بيئة وعلوم

سكات الهاتف الجوّال
التكنولوجيا للمساعدة على ضبط السلوك..

  • 42a

بعد قضية التأثيرات الصحية للهواتف النقّالة التي لم يحسم أمرها لعدم توافر الأدلة العلمية القطعية، انتقل الاهتمام إلى قضية أخرى تتمثل في التأثيرات الاجتماعية والأدبية. ولأن حسن السلوك الفردي يبدو غير كافٍ، فقد هبّت التكنولوجيا لتعالج الإخلال في آداب استخدام الهواتف الجوالة. الدكتور علي حسين مقيبل وشادي إبراهيم القاضي من قسم الهندسة الكهربائية في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن يتناولان آخر ما توصلت إليه وسائل إسكات الهواتف الجوالة وضبط استعمالاتها.
مع الانتشار الهائل للهواتف الخلوية الذي تجاوز ملياري مستخدم مؤخراً (2005م)، أصبحت الهواتف النقالة سمةً من سمات الحياة في العالم. ولكن هذا الانتشار صاحبه تجاوزات أدبية واجتماعية يتراوح تأثيرها بين تجاوز الممنوع المطلق والمقيد (رنين الهواتف أثناء الصلاة أو المحاضرات أو اجتماعات العمل) وإزعاج الآخرين وتخطي الأعراف الاجتماعية واللياقة أثناء اجتماع الناس في الحفلات أو المناسبات الاجتماعية.

تلك التجاوزات، مع وجود أماكن تشكل الموجات الصادرة عن الجوال خطراً عليها مثل المستشفيات وشركات الغاز ومناطق إنتاج البترول، جعلت من حلول إسكات الرنين (أو إلغاء الإرسال بالكامل) مطلباً ضرورياً للتغلب على الإزعاج ولإجبار الناس على مراعاة الذوق العام ومبادئ السلامة.

تجاوزت المطالبة بحلول لإسكات الهواتف الجوالة النواحي الأمنية للشركات والمؤسسات لتصل إلى الأفراد الذين يطالبون بإيقاف إزعاج الهواتف في المساجد وبمنع استخدامها أثناء القيادة (كما في أكثر من ثلاثين دولة في العالم). و عدم الرد على مكالمة لن يقتلك ولكن الحادث قد يفعل هذا تعليق وزير النقل البريطاني بعد إعلان منع استخدام الأجهزة المحمولة في المملكة المتحدة (غرامات تبدأ من 30 جنيهاً للمرة الأولى وتصل إلى 2500 جنيه إسترليني لسائقي سيارات النقل العام).

تقسيم الوسائل
وتتوزع الوسائل الموجودة حالياً لإسكات الهواتف النقالة، من حيث التأثير إلى قسمين:

– 
وسائل لإيقاف الإشعاعات الصادرة من الهواتف النقالة (Signal Isolation) وذلك لتأثيراتها على الأجهزة الأخرى (أجهزة الطيران والأجهزة الطبية)، أو لخطورة الشرارات الإلكترونية التي قد تتسبب في حصول انفجار (مصانع الغاز ومصافي النفط) أو لاعتبارات أمنية (الاجتماعات المهمة والمؤسسات الحكومية).

– 
وسائل لإسكات رنين الهاتف (Acoustic Isolation) وذلك لمنع الإزعاج.

ويمكن أيضاً تقسيم الوسائل من حيث استخدامها لمصادر الطاقة إلى:

– 
وسائل فعلية (active): تحتاج إلى مصدر طاقة لإسكات الرنين أو للتحكم بموجات الهاتف. (تشمل قاطع الإرسال والتدخل المباشر والكشف).

– 
وسائل حماية سلبية (passive): وهي لا تحتاج إلى مصدر طاقة. (وتشمل حجب موجات الجوال).
وفيما يأتي سنتعرض لشرح تقني مبسط لأهم الوسائل المستخدمة مع التأكيد على أن العلاج السلوكي وزيادة الوعي جزء رئيس من أي حل.

قاطع الإرسال (Jammer)
لعل هذا الاسم المتداول غير ملائم علمياً، والأصح أن يطلق عليه مشوش الإرسال؛ لأن هذا الجهاز لا يقطع الإرسال أبداً، وإنما على العكس تماماً فهو يقوم بإرسال موجات إضافية للتشويش على موجات شبكة الجوال (على ترددات الجوال نفسها) ويكون إرسالها محصوراً داخل مدى معين بحيث لا تستطيع أجهزة الجوال داخل ذلك المدى الاتصال مع الشبكة لا إرسالاً ولا استقبالاً. وهذا المبدأ هو نفسه المستخدم في التشويش على الإذاعات أو الاتصالات العسكرية (الحرب الإلكترونية).

أما السلبيات المترتبة على هذه الأجهزة فتشمل:
– 
اعتبارات السلامة: عدم القدرة على إجراء أية مكالمة صادرة أو واردة بما في ذلك مكالمات الطوارئ.

– 
الإشعاعات: زيادة الإشعاعات التي يتعرض لها الإنسان مما قد يسبب مشكلات صحية (رغم عدم ثبوت ذلك) أو التشويش على أجهزة وخدمات أخرى (المستشفيات).

– 
حرمان المشتركين من الخدمة: بسبب صعوبة ضبط منطقة تأثير التشويش، فقد يمتد إلى أماكن أخرى مجاورة.

– 
الاعتبارات المتعلقة بالخصوصية قد تناقض نواحي قانونية بشأن التشويش على موجات الأجهزة النقالة. فالتشويش على موجات الجوال عبارة عن إرسال غير مرخص وتعدٍ على الطيف الترددي الذي يعتبر أحد أهم الممتلكات العامة للدولة، ويتم تأجيره لشركات الجوال بمبالغ طائلة. فقد نصّت أهم توصيات الاتحاد الدولي للاتصالات (ليس لأي شخص -أو منظمة- الحق بإعاقة أو تشويش أي اتصالات لاسلكية بلا مسوغ قانوني) وهنا يبرز تناقض مع مبدأ الملكية الشخصية (للمالك حق التخلص من الظروف غير المرغوب بها في حدود ملكيته). ولكن قد تسبب الخصوصية الشخصية هنا تضارب مصالح بالنسبة للمالك والأشخاص الآخرين في حالة أماكن عامة مثل المطاعم، إذا تم التشويش بلا علم الأشخاص. غير أنه يمكن معالجة النقطة الأخيرة بإجبار أصحاب الأماكن بوضع لافتة تنبيه تدل على وجود قاطع إرسال في المنطقة.

التدخل المباشر (Intervention)
يتم بالتواصل المباشر مع جهاز الهاتف نفسه أو مع أبراج الجوال لإسكات النغمة أو لقطع الإرسال. ففي حالة التواصل مع الهاتف يتم إرسال رسالة قصيرة تفاعلية للهاتف، تحمل الأمر بتحويل الوضع إلى الصامت أو الهزاز (Interactive Flash SMS) ولصاحب الجهاز القبول أو الرفض. كما يمكن فعل ذلك عن طريق برنامج يقوم بإسكات رنين الهاتف عند المرور بمناطق معينة (عن طريق البلوتوث Bluetooth). ولكن قد يحتاج الجهاز إلى تغييرات (برامج ووسيلة اتصال لاسلكي كـالبلوتوث).

أما التواصل مع الأبراج فيكون بموافقة شركة الجوال عن طريق الاتفاق على قطع الإرسال، أو عدم إيصال أو استقبال المكالمات في خلية معينة (أو قطاع من خلية) لمدة محدودة. أو يمكن أن يكون باستخدام جهاز يعمل عمل البرج كباعث للموجات، وعندما تكون الأجهزة في نطاق تغطيته يقوم بنقلها من الشبكة العامة للجوال إلى شبكته الخاصة. وظيفة عمل هذا الجهاز هي القيام باستقبال موجات الجوال (بموافقة شركة الجوال طبعاً) والعمل كبرج جوال لإيصال الخدمة إلى الأجهزة التي تقع داخل نطاق بثه سواء كانت إرسالاً أو استقبالاً. أكبر ميزة لهذه الأجهزة هي مرونتها. إذ يمكن برمجتها لمنع استقبال وإرسال المكالمات أو للسماح بالإرسال فقط أو العكس وأيضاً يمكن منع جميع الاتصالات ما عدا مكالمات الطوارئ.

الكشف عن الهواتف النقالة (Detection)
في هذه الوسيلة يتم استخدام لواقط هوائية على تردد الهواتف النقالة، وفي حالة وجود أية إشارة سيتم تنبيه الشخص تنبيهاً صوتياً أو مرئياً لإقفال جهازه أو إسكات رنينه. هذه الوسيلة مفيدة للاستخدام عند مداخل المستشفيات والمصانع (إغلاق الجوال) أو المساجد (نغمة الرنين). أما حجم أجهزة الكشف فيعتمد على مدى التغطية المطلوبة. فيمكن استخدام أجهزة محمولة باليد لأغراض التفتيش الشخصي (مدى أقل من متر) أو أجهزة ثابتة للكشف عن وجود أي أجهزة جوال في غرفة معينة أو عند الاقتراب من باب معين (المدى يصل إلى خمسين متراً).

الحجب أو التسليح (Shielding)
لا يعني التسليح بالبناء المسلح وإنما باستخدام أنماط بنائية أو تزينية تمنع موجات الجوال (تردد 900 – 1800 ميجا هرتز) من الاختراق إما بامتصاصها أو بعكسها. وذلك ممكن ذلك بعدة طرق، منها استخدام أجزاء معدنية شبكية النمط لتغطية الجدران والأسقف (مع التأريض) أو باستخدام دهان للتقليل من نسبة الموجات التي تخترق الجدران. كما يمكن ذلك باستخدام نوافذ (أو تجليد للنوافذ) أو ستائر أو ألواح تجميلية ذات قدرة على امتصاص وعكس موجات الجوال (بعض النوافذ والستائر الحاجبة المتوافرة تجارياً تصل نسبة الحجب فيها إلى 99.9 في المئة).

المقارنة بين البدائل المختلفة
تمتاز كل وسيلة من الوسائل المذكورة سابقاً بميزات عن الأخرى ولكن لاختيار الوسيلة المناسبة ينبغي أخذ عدة نقاط في الاعتبار:

– 
الناحية الإشعاعية (الصحية والأمنية): تفضل أساليب الحجب على الأساليب الأخرى التي لا تنقص (أو قد تزيد) الإشعاعات، ويمكن أيضاً استخدام أجهزة الكشف عن الجوالات للتحذير عند أبواب أقسام المستشفيات.

– 
مراعاة السلامة وعدم التعدي على الخصوصية الشخصية: و تعني إمكانية إجراء مكالمات الطوارئ وأن يكون صاحب الجهاز النقال موافقاً على إسكات هاتفه أو قطع الإرسال عنه أو يكون على علم بذلك.

– 
الأمور القانونية وتداخل الموجات: تظل الأمور القانونية شائكة نوعاً ما بالنسبة لناحية التشويش على الإرسال. فبعض الدول كالولايات المحتدة تمنعه منعاً باتاً وتضع عليه عقوبات صارمة (تصل إلى 11,000 دولار غرامة وسجن لمدة سنة) وهناك دول أخرى تشمل فرنسا واليابان والبحرين تسمح بالتشويش على الإرسال في أماكن معينة فقط (مثل المسارح والأندية الخاصة). أما بقية الدول فلا تسمح بالتشويش على أي تردد بشكل عام. ولكن لا توجد أحكام خاصة للتشويش على الهواتف النقالة بالتحديد. أما بقية الوسائل فهي قانونية أو لم يرد ما يمنعها.

قد يكون أي حل من الحلول السابقة الحل الأمثل حسب متطلبات الموقف. ولكن على المدى الطويل لإيجاد الطريقة المثلى يجب إدماج الحلول بالشبكة العامة للجوال لزيادة ناحية السلامة, مع المحافظة على النواحي الأمنية والخصوصية, وللتحكم الأمثل بالوسائل سواء كانت وقتية (أوقات الصلاة أو النوم) أو مكانية (المسارح والقاعات). وقد يكون الحل الأمثل هو زيادة جرعة الوعي عند الناس وتثقيفهم على مراعاة الذوق العام ومبادئ السلامة.

النعمة والنقمة
في ستينيات القرن الماضي، صدر كتاب فرنسي بعنوان التهذيب يهدف إلى تعليم أولاد الأرستقراطيين اللياقة وحسن التصرف. مؤلفه واحد من كبار الأرستقراطيين الفرنسيين: الدوق دي لوفي – ميريبوا.
وفي الفصل المخصص للحديث عن الهاتف (الثابت طبعاً آنذاك) يبدأ الكاتب حديثه بالقول: لو أن الهاتف كان موجوداً على أيام دانته، لخصه بفصل كامل في كتاب الجحيم ! ويفسر الكاتب عدائيته لبعض مساوئ الهاتف بالقول: تخيل أنك في جلسة تفكير أو تأمل، أو أنك وسط محادثة لبقة مع ضيف، فيرن الهاتف ليقطع المحادثة، وينقلك من اهتمام إلى آخر ويجبرك على الاعتذار من ضيفك… . وإذا كان هذا هو موقف الكاتب من الهاتف الثابت، فما الذي يمكن أن يقوله عن الجوّال؟
بعد فترة الابتهاج التي عرفناها جميعاً خلال الأشهر أو السنوات الأولى من عمر الجوّال، حين كان يسعدنا أن نجري مكالماتنا الضرورية وغير الضرورية من أي مكان، بدأنا نضيق ذرعاً به في بعض الأوقات.
وبعدما كانت جوالات الآخرين رهن جوالنا في أي وقت من أوقات الليل والنهار، بات الجوال المقفل أمراً مألوفاً غير مثير للاستغراب.
لقد سهّل الجوال الكثير من أمور الحياة، وبات صديقاً لصيقاً لا يمكن الاستغناء عنه. ولكن هذا الصديق اللصيق سلبنا شيئاً غالياً. استقلالنا الفردي عن الآخرين، الذي نحتاجه بين الحين والآخر.
سمح الجوال بمعالجة بعض سلبيات فقدان الاستقلال الفردي هذا عن طريق تسهيل الكذب ، مثل أنا في البيت ، ويكون المتحدث في مدينة تبعد مئة ميل عن بيته.. أو ربما كنت في مكان لا يوجد فيه إرسال ، أو حاولت أن أرد ولكن البطارية فرغت.. إلى ما هنالك.. فقد وضعنا الجوال في تصرف الآخرين في أي وقت يشاؤون، وبات هؤلاء يعتقدون بأن بقاءنا في تصرفهم هو حق لهم علينا.
بدأنا نسكت الجوال قسراً أولاً في الأماكن التي تمنع استعماله. ثم طوعاً خلال الليل، ومن ثم لتلافي المكالمات غير المستحبة المتوقعة. ومع ذلك، يلحظ البعض غيظاً عند الآخرين، أو يسمع عتاباً منهم لأنهم حاولوا الاتصال به وكان جواله مقفلاً لوقت طويل، الأمر الذي يضطره إلى تقديم تفسير لذلك، حتى ولو كان هذا التفسير مختلقاً.
لا شك أن فترات إسكات الجوال صارت اليوم أكبر مما كانت عليه خلال السنوات الأولى من عمره. والأمر طبيعي. ولكن الوصول إلى الوضع السليم لعلاقتنا بالجوال لن يكون إلا بالوصول إلى التعامل مع إسكات الجوال وكأنه أحد استعمالاته الأساسية. وهذا يعني الوعي الكامل أن الآخرين ليسوا في متناولنا متى ما شئنا وأينما كانوا. فهم أفراد مستقلون وأحرار، يحق لهم من دون أي خلاف معهم أن يخرجوا من دائرة المتصلين المحتملين بهم.. من دون عتاب ومن دون اعتذار.

مأمون محيي الدين

أضف تعليق

التعليقات

م, هاني أ[وهاشم

أرجو ذكر أسماء وأنواع الدهانات التي تستعمل في هذا النطاق.