004م وتتوقع لها أن تكون بحدود 10 مليارات دولار هذه السنة مع ارتفاع أسعار النفط. ويدور كلام حول أن الزيادة في عدد الركاب التي تحصل لا تترجم إلى إيرادات بسبب تنافسية الأسعار. وفي أوروبا نسمع أكثر عن المتاعب المالية لبعض الشركات المتوسطة، مثل أليتاليا و أولمبيك إيرويز ، وقبلها سويس إير و سابينا ، مما نسمع عن أرباح الشركات الأخرى.
يربط المحللّون هذا الوضع بتحديّات تفرضها المنافسة بالنسبة للشركات التقليدية في أسواق عرفت تحولات مهمة مع إلغاء الأنظمة التي تحكمت بقطاع الطيران. لقد قضت المنافسة في وقت سابق على شركات الطيران الخارجي المعروفة مثل بان ام و تي دبليو إي لصالح هيمنة ست شركات طيران داخلي، أخذت الأسواق العالمية من الشركات المندثرة وربطتها بشبكة مواصلاتها الداخلية. هذه الشركات الرئيسة، التي ولدت في ظل حماية الأنظمة السابقة في مستوى خدماتها المتقدم وتشعّب طرقاتها وأجور عامليها ونقاباتهم القوية، تجد أسواقها الداخلية تضيق نسبياً مع نمو شركات الكلفة المنخفضة التي باتت تحتل 30 في المئة من السوق.
التحدي الذي رافق هذه التحولات بالنسبة للشركات وحكوماتها هو كيفية المحافظة على صحّة الطيران كقطاع استراتيجي. وفي إطار هذا التحدّي تطورت أنماط عمل للشركات التقليدية، وهي ترسو اليوم على معالم باتت نسبياً واضحة في تحالفات نشأت بين الشركات التقليدية الكبرى على جانبي الأطلسي وما بعده. هذه العولمة للمواصلات الجوية تؤسس لشبكات مواصلات متشعبة وواسعة وتقود في طريقها القطاع إلى التركز.
إلغاء الأنظمة وبقاء السياسات
الطيران، كاي قطاع مواصلات، يصنّف كمنفعة عامة، ولذلك خضع منذ نشوئه الفعلي لأنظمة صارمة تحت إشراف هيئة طيران مدني، تتحكم بطريقة عمله وبتسعيره وبنيته. هذا الوضع عرف تغييراً أساسياً في منعطفين. الأول في عام 1978م حين تم إقرار قانون في الولايات المتحدة بإلغاء جميع الأنظمة، باستثناء تلك المتعلقة بسلامة الطيران، وفتح القطاع على حرية السوق الداخلي كأي قطاع أعمال آخر. والثاني في عام 1997م، حين استكملت الوحدة الأوروبية التحوّل نفسه وسمحت لأية شركة أوروبية بحرية الحركة من أي بلد أوروبي آخر.
هذا التغيير حصل في ظل أوضاع متمايزة وسياسات حكومية مختلفة، أسهمت إلى جانب السوق في رسم معالم البيئة الجديدة والمتحولة. السياسة الأمريكية أملتها مصالح شركاتها واندفاعها. والوحدة الأوروبية أصبحت بعد عام 1997م قادرة على فرض قانون المنافسة الأوروبية، ومنع الحكومات من تقديم دعم مالي لشركاتها. ولأن المواصلات الجوية هي صناعة ذات أهمية استراتيجية، يقول تقرير أوروبي مشترك إن جميع الحكومات حريصة على الحفاظ على مستويات الخدمات الجوية ووضع صناعاتها الوطنية في وضع صحّي قوي. خدمت الحكومات شركاتها بطرق مختلفة. وفي بريطانيا، لم تؤد خصخصة بريتش إيرويز في 1987م إلى إلغاء كامل للأنظمة، بل جرى إدخال أنظمة جديدة لدعم مواقع الشركة في مطارات لندن الرئيسة ومناطق أخرى، دافعة الشركات الجديدة المنخفضة التكاليف إلى استخدام مطارات فرعية نائية. وفي ألمانيا، جرى تفادي وقوع شركة لوفتانزا في أيدٍ أجنبية، وتم العمل عند بيع الحصة المتبقية للحكومة (35.7 في المئة) في البورصة عام 1997م إلى جعل النسبة الأكبر من الشركة (51 في المئة) في حيازة مستثمرين صغار وأفراد عبر التحكم بمبيعات الأسهم. وأبقت الحكومة الفرنسية على حصتها الأكبر من إير فرانس (ولو أنها تقلصت إلى 44 في المئة ضمن اتفاق الاندماج مع ك ل م ).
مصاعب الطيران في أوروبا هي أكثر لدى الشركات الوسطى، التي احتاج بعضها إلى إنقاذ بدعم مشترك من الحكومة والبنوك والمصالح الخاصة، كما حصل مع سويس إير و سابينا عام 2001م وعودتهما باسمي سويس و س ن بروكسل . وتنتظر أولمبيك إير ويز ربما مصيراً مشابهاً. يقال في عمليات الإنقاذ تلك إنها الفرصة الأخيرة، والبحث عن حلول للأمد الطويل قد يطرح التقليص أمام البعض، أو شكل من أشكال الاندماج للبعض الآخر يحافظ على محورية المطارات وعلى اسم الشركة وعلمها الوطني – كالذي حصل بين إير فرانس و ك ل م في عام 2004م و لوفتانزا و سويس في عام 2005م.
وقد ظلت أشكال من الحماية تعمل في تلك الأسواق ولو لأسباب تعتبر اضطرارية. في الولايات المتحدة هناك الفصل 11 من قانون الإفلاس يمكن أن تلجأ إليه الشركات للحماية من دائنيها ومساعدتها على ترتيب أوضاعها. وفي أوروبا، حيث لا يوجد قانون مماثل، يصبح التدخل الحكومي متوقعاً لتجنب الفوضى. كما أن دعم الحكومة الأمريكية لشركاتها كان مباشراً أيضاً أثناء تعطّل المواصلات الجوية في أحداث 2001م، حين طالبت الشركات وحصلت على 5 مليارات دولار دعماً و10 مليارات قرضاً. ومن المفترض بعد إلغاء الأنظمة أن تكون أشكال الدعم هذه مؤقتة وظرفية، وواقع المنافسة يفرض على الشركات استراتيجيات بقاء للأمد الأطول.
بين القديم والجديد:
استراتيجية للمنافسة طرقها التشبيك
وهناك نموذج من الشركات الجديدة، شركات الكلفة المنخفضة أو ما يسمى أيضاً شركات الميزانية التي كانت إحدى الظواهر التي نشأت في البيئة الجديدة في الولايات المتحدة وجرى تقليدها في أماكن أخرى. طريق هذا النموذج لم يكن سهلاً، أعداد كبيرة من الشركات (أكثر من مائتين في الولايات المتحدة) تأسست وتلاشت، لكن النجاح الخاص للشركة الأمريكية ساوث وست إيرلاينز ، التي وصلت عام 1997م إلى أن تكون السابعة من حيث الحجم، وضعتها كمثال سارت عليه شركات أخرى في أوروبا وآسيا.
يقدم هذا النموذج صورة عن الأسعار الأدنى بالتكاليف الأدنى: استغناء عن حجز المقاعد، عن الوجبات المكلفة، عن الدرجات المختلفة، والاعتماد على أجور منخفضة وعمالة غير منظمة نقابياً. لكن تلك الأمور ليست ميزاتها الوحيدة، إذ يعتبر البعض أن تخفيض التكاليف يأتي أيضاً من اعتمادها على أمور عملياتية كبيع تذاكرها عبر الإنترنت من دون وسائط واستخدامها لطائراتها ساعات أكثر في اليوم. تشغل شركات كهذه رحلات مباشرة من نقطة إلى نقطة أخرى على مدى قصير وفي أوقات كثافة المواصلات التي تسمح لها بملء طائراتها بالركاب، وتعتمد على أسطول طائرات متجانسة من نوع وصنف واحد لتقليل كلفة الخدمة، وتستخدم مطارات فرعية أقل كلفة وأقل ازدحاماً.
وقبل ظهور شركات الكلفة المنخفضة في أوروبا التي سارت في اتجاه تقليد النموذج الأمريكي، مثل إيزي جت و ريان إير في منتصف التسعينيات، كان السفر الجوي الرخيص في غالبيته محصوراً في الرحلات السياحية المنظمّة (تشارتر فلايتس)، التي شكلت نصف الرحلات داخل أوروبا، وباتت تلك أيضاً تتحول إلى رحلات عادية موجهة للسياحة تساعد السائح على تصميم رحلته بنفسه.
لا شك أن هذه الشركات القادرة على تقليص تكاليفها أحياناً إلى أكثر من الثلث بالمقارنة مع الشركات التقليدية، قادرة أيضاً على تخفيض الأسعار ومنافسة هذه الأخيرة في أسواقها القائمة. لكن تأثير هذه الظاهرة لا يزال متفاوتاً. في السوق الأمريكية شركات التكاليف المنخفضة تحتل 30 في المئة من السوق الداخلي وتنافس الشركات التقليدية على 70 في المئة من الخطوط الجوية، ويقول بعض المحللين فيها إنها أصبحت أيضاً أكثر نضجاً بحيث تقدم نفسها كماركة تجارية قوية وتوّفر خدمات أفضل وتجذب مسافرين من فئة رجال الأعمال. أما السوق الأوروبية، حيث لا تزال حصة شركات الكلفة المنخفضة في السوق الداخلية قليلة (ما بين 7 و 10 في المئة) وكذلك السوق الآسيوية، التي تعج بالشركات الناشئة التي يظهر منها العشرات ويتلاشى معظمها – في ظل أوضاع باتت تسمح بكلفة رأسمال لا تزيد على 10 ملايين دولار لإنشاء شركة جديدة، مع توافر طائرات وطيارين بأسعار رخيصة نتيجة الصرف الذي يتعرض له القطاع التقليدي.
الهاجس الجديد: تخفيض التكاليف
لقد عملت الشركات الأمريكية التقليدية على بناء استراتيجيات للمدى البعيد، والتمايز عن الشركات المنخفضة الكلفة باتباع أنظمة شبكات قائمة على مطارات محورية، تمتص حركة الركاب من الأسواق الصغيرة، وتغذيها في رحلات كبيرة بين المطارات المحورية. ويساعد هذا النظام على زيادة ركاب الطائرة، واختيار طائرات بأحجام مختلفة لرحلات مختلفة، ولو أن وقتاً مهماً يصرف في الانتظار على المدرجات. إلا أن أهميته تكمن في أنه نظام دفاعي. إذ بنت كل شركة مطاراتها المحورية في مناطق مختلفة، وحولتها إلى ما يشبه الحصون الخاصة بها. بات هذا التمايز من أهم صفات الشركات التقليدية التي أطلق عليها أيضاً اسم شركات الشبكات ، والمسافرون باستطاعتهم أن يختاروا بين ستة طرق مختلفة، عبر الشركات الست الكبار، للوصول إلى مكانهم المقصود. واتخذت طريقة الدفاع عن تلك المطارات (الحصون) أشكالاً متعددة. يتحدث البعض مثلاً عن العلاقات التجارية القائمة بين شركات الطيران والسلطات المحلية، وعن دور الشركات في وضع عقبات أمام توسيع البنية التحتية وخلق سعة أكبر وذلك لعدم فتح المجال أمام الشركات المنافسة. وقد ظهرت أزمة ازدحام وتأخير فعلية في العديد من المطارات لأن البنية التحتية لم تتطور بشكل ملائم لنمو المواصلات الجوية.
كان من السهل في السوق الأوروبية، عندما جرى إلغاء الأنظمة، استنساخ النموذج الأمريكي للمطارات المحورية والشبكات. فالمطارات الرئيسة لبعض الدول الأوروبية تشكل محاور مهمة في إطار السفر العالمي، وليس أدل على تمسك الدول بها من الصراع العنيد التي تخوضه بريطانيا لبقاء مطارها هيثرو قلعة مهمة لشركة طيرانها وتحالفاتها. محورية عدد من المطارات الأوروبية هي في قدرتها على امتصاص حركة الطيران من الأسواق الأوروبية في رحلات عالمية، وأهمها تلك العابرة للأطلسي نحو السوق الأمريكي. وكمثيلتها الأمريكية، أبقت بعض الدول الأوروبية مطاراتها الرئيسة محاور لشركتها التقليدية، بينما انكفأت الشركات الجديدة المنخفضة التكاليف إلى استخدام مطارات فرعية في رحلات مباشرة من نقطة إلى أخرى بين العواصم الأوروبية.
لقد خدمت هذه الاستراتيجية الشركات الأمريكية التقليدية منذ عقدين في مواجهة تخفيض الأسعار وأمنت لها السيطرة. وعوّضت الشركات عن الأسعار المخفضة باعتمادها على درجات السفر التفضيلية لرجال الأعمال (التي شكّلت ثلثي إيراداتها) خاصة في فترة النمو ما بين 1995 و 2000م وقبل أن تتعرض لنكسة مع الركود الاقتصادي أواخر عام 2000م. وتبدو فرصها اليوم في السوق الداخلي أقل مما كانت، وتضطرها إلى القيام بعمليات تخفيض كبيرة للتكاليف، ذهب في طريقها أكثر من 100 ألف وظيفة منذ عام 2001م، ويتوقع الخبراء تخفيضات مماثلة في السنوات المقبلة، فالطريق، حسبما يرون، لا يزال طويلاً من أجل وضع تكاليف تلك الشركات على خط المنافسين من الشركات المنخفضة الكلفة. والأمر نفسه يحصل بالنسبة للشركات الأوروبية التي خسرت آلاف الوظائف وتستمر في سياسة تخفيض التكاليف بطرق مختلفة. ويفسّر المنحى لتخفيض التكاليف قصة اللجوء الطويل للشركات الأمريكية (حوالي السنتين للبعض) إلى الفصل 11 من قانون الإفلاس، الأمر الذي بات يثير امتعاضاً، خاصة في أوروبا، لاعتباره من أشكال الدعم المستمر لتلك الشركات.
والمستقبل قد يكون مفتوحاً على تحديات جديدة بالنسبة لأنظمة الشبكات. فالتطور التكنولوجي – كظهور طائرات المدى البعيد من إنتاج بوينغ وإيرباص وطائرات المسافات القصيرة القليلة التكلفة – من الممكن أن يقلّل من الاعتماد على الشبكات لصالح السفر المباشر. والسوق الأمريكي يشهد بداية لشركات منخفضة الكلفة تعمل على نظام المحاور والشبكات.
لكن وجهة المرحلة تسير من الشبكات المحلية إلى التشبيك العالمي. هذا المنحى بدأ يتطور منذ أوائل التسعينيات وتقوّى في بداية القرن، وهو يتشكّل على قاعدة تحالفات عالمية – هي عبارة عن ترتيبات في التسويق. بهذا المعنى يتجه القطاع إلى التركز العالمي، لكن بطريقة يشق فيها تنافس القارات ولا يكتلّها.
نظام التحالفات العالمية و الأجواء المفتوحة
نشأت أنظمة التحالفات العالمية على قاعدة تحالفات عابرة للأطلسي بين الشركات الأمريكية والأوروبية. وتظهر دراسة أعدت من الوجهة الأوروبية أن الشركات الأمريكية شكلت الحركة الدافعة في هذا المجال، تقودها منافعها الواضحة بعد عام 1978م في رحلاتها العابرة للأطلسي. بينما وجدت الشركات الأوروبية في التحالفات حلًا لمعضلة وجود مصالح قوية لها في الأسواق العالمية ومحدودية الفرص في أسواقها الداخلية.
لقد طوّرت الشركات الأمريكية في البداية تحالفات مع شركات أوروبية صغيرة تولي اهتماماً خاصاً بالرحلات الأطلسية، كالتحالف الذي نشأ بين نورث وست والشركة الهولندية ك ل م عام 1992م، تبعتها سويس إير و سابينا مع شركة دلتا عام 1993م. وتحتل اليوم السوق العالمي بنسبة 80 في المئة من رحلاته ثلاثة تحالفات رئيسة، وهي: تحالف ستار (يضم يونايتد و لوفتانزا ، و سنغافورة و… وغيرها)، وتحالف ون ورلد ( بريتش إيرويز و أميركان إيرلاينز و كاثي باسيفيك و…غيرها) وتحالف سكاي تيم ( دلتا و إيرفرانس و كوريان إير و… آخرين). كما دخلت ك ل م والشركتان الأمريكيتان كونتيننتال و نورث وست في تحالف سكاي تيم في 2004م بعد اتفاق اندماج ك ل م و إير فرانس ، ودخلت سويس في تحالف ستار في 2005م بعد الاتفاق على اندماجها مع لوفتانزا .
اقتصرت هذه التحالفات على الشراكة في التسويق، وذلك نتيجة الخضوع لقيود الأنظمة العالمية للطيران والقائمة على اتفاقات ثنائية بين بلدين تقرر أين يمكن للطيران أن يحلّق وعدد رحلاته وتسعيره… وهو نظام يعود إلى مؤتمر شيكاغو عام 1944م الذي تأسس على قاعدة احترام السيادة الوطنية والاعتراف بسيطرة الدولة على جميع أجوائها البرية والبحرية والجوية وضمن حدود معرّفة بشكل واضح بحيث يشكل دخولها من دون إذن تجاوزاً أو انتهاكاً.
وتأخذ الاتفاقات الثنائية التي تتحكم بحركة الطيران العالمي اليوم أشكالاً مختلفة، والأكثر انفتاحاً فيها يطلق عليها تعبير اتفاقيات الأجواء المفتوحة ، أو أوبن سكايز . الأجواء المفتوحة تعبير أطلقته الولايات المتحدة على اتفاقات ثنائية، أو تعددية، سعت إليها منذ عام 1979م مع دول أخرى لإلغاء بعض الأنظمة المقيّدة للسفر بينها وتلك الدول. والاتفاق النموذجي يسمح للطائرات الأمريكية بالطيران من الولايات المتحدة إلى أية نقطة في البلد الآخر، ومن دون تقييدات على الأسعار أو على تواتر الخدمات. وبالمقابل، تقدم حقوق شبيهة لطائرات البلد الآخر. ورغم أن مثل هذا الاتفاق يبقي على قيود تمنع التملك الأجنبي (سقفه في الولايات المتحدة 25.9 في المئة وفي أوروبا 49 في المئة) وتمنع حرية الطيران الأجنبي في المواصلات الداخلية، إلا أنه يؤدي إلى تحرير نسبي لأسواق البلد المعني تجاه حركة الطيران الخارجي. ولذلك، فإن الاتفاق النموذجي لم يحصل في البداية إلا مع بعض الدول الصغيرة، وواجه ممانعة من الدول الأكبر، خاصة اليابان وبريطانيا.
وقد وقّع عدد من الدول الأوروبية في تسعينيات القرن الفائت اتفاقيات أجواء مفتوحة مع الولايات المتحدة، والبادئة كانت هولندا عام 1992م وتدريجياً أصبحت الاتفاقيات تشمل 15 من أصل 25 دولة (من بينها ألمانيا في 1996م وفرنسا في 2002م). ومن الوجهة الأوروبية قد تدفع هذه التحالفات شركاتها إلى زيادة تنافسيتها كي لا تخسر رحلاتها الأطلسية للطيران الأمريكي، إلا أنها أيضاً تحتاج إلى إعادة ترتيب على أساس التعامل مع الوحدة الأوروبية ككتلة واحدة وليس مع دولها بشكل ثنائي. وكانت المحكمة الأوروبية في 2002م قد اعتبرت الاتفاقات الثنائية غير شرعية، لأنها تميّز بين الشركات الأوروبية.
واليوم، تسعى المفوضية الأوروبية عبر مفاوضات مع الولايات المتحدة إلى وضع يسمح للشركات الأوروبية بالانطلاق من أية نقطة في أوروبا باتجاه رحلات عابرة للأطلسي إلى أمريكا (وليس فقط من مطارات بلادها حسب الاتفاقات الثنائية)، وإلى حل بعض الأمور العالقة بالنسبة لحقوق هبوط الطائرات (كالوضع الحقوقي للشركات الأوروبية التي اتفقت على الاندماج مؤخراً والمطلب الأمريكي بفتح مطار هيثرو أمام شركات جديدة).
ويسمي البعض ما يجري عولمة للمواصلات الجوية. فالتحالفات تؤسس لشبكة واسعة من المواصلات الجوية، مذهلة في مداها، مبنية على قاعدة المطارات المحورية والشبكات التي تغذّيها وتوّفر آلاف الترتيبات المختلفة لربط الرحلات بين المدن وما دونها عبر الأطلسي وما بعدها، وربما تؤسس لأن تكون البلدان الصغيرة في المستقبل متصلة من خلال خدمات عالمية ببلدان صغيرة أخرى في أي مكان في العالم. وهي تتجه بالقطاع إلى التركّز على مستويين، على مستوى حركة النقل عالمياً، وعلى مستوى الملكية. ورغم أن إطار التحالفات قد عزّز مكانة الشركة الوطنية على حساب المشروع الاندماجي الأوروبي، فقد بدأت تظهر في أوروبا أشكال من التركز عبر اتفاقات للاندماج بين شركات كبيرة ومتوسطة ( ك ل م و إيرفرانس أو سويس و لوفتانزا ) تصب في خانة التحالفات وتعطي الشركات الكبيرة الحقوق المهمة التي لدى الصغيرة في السوق الأمريكي، وتوفرّ للصغيرة فرصة الحفاظ على مطاراتها المحورية. كما يدفع التركز العالمي والمناطقي بشركات أخرى إلى وضع هامشي وإلى البحث عن موقع صغير في سوق عالمي يكبر ويترّكز.
جدل التحولات
تتعدد القراءات لنتائج التحولات التي حصلت وتحصل في إطار الجدل المستمر في حكمة هذا التغيير. الأضرار ليست قليلة: الأعباء المالية لعدد من الشركات كبيرة، وصرف العاملين وتخفيض أجورهم تحصيل حاصل لها، والخدمات تدنت بشكل عام. ويقابل جدل الأضرار جدل المنافع. ويذكر منه تخفيض الأسعار وزيادة إنتاجية الشركات. لكن بعض المنافع قد يكون أمام امتحان جديد على ضوء التركز الذي يحصل داخل القطاع ودرجة الاحتكار التي تتطور معه.
واحتساب النتائج يقاس أيضاً ضمن اعتبارات أهمية القطاع. الاعتبار الأول هو خدمته للمنفعة العامة، والأنظمة وجدت لتحديد الخطوط وتوجيه الأسعار بطريقة تخدم المنفعة العامة عبر دعم أسعار الخطوط غير المربحة لكن المطلوبة من الوجهة المجتمعية على حساب أسعار الطرق المزدحمة الأقل كلفة. ولجعل أجزاء كبيرة من البلد، خاصة المترامية الأطراف، متصلة ببعضها. والاعتبار الثاني يدخل في مفهوم المصلحة الوطنية، حيث يعتبر الطيران قطاعاً استراتيجياً يؤثر في قطاعات اقتصادية أخرى. ولا يمكن ترك مشكلاته المالية للفوضى تعبث به. وقد نبّهت أزمة 2001م إلى هذا الأمر في واقع الدعم الحكومي الواسع الذي حصل لإنقاذ الشركات حينها. وهناك اعتبار آخر ازداد الاهتمام به مؤخراً هو سلامة الطيران. ورغم ما يبدو من عدم تأثر السلامة لحينه بهذه التحولات في الأسواق الاقتصادية المتطورة (ويرجعه المحللّون إلى بقاء أنظمة سلامة الطيران، والتطورات التقنية، وإدراك الشركات لأهمية التركيز على السلامة)، إلا أن الأمر قد يختلف بالنسبة لبلدان أخرى استبدلت طيرانها الوطني بشركات قليلة الكلفة دون معايير أمان قوية. وكوارث الطيران التي حصلت في الأشهر الأخيرة باتت تنبّه إلى هذا الوضع، على الأقل أوروبياً، حيث تضع الوحدة الأوروبية لائحة بأسماء شركات تمنع رحلاتها في الأجواء الأوروبية لاعتبارات السلامة.
وضمن هذا الاستعراض، يبدو وضع الطيران وأسواقه الكبرى في مخاض تحولات، تقود إلى توزيع جديد للمنافع بين الشركات التقليدية كما وبينها والشركات الناشئة. لكن السيرورة في حراك، وباب الاحتمالات مفتوح.