الثقافة والأدب

ألوان الحرب بالألـوان
الفنان شاهد عيان ومعبّر عن الذات..

  • 75a
  • 68a
  • 70a
  • 70b
  • 71a
  • 72a
  • 73a

شكّلت الحرب كاهتمام أو كهم إنساني، موضوعاً حاضراً وحياً في تاريخ الفن. وكما لكل حرب خصوصيتها تاريخاً وأهدافاً، وجنداً ونتائج، فلكل فنان قراءته الخاصة للحرب، ولغته في تصويرها والتعبير عنها. إبراهيم العريس يحدثنا عن الأشكال التاريخية لهذه العلاقة ما بين الطرفين.
.. صراخ أطفال.. صراخ نساء. صراخ عصافير، صراخ أزهار، صراخ ألواح خشبية، حجارة وقطع قرميد، صراخ أثاث، أسرة، كراسي، ستائر، أوان معدنية، قطط، أوراق. صراخ روائح تنتشر في المكان، دخان يغرز في الأعناق، صراخ يتسلل إلى المدخنة، صراخ أمطار طيور تتدفق نحو البحر.. .

رؤية كابوسية أو رؤية شاعرية؟ في الأحوال كافة هي عبارات أراد فنان إسبانيا الكبـير بابلو بـيكاسو أن يصف بها رؤيته الخاصة لحلقة من حلقات الحرب الأهلية في موطنه الأصلي إسبانيا. كتبها عند بداية العام 1937م يوم كانت تلك الحرب على أشدها. لكنه بعد شهور قليلة، وكأنما في نوع من الرد البصري على هذه الصورة القلمية، عاد بيكاسو ليرسم نظرته إلى الحرب مرة أخرى. ولكن هذه المرة على لوحة عملاقة تُعرف اليوم باسم غويرنيكا ، على اسم المدينة التي دمرتها طائرات فاشيي فرانكو عن بكرة أبيها، محولة عبارات بيكاسو إلى واقع حي.

وما فعله بيكاسو حين أراد تخليد تلك المأساة الكبرى من مآسي القرن العشرين، إنما كان ترجمة نصه نفسه إلى خطوط وألوان. غويرنيكا هي اليوم الأشهر بين أعمال بيكاسو، وربما كانت الأشهر، أيضاً، بين كل الأعمال الفنية التي رسمت في القرن العشرين. ومن المرجح أن هذه الشهرة تعود إلى كون هذه اللوحة قد عرفت كيف تكون مرآة حقيقية للإنسان إذ يصبح وحشاً إزاء أخيه الإنسان.

فهنا، في هذه اللوحة المدهشة، لا يعود المرء واقفاً يتأمل الحدث المرسوم نفسه (تدمير الحرب لبلدة إسبانية وديعة – كما تروي لنا كتب التاريخ)، بل يجد نفسه أمام تفسير يقدمه الفنان، بلغته الخاصة، لما يعتبره حدث العصر : الفنان يصور هنا ما يرى أنه بروفة نهائية، على الطريقة الفاشية، لنهاية العالم.. ما يعني أن الراهن التاريخي ليس هو ما تصوّره اللوحة كحدث ملموس عابر يعطي قيمته للمدى المرسوم، بل أبدية الألم التي لا نهاية لها.

مثالية الفاجعة
ومن هنا ما يمكن أن نقوله من أن غويرنيكا بيكاسو هي أنموذج الرسم التاريخي، الذي يسمح به تاريخ الفن بين الحين والآخر، ممكناً إياه من أن يكون مستقلاً عن الواقع الخارجي، مرتبطاً مباشرة بوعي الفنان وأحاسيسه وضروب غضبه: الفنان هنا، بوصفه شاهد عيان يمحى تماماً أمام الفنان وقد شاء أن يعبر كلياً عن ذاتيته إزاء ما يحدث.

وفي النتيجة، لا تعـود هذه اللوحة وصفاً لحدث تاريخي، بل تعبيراً عن أثر ذلك الحدث على روح الفنان وعواطفه.

وفي يقيننا أن كل لوحات الفن العظيم التي ما فتئت تعبر عن الحرب، منذ وجد الفن واكتشف في الحرب موضوعاً أثيراً له، إنما هي – بشكل أو بآخر – تعبير عن ذات الفنان وقد تجابهت مع الحرب. غير أن هذا لا يعني، بالطبع، أن كل الأعمال الفنية التي تناولت الحرب كانت من هذا النوع، أو على مثل الغضب والصراخ اللذين يطبعان لوحة بيكاسو.

إننا نعرف، بالتأكيد، أن الحرب – إلى جانب الحب وبالتعارض معه – كانت دائماً واحداً من المواضيع الأثيرة للتعبير الفني، وليس في مجال الرسم وحده. بل إن وعي الفن نفسه إنما تأسس على وعي الصراع، طالما أننا نعرف أنه، ومنذ فجر البشرية، كانت نادرة تلك الحقب التي عاش فيها الإنسان من دون حرب.

فهو يعيش الصراع منذ وعي وجوده في الدنيا: صراع ضد الطبيعة، ضد أخيه الإنسان، ضد العناصر العادية، ضد القبائل والأمم الأخرى.. ومع تطور الأزمان صارت الحروب حروباً بين الأمم، حروب أديان، حروباً اقتصادية، حروباً سياسية.. وأخيراً حروباً اجتماعية. وإذ راحت الحضارات تتوالى، بدأ عرق يحل محل آخر في امتلاك الإمبراطوريات، وخاصة مع توالي الحقب: حقبة زراعية فحقبة صناعية فحقبة تجارية.

والفنان كان يراقب ذلك كله. أولاً لحساب أمته وقادته، فيرسم كمدوّن التاريخ، لوحات وأحفورات تمجد الغزوات، وأعمال تصور الانتصارات، ثم بعد ذلك كفنان تتأثر ذاته بما يحدث. ذلك أن الفنان، منذ بداية الفن كنشاط ذهني خلاَّق ومستقل، أدرك كما أدرك الفيلسوف والمفكر وكاتب المسرح من قبله أن الحرب إنما هي التعبير المثالي عن الفاجعة .

فظروف الحرب ومادتها وإطارها ونتائجها هي بالضرورة مفجعة. الحرب تحمل فجيعتها منذ قتيلها الأول. غير أن هذا الإدراك لم يكن ممكناً إلا بعد التحوّل من عمومية التاريخ الجماعي، إلى خصوصية المغامرة الفردية.. إذ حين وعى الإنسان وجوده الفردي، وجد نفسه مواجهاً لمصيره، لحياته، لموته ولذاته. وبدت له الحرب – إذ يقتصر على الحرب حديثنا هنا – مكاناً تسقط فيه الأقنعة وتتفكك الشخصية مخلية المكان أمام ما هو جوهري. والفنان بوصفه إنساناً بامتياز .. كان هو أول من التقط هذا الجوهري.

من الوعظ إلى التعبير
من المؤكد هنا أن ليس في وسعنا تحديد بداية حقيقية لتحوّل الحرب إلى موضوع تراجيدي ذاتي في اللوحات الفنية. ولكن يمكن القول إن عصر النهضة الأوروبية – في إيطاليا خاصة، كما في هولندا – كان العصر الذي بدأ فيه الفنان يعبر عن الحرب كمأساة فردية تصيبه هو شخصياً في الصميم، إذ اكتشف التعبير الإنساني في العمل الفني كما في الحياة نفسها، وبدأ ينظر إلى الفرد بكونه أساساً في الوجود، وليس فقط وقوداً للجماعة.

غير أن نظرة الفنان هذه، لم تبرز إلا في شكل خجول، مثلاً في لوحات هيرونيموس بوش التي تطابق فيها الموت والحرب والجحيم في بوتقة واحدة، وبدا واضحاً لديه أن الحرب مدانة بقوة.. حتى وإن كان من الصعب تلمس فردية الوعي بقسوة الحرب في أعماله الضخمة.

فهذه الفردية بشكلها الواعي تماماً، كان عليها أن تنتظر القرنين التاسع عشر والعشرين قبل أن تظهر على الساحة بوضوح. فقبل ذلك صُورت قسوة الحرب وتدميرها من منطلقات عمومية.

كان على الفن إذن أن ينتظر مثلاً، أعمال غويا ولا سيما منها تلك التي رسمها أواخر حياته وأطلق عليها اسم الرسوم السوداء ، قبل أن يربط الحرب ومأساويتها نهائياً بفردية ضحيتها الأولى والأخيرة: الإنسان. ولسوف يسير على خطى غويا في هذا عدد لا بأس به من الفنانين الفرنسيين والإسبان، من مانيه إلى بيكاسو، مروراً بديلاكروا وهونوريه دومييه .. وصولاً إلى كبار الفنانين الذين عبروا عن الحرب طوال القرن العشرين. ولم يكن هذا التوقيت صدفة أو مجرد وعي فني طارئ.

فالحال أن الحروب حتى ولو كانت مدمرة طوال تاريخها للجماعات كما للأفراد، ظلت في وعي الفنانين حالة استثنائية، يمكن مقاومتها بالتعبير عن السلام والصفاء، إذ كان الفنان لا يزال يعتبر أن رسالته قادرة على التأثير. لكنه – أي هذا الفنان – إذ انتقل من التأثير إلى التعبير، أدرك أن الحرب جزء عضوي من كينونة البشر، وأن على فنه أن يكف عن التطلع إلى أن يكون رسالة وعظ ليتحول إلى تعبير يضع الحقيقة – وقد مرت عبر مرشح وعيه الخاص – أمام بصر وبصيرة الناس، تاركاً لهم الخيار والقرار.

ومن هنا راحت اللوحات تحمل صوراً لأهوال الحرب وفظائعها، من دون أن تتوخّى من خلال ذلك أن تحمل عظة معينة. ولقد كان من شأن هذا أن حرر الفنان تماماً في عالمه التعبـيري. ولولا هذا التحرر لما كان في وسع رسوم غويا السوداء أن يكون لها كل ذلك التأثير الذي وصل لاحقاً إلى بيكاسو.. ولكن ليس إلى بـيكاسو وحده، وإن كانت لوحة بيكاسو غويرنيكا قد تمكنت من أن تكون العمل الأبرز.

قسوة حروب الأمم
فالحال أننا إذا استعرضنا كل الحروب، بين الأمم والشعوب، ثم الحروب الأهلية والثورات والانتفاضات التي اندلعت خلال القرنين الفائتين سوف يدهشنا كم أن الفن تصدى دائماً للتعبير عنها. وغالباً من منطلق الإدانة، ومن منطلق تصوير الحرب كفعل قتل وتدمير لا أكثر. ومن هنا بدا البون شاسعاً بين جداريات الأزمان القديمة التي كانت – لدى الفراعنة وغيرهم من الشعوب – تصوّر الجيوش المظفرة تجر الرقيق الأسرى المسبيين دون أن يرف للفنان جفن غضب أو انتقاد -، وبين اللوحات المعاصرة التي تقف مع الضحية ضد الجلاد.

ومع هذا كان ثمة دائماً فنانون يصورون أمجاد الحروب، وحسبنا أن نذكر هنا أن نابليون كان يصطحب في غزواته فنانين كثراً يعودون بلوحات تمجد فتوحاته. ومثله فعل الكثيرون من القادة والزعماء.. مما خلف للبشرية أعمالاً فنية كافية، في حد ذاتها لحكاية تاريخ العالم. غير أن الذي يعنينا هنا ليس هذا النوع من الفن، على أهميته وجماله ما يعنينا هنا هو الفن الآخر: التراجيدي الغاضب، الذي لم ير في الحروب سوى القتل والتدمير، ولم ير للفن من دور سوى فضح ذلك كله.

فللقرن العشرين خصوصياته، وقد تحولت الحروب من حروب محلية – ظلت محصورة مهما كانت ضخامتها – إلى حروب عالمية تفتك بعدد كبير من الشعوب وتلقي أطنان وأطنان القنابل وصولاً إلى القنابل النووية، ولذا ما كان في إمكانه إلا أن يختلف في التعبير تماماً: ارتبط مرة أخرى بالجنون الذي لطالما عبر عنه هيرونيموس بوش ومواطنه بروغل، لينتج أعمالاً تصف أول ما تصف جنون الحرب. ولقد كان هذا، بشكل خاص، من دأب الفنانين الألمان خلال النصف الأول من القرن العشرين، ولا سيما منهم أولئك الذين جابهوا كارثة الحرب العالمية الأولى بشجاعة. ثم – وبشجاعة أكبر – جابهوا الطغيان النازي.

وعلى هذا النحو يمكننا اليوم أن نتأمل في دهشة مطلقة لوحات جورج غروش، وأوتو ديكس وماكس بيكمان.. ولاسيما أعمال هذا الأخير الذي لطالما صور الحرب وفاجعة الإنسان فيها، خاصة في لوحته الليل التي صور فيها إنسان الحرب العالمية الأولى .

وما نقوله هنا عن بيكمان يمكن قوله، مثلاً، عن أوتوديكس، الذي كان من أكثر الفنانين الألمان تصويراً للحرب وجنونها، ولاسيما خلال الحرب العالمية الأولى، منذ أن رسم صورة ذاتية كجندي ثم المدفع بين سلسلة لوحات حربية مدهشة في قوتها وجنونها. غير أن ما كان مجرد انطباعات ذاتية قاسية خلال الحرب العالمية الأولى، تحول لاحقاً لدى أوتوديكس، إلى أعمال أكثر تعبيرية وقسوة، مع مرور السنوات وتطور الأحداث. وهكذا رأيناه يرسم في العام 1927م الانتفاضة ، على غرار أعمال مشابهة لغويا ومانيه، ثم يرسم في العام 1929 – 1932م. رباعيته الشهيرة الحرب التي يكاد جزؤها الأوسط والأهم يختصر كل ما كان يمكن لفنان أن يقوله حول الحرب.

صراخ أم استعراض
والحقيقة أن الصراخ ضد الحرب وجنونها بلغ ذروته على أيدي فنانين من طبقة بيكاسو وأوتوديكس. لكنه في طريقه إلى تلك الذروة، عرف كيف يمر بفنانين آخرين كثر، في معنى أن الفن – الرسم كما السينما وأكثر بكثير من ضروب الأدب – كان ويظل الأقوى والأعنف في مجال التعبير عن رفض الحرب ورفض جنونها.

غير أن هذا كله يجب ألا يمنعنا من ملاحظة تناقض مرعب في هذا السياق كله: حيث إن الفنان، من خلال تعبيره عن الحرب، وفي لوحات، بدت دائماً أنها الأبرز والأكثر أهمية في سياق نتاجه الفني الخاص (سواء أكان هذا الفنان بوش أو بروغل، غويا أو ديلاكروا أو مانيه، بيكاسو أو بيكمان أو أوتوديكس)، حوّل المشهد الحربي، على فجائعيته وجنونه إلى مشهد استعراضي جذاب. بحيث أن المتفرج لا يعود يعرف ما إذا كان هنا أمام مشهد يندد بالحرب ويفعل القتل والتدمير الذي تعبر عنه، أم أمام مشاهد تمجد الموت وتعطيه بعده الجمالي.

وهذا التناقض هو الذي يعيدنا مرة أخرى إلى ما كنا ذكرناه عرضاً في هذا السياق: أين هو الفنان نفسه من هذا كله؟ هل هو هنا، في لوحته وعبرها، صاحب رسالة أو صاحب صورة؟

من المستحيل طبعاً الإجابة عن مثل هذا السؤال. وهذا الأمر يرتبط بطبيعة الفن نفسه، هذه الطبيعة التي لم يتمكن التاريخ من حسم أمرها. ولكن، في انتظار مثل هذا الحسم، يبقى لنا أن نشاهد الأعمال الفنية هذه، في المتاحف أو في المجموعات الخاصة، كما في الكتب الفخمة واللوحات المستنسخة ونقول في سرنا: حتى ولو كان الفنان يحول مشهد القتل والدمار إلى مشهد جدير بأن يشاهد بإعجاب، فإنه ليس هو من صنع المشهد. القتل به وبدونه دائر. أما الفنان فإنه شاهد على ما يحدث، متأثر به، مؤيّد لمشاهده على مسطح اللوحة، مسجل للحظات الجنون… الجنون الذي يتسبب به الأقوياء ويقع ضحيته الضعفاء. ويتأرجح الفنان وفنه بينهما.

اقرأ للفن
الفن والحرب
وضع الباحثون ومؤرخو الفن عشرات الكتب التي تناولت موضوع الحرب في الأعمال الفنية. وكتاب جمال قطب الفن والحرب هو واحد منها، نشير إليه هنا لتوافره في المكتبات السعودية.

يقع هذا الكتاب في 144 صفحة وقد صدر عن مكتبة مصر (من دون تاريخ). ويتناول عدداً كبيراً من اللوحات التي تمثل المعارك والحروب، وبشكل شبه شامل. إذ تضمن، على سبيل المثال، بعض الأعمال المجهولة من قبل الكثيرين مثل لوحة للرسام محمد راسم الجزائري أو أعمال الفنان الإيطالي والترمورينو. كما أن المؤلف وسّع دائرة الموضوع لتشمل أيضاً اللوحات المعبرة عن العنف والبطولة والفروسية.

وللدلالة على هذه الشمولية التي يتناول بها المؤلف موضوع كتابه نشير إلى أنه أفرز فصلاً كاملاً للمرحلة البونابرتية وصولاً إلى اللوحات التي تمثل العديد من شخصيات ذلك الزمن بمن فيهم الأميرات من عائلة نابليون، كما أنه لم يتهرب من تناول رسوم الحرب في قصص الخيال العلمي الأقل شأناً علي الصعيد الفني من غيرها.

المأخذ الوحيد على الكتاب هو الطباعة السيئة للوحات الملونة، إذ فقدت الكثير من جمالها وتأثيراتها، وباتت أشبه بمجرد إشارات أو تذكير باللوحات الأصلية لمن يعرفها.

لكل معركة تكتيكها الفني
حتى نهاية القرن التاسع عشر، كانت كل اللوحات التي تمثل مشاهد معارك وحروب تنجز بناءً على طلبات محددة. ولم تصلنا أية لوحة مهمة في تاريخ الفن تمثل مشهداً حربياً أنجزها فنان ما من تلقاء نفسه، أو أملاً في أن يجد من يقتنيها لاحقاً.

وعندما كان يُطلب من فنان ما أن يرسم لوحة تمثل معركة محددة، لم تكن مهمته أبداً بسط عواطفه على اللوحة، بل تنفيذ الخطاب الذي يريد الزبون أن يقوله ويحفظه من خلال هذه اللوحة، وغالباً ما كان هذا الخطاب يقتصر على توثيق النصر العسكري، أو تمجيد نصر تاريخي قديم لاعتبارات ثقافية وحضارية غير فردية على الإطلاق. أما تركيب اللوحة واختيار عناصرها الشكلية واللونية فقد كان متروكاً لعبقرية الرسام ضمن الالتزام بقيد واحد: وضوح القراءة المباشرة. ولهذا تنوعت اللوحات في هذا المجال من الناحية الفنية تنوعاً يستحيل حصره.

فلوحات معركة سان رومانو الثلاث التي رسمها في القرن الخامس عشر فنان النهضة، باولو أوتشيلو، تخليداً لنصر الفلورنسيين، تستمد قيمتها الكبرى من كونها من اللوحات الطليعية (إن لم تكن الأولى) التي يتجلى فيها تطور معالجة البعد الثالث في فن الرسم. أما سير المعركة فلا يترك في النفس أي أثر عاطفي. والفرسان القلائل جداً المرسومين بأحجام كبيرة يبدون وكأنهم يلعبون البولو أكثر مما هم يتحاربون.

أما معركة أربيل التي تمثل انتصار الإسكندر المقدوني على داريوس الفارسي، ورسمها الألماني البريخت التدورفر، فتستمد قوتها من تركيبها الفني، ومن العدد المذهل في ضخامته للجنود المرسومين فيها حتى أنهم يبدون وكأنهم صفوف نمل. والقليل من الإشعاع الرمزي، أكثر مما هو عاطفي، يتمثل في مشهد الغيوم السوداء (رمز الشر) التي تحاصر ضوء الشمس وتهدد بخنقه. ولأن للحجم دوره، وكما نتأثر برؤية حصان ميت أكثر مما نتأثر برؤية نملة ميتة، فإن هذه اللوحة تخلو بدورها من أي أثر يمكن للحرب أن تحركه في النفس.

وحتى في القرن التاسع عشر، عندما رسم جان أنطوان غرو معركة إيلو ، تخليداً لأحد انتصارات نابليون، فإن الجثث الكثيرة التي تحتل مقدمة اللوحة، رغم واقعيتها الشديدة وكبر حجمها، لا تبدو أنها محور الموضوع، بل مجرد أشياء يجب أن تكون هنا .

والواقع أن القرن التاسع عشر كان قرن اللوحات التي تمثل مشاهد المعارك والحروب بامتياز، وذلك بسبب الحروب البونابرتية الكثيرة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت معركة الطرف الأغر التي انتصر فيها الأسطول البريطاني بقيادة الأدميرال نيلسون على الأسطول الفرنسي-الإسباني المشترك عام 1805م سبباً في نشوء تيار فني مستقل في بريطانيا قائم على رسم جوانب هذه المعركة البحرية. وعدد اللوحات التي أنجزت تخليداً لهذا النصر هو بالآلاف. ففي كل قصر أرستقراطي أو بيت برجوازي كان يجب أن تكون هناك لوحة تمثل هذه المعركة.

ولكن معظمها اقتصر على التسجيل بشكل مقروء للسفن الحربية وأسمائها ومواقعها خلال الاشتباك، أما الجوانب الفنية والإبداعية والتجديدية فبقيت أقل شأناً، فلم ترتفع أي منها إلى مستوى معركة سان رومانو على سبيل المثال، حتى أن الكثير منها سقط في الابتذال.

أما في العصر الحديث، ومع انتصار فردية الفنان، وتحرره من قيد الزبون، باتت اللوحة فعلاً ميداناً للتعبير عن الذات والموقف، وفي حين أن بعض الفنانين حافظ في لوحته على دلالات تربطها بمعركة معينة في ظرف ومكان محددين فإن بعضهم تحرر من الدلالات تماماً.

فلوحة الغويرنيكا لبيكاسو مثلاً تخلو من أية دلالات تربطها بالحرب الأهلية الإسبانية، وتبدو وكأنها صرخة ضد الحرب أي حرب، وضد الظلم الذي يتعرض له الضعفاء أينما كان في العالم. البعض يرى الأمر نقطة قوة، ولكن هناك من يراه نقطة ضعف. فالحرب الأهلية الإسبانية نفسها كانت مصدر تحفة فنية أخرى رسمها المكسيكي دافد سيكويروس. ولكن هذا الأخير ربط لوحته بهذه الحرب المحددة أكثر من بيكاسو، إذ نرى فيها بقايا الآلات والمعدات المستعملة في الحرب الحديثة إلى جانب وجه الطفل الباقي.

وبتطور المذاهب الفنية والتيارات المختلفة على مدى القرن العشرين، كان تغييب الدلالات يكتسح المزيد من المساحات الفنية، وصولاً إلى الكسوف الكامل لأي شكل من أشكال القراءة المباشرة الممكنة.

فخلال انتفاضة المثقفين أينما كان في العالم خلال الستينيات، ضد العنف والحروب، وخاصة حرب فيتنام، لجأ بعض كبار الفنانين للتعبير عن مواقفهم إلى إنجاز أعمال يصعب على المشاهد ربطها بأي حدث حربي من دون إبلاغه سلفاً بذلك. وعلى سبيل المثال، نذكر الإيطالي لوتشيو فونتانا الذي اكتفى بطلاء القماش بلون معين، اقتصره لاحقاً على الأبيض، ومن ثم تمزيق اللوحة بالسكين.. وأيضاً الفرنسي أرمان الذي كان يشتري الآلات الموسيقية، ويحرق أجزاءً منها، ليعرض ما تبقى منها على أنها منحوتة. وفي مثل هذه الأعمال، فإن المشاهد مدعو إلى الوقوف أمامها بعد إبلاغه بخطابها، والمتعة التي توفرها لم تعد على الإطلاق متعة بصرية، كما كان الحال في الأعمال القديمة، بل مجرد هزة وجدانية تولدت عن تخطيط و تفكير بارد، وليس عن حساسية الريشة المغمسة بالألوان.

أضف تعليق

التعليقات