حياتنا اليوم

في النقـــل العــــــام..
الوقت الضائع والوقت المشغول

  • 62a
  • 56a
  • 58a
  • 58b
  • 61a

المواصلات العامة وسيلة نقل فرضت نفسها أينما كان في العالم، داخل المدن الكبرى، وما بين هذه المدن. وبالنسبة إلى الكثيرين، أصبحت هذه المواصلات جزءاً من الحياة اليومية ومفصلاً لا غنى عنه بين البيت والعمل. أما الذين لا يستخدمون المواصلات العامة إلا نادراً والذين لم يستخدموها على الإطلاق، فيتطلعون إليها بتساؤلات شتى، تميل أحياناً إلى الحكم عليها وكأنها نوع من الشقاء. مع أن الحقيقة هي غير ذلك تماماً.

طرابلس – بيروت، الدمام – الرياض
مرايا المجتمع في المواصلات
عبود عطية
طوال ست سنوات أو أكثر، اعتدت الانتقال بالباص يومياً ما بين طرابلس وبيروت. يومياً، أي سبعة أيام في الأسبوع. ستة للعمل، ويوم سابع لأمور أخرى، وأحياناً من دون أي دافع محدد على الإطلاق. فالباص مريح وجيد، وثمن التذكرة لا يذكر.

ربما كانت العزلة بعيداً عن العمل والمعارف والنقاش هي التي حوّلت هذه الحركة المكوكية إلى ما يشبه الإدمان. إذ كنت أجد فيها ساعة من الهدوء الذي يمكنني من الاسترسال بأفكاري وأحلامي وحتى الكتابة في ذهني لما أريد أن أضعه على الورق بعد ساعات.

وخلال إقامتي في المملكة العربية السعودية، ولضرورات العمل، توجب عليّ الانتقال عشرات المرات من مدينة الخبر إلى الرياض. مرة بالطائرة، ومرة بالباص، ومن ثم استقر الخيار نهائياً على القطار انطلاقاً من محطة الدمام.

فالقطار آمن ومريح، ويسمح بشيء من حرية الحركة داخله، وأرخص كلفة من غيره. إضافة إلى أنني وجدت فيه بعض ما كنت أجده في الباص على طريق طرابلس – بيروت. بعض ما كنت أجده.. لأن الاختلافات قد تكون أكبر وأكثر مما هو مشترك بينهما، وتعود إلى التمايز في كل ما يتشكل منه المزاج الفردي ومعالم الحياة في كل من البلدين.

الفرق الجغرافي ليس الأكبر
المسافة ما بين طرابلس وبيروت هي 85 كيلومتراً، وهي الأكبر ما بين مدينتين رئيستين في لبنان. أما المسافة ما بين الدمام والرياض فهي نحو 400 كيلومتر، أي نحو ربع المسافة إلى مدينة جدة. وفيما تتلوى الطريق اللبنانية بشكل أفعواني، صعوداً ونزولاً، ما بين شاطئ البحر والجبال الخضراء التي نهشتها في أماكن متفرقة الكسّارات والحرائق، فإن سكة الدمام-الرياض، مستقيمة (تشبه في ذلك أيضاً الطريق السريع)، لا منعطفات ولا صعود ولا نزول. وفيما لا تغيب المدن والقرى والمنازل عن نظر راكب الباص اللبناني، فإن راكب القطار السعودي سرعان ما يجد نفسه بعيداً عن أي أثر عمراني بمجرد خروجه من مدينة الدمام أو أبقيق أو الهفوف. مئات الكيلومترات، لا بيتاً واحداً فيها. ومع ذلك، فالفوارق الجغرافية ما بين هذين الخطين، وإن كانت أوضح للعيان من غيرها، ليست الوحيدة، ولا حتى هي الأكثر عمقاً.

القلق والطمأنينة، الاضطراب والاستقرار
مهما ألِف المرء التنقل بالباص اللبناني، فثمة ما هو دفين في أعماقه يبقيه على شيء من الترقب لما قد يجري خلال الرحلة، حتى ولو لم يركز في وعيه على مشكلة محددة.

قد يقع حادث اصطدام، أو عطل ميكانيكي، وقد ينقلب الباص خارج الطريق كما حصل مرة، وقد تتعدد الحواجز الأمنية التي تعرقل الرحلة أو تؤخر الوصول، وقد يكون هناك حادث سير يوقف حركة المرور، وماذا عن الازدحام عند مدخل بيروت؟

ما ذكرناه سابقاً عن العزلة والتفكير بهدوء يعطي الانطباع بأن الجو خلال الرحلة يخلو تماماً مما يعكره. والأمر غير دقيق تماماً. فالمفاجآت غير المتوقعة هي في الواقع غير مفاجئة لمن يقوم بهذه الرحلة يومياً. فقد يتعطل مكيف الهواء، أو قد يعِنّ على بال السائق أن يعرّج على ورشة الصيانة الخاصة بالشركة، أو قد يتشاجر مع أحد الركاب. والحاجز الأمني الذي يدعك تمر من دون أن يستوقفك، قد يغيّر رأيه اليوم، فيصعد الجنود إلى الباص للتدقيق في الهويات. وإذا احتسب المسافر وقت وصوله إلى بيروت خارج أوقات الذروة متلافياً الازدحام، يمكنه أن يصطدم بازدحام سببه وقوع انفجار في محيط المنطقة.. وعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما كان التدخين مسموحاً في هذا الباص (إذ أنه لم يمنع إلا في العام 2000م)، كان يتسبب بما معدله شجار واحد على الأقل في الأسبوع. فوسط الهدوء والاسترسال في التفكير أو مغالبة النعاس، تعلو الهمهمة من مكان ما، فتشرئب الأعناق لرؤية ما يحصل، وما إن تتحول الهمهمة إلى شتائم حتى ينهض بعض الرجال ليتجمعوا حول مركز الخلاف، وليتداركوا الموقف قبل أن يتحول عراكاً وضرباً بالأيدي. فيوقف السائق الباص، ويأتي لحل الخلاف ما بين شخص أشعل سيجارة وجاره الذي يكره التدخين.

ما الذي سيصادفني خلال هذه الرحلة؟ قد لا يصادفك شيء. ولكن السؤال يبقى مطروحاً في اللاوعي. فحتى ولو تكررت الرحلة لمئة أو مائتي مرة من دون أي من هذه الحوادث والعراقيل، يبقى في نفس المسافر شيء، ولو قليل جداً، من عدم اليقين بأن كل شيء سيسير على ما يرام.

أما في القطار السعودي، فبمجرد انطلاقه، يصعب على المرء مهما كان متشائماً أو سوداوي المزاج أن يتجه بذهنه إلى ما يستوجب الحذر. فهو على يقين من أنه سيصل بعد أربع ساعات وربع الساعة إلى وجهته، وأن كل شيء سيكون طوال هذا الوقت رتيباً، مستقراً، أفقياً مثل الصحراء التي لا تخبئ المفاجآت.

وبخلاف حواجز القوى الأمنية على الطريق اللبنانية التي قد يؤدي ظهورها إلى الشعور بوجود اضطراب ما في الأجواء، فإن وجود رجال الأمن بشكل دائم على متن القطار يجوبونه مرات عديدة خلال الرحلة، لا يثير أي استنفار. بل يبدو جزءاً طبيعياً من ضروريات الرحلة، وهو في الواقع كذلك.

أقصى ما ذهب إليه خيالي مرة في البحث عن محاذير، هو تعطل القطار وسط الصحراء. ولكن خيالي وجد المعالجة فوراً: سيأتون لنقلنا من هنا بالطائرات المروحية خلال ساعتين ، وتحرك شيطان حب المغامرة في نفسي إلى درجة أني تمنيت حصول الأمر..!!

السلام والكلام وخلافهما
وإضافة إلى تناقض الاستقرار هنا مع الاضطراب هناك، ثمة اختلافات تعود إلى العادات الاجتماعية والأمزجة الفردية أو الجماعية.

فراكب القطار السعودي يلقي السلام عليك بمجرد عبوره الممر بجوارك. أما في الباص اللبناني، فلا سلام ولا تحية، ولا حتى في معظم الأحيان من الذي جاء ليجلس على المقعد الملاصق لمقعدك. والغريب في الأمر أنه بمجرد بدء الرحلة، ينقلب الوضع تماماً في الحالتين، ويصبح العكس هو الصحيح.

ففي القطار السعودي يسود صمت شبه مطبق. لا أحد ينسج أي حديث مع الآخر (إلا إذا كانوا من المسافرين سوية). البعض يقرأ القرآن الكريم، والبعض يعبث بأوراق ومستندات، أو يتصفح جريدة، أو يلهو بجواله، والبعض يكتفي بنقل نظراته من النافذة إلى الساعة في معصمه بين الحين والآخر. أما الأكثرية.. فينامون.

واستطراداً، نشير إلى أن النوم في وسائل النقل هو النشاط الذي يحل عندنا محل القراءة التي يمارسها الأوروبيون. ففي الباص اللبناني، تبلغ نسبة النيام في الرحلات الصباحية ثلث الركاب، وفي الرحلات النهارية أقل من ذلك. أما في القطار السعودي فالنسبة أعلى بكثير. إذ بدت مقطورة الدرجة الثانية، ذات رحلة صباحية انطلقت من الدمام عند الخامسة والثلث، وكأنها تعرضت إلى تسرب غاز منوّم، إذ لم يكن فيها مسافر واحد مستيقظ.

وبالعودة إلى موضوع السلام والكلام، نشير إلى أن غياب التحيات في الباص اللبناني يمكنه أن ينقلب خلال دقائق إلى مشروع صداقة. فأي شيء مهما كان تافهاً، يمكنه أن يكون شرارة حديث لا ينقطع عادة إلا بالوصول إلى بيروت: خبر على الراديو يستحق التعليق، حادث سير، حاجز لقوى الأمن الداخلي، أو حتى ضغط السائق على المكابح بشكل مفاجئ. يسألك جارك من أين أنت؟ والاسم الكريم؟ وعملك؟ ويتشعب الحديث ليصل في بعض الأحيان إلى أدق الخصوصيات..! ولهذا، لا بد وأن يلحظ المسافر في الرحلات الصباحية بشكل خاص، أن الكثيرين يعرفون بعضهم، يتبادلون أحاديث أشبه بتتمات أحاديث الأمس، ويثرثرون ضد بعضهم البعض.

تبديل المقاعد والالتزام بها
في قطار الدمام الرياض، يلاحظ المرء أن المسافر الذي استقر على مقعد معين يبقى جالساً عليه طوال الرحلة. ورغم أن عدد المقاعد الشاغرة يتبدل بشكل ملحوظ ذهاباً وإياباً في محطة الهفوف، فمن النادر جداً أن تلحظ أن أحدهم بدّل المقعد الذي كان جالساً عليه. ومن المرجح أن الأمر يشكل وجهاً من أوجه طابع الاستقرار العام والسكينة الداخلية عند المواطن السعودي. أما في الباص اللبناني، فحركة الركاب في تبديل مقاعدهم تشبه رقص الباليه.

ففي الاتجاه إلى بيروت تبدأ بعض المقاعد بالشغور بدءاً من مدينة جبيل. وما أن يشغر أحد المقاعد حتى يقوم شخص ليحتله من دون سبب واضح. وكأن كل المقاعد الأخرى هي أفضل من المقعد الذي كان يجلس عليه. وهكذا يبقى معظمهم في حركة تنقل دائمة من الخلف إلى الأمام أو بالعكس. ومن جهة النافذة إلى جهة الممر، ومن اليسار إلى اليمين، ومن ثم من اليمين إلى اليسار (بلا معنى)!!

وربما كان حب الحركة والتغيير الموجود في الجينات اللبنانية هو الذي رجح كفة القطار في اختياري لوسيلة النقل في السعودية. إذ بدلاً من التسمر في المقعد لأكثر من أربع ساعات، أستطيع أن أتجول داخله، فأذهب إلى مقطورة الكافتيريا لشرب القهوة (مع أن بائع القهوة يأتي تكراراً إلى جانب كل مسافر)، أو لتناول وجبة خفيفة (غالباً من دون شعور بالجوع). فالمؤكد أن المسافر الأقل استقراراً على قطار الدمام الرياض هو اللبناني كاتب هذه السطور.

مراقبة الناس
ويمكن للائحة الاختلافات ما بين القطار السعودي والباص اللبناني أن تطول جداً. فعلى سبيل المثال يوجد في القطار السعودي أجهزة لاب توب أكثر بكثير مما يمكن أن تجد في الباص اللبناني. فوسط الأمزجة المستنفرة لنقد أية حركة، يمكن للبناني إذا استعمل الكومبيوتر في الباص أن يلقى نظرات عدائية سببها الحكم فوراً عليه بأنه يتباهى على الآخرين، أو كأنه يقوم بذلك للفت النظر إلى مكانته.. حتى الهاتف الجوال عند بدايات ظهوره، كان من أهم أسلحة التباهي الشامل، وأكثرها إثارة للاستفزاز.

باختصار، في الباص اللبناني، يبدو المسافر وكأنه جزء من تفاعل ناشط حتى من دون حركة أو صوت. ولكي يتمتع بعزلته وينصرف إلى أفكاره وخياله وأحلامه، عليه أن يقرر ذلك. أما في القطار السعودي، فالقرار يبدو أسهل على التنفيذ، إلى درجة أن الأمر يفرض نفسه بنفسه.

أربع ساعات من العزلة الحقيقية لا يشوبها أي قلق أو توتر خاص بالرحلة. جرّبت القراءة مرة. مئة وخمسين صفحة من رواية دان براون ملائكة وشياطين ذهاباً، ومئة وخمسين صفحة إياباً. مرّت الساعات الأربع كلمح البرق، حتى أن الوصول إلى نهاية الرحلة كان مخيباً لاضطراري إلى التوقف عن القراءة. ومع ذلك، فالأمر لا يعني بالضرورة أنني سأعيد الكرّة، وكأنني وجدت حلاً لمشكلة، لأن لا مشكلة عندي في هذا المجال.

أربع ساعات من حرية التفكير كيفما أشاء من دون أن يعكّر هذا التفكير شيء، أحلم، أتخيل، أتمنى، أخطط لما سأقوم به عند الوصول، وإذا ضجرت من التطلع إلى الصحراء، أتطلع إلى مسافر بجواري، غالباً أمامي على الجهة الأخرى لكيلا يلحظ وجودي. أراقبه، ومراقبة الناس لم تمتنِ هماً. أحاول رسم صورة لحياته من خلال التفاصيل الصغيرة في مظهره وحركاته وما معه من أشياء. وأوفق أحياناً إلى تشكيل قصة كاملة منه، ولا يهمني إذا كانت هذه القصة صحيحة تماماً أم لا. ولكن المؤكد أنها لا تقل إثارة عن الرواية البوليسية.. فأعظم الروايات وأجملها هي تلك الموجودة في عقولنا وفي خيالاتنا. ولذا، أجد في مثل هذه الرحلات الطويلة كل متعة القراءة من دون أن يكون بين يدي كتاب.

القراءة الانعزالية ..
متعة وفائدة
خالد الطويلي
للمواصلات العامة في العاصمة البريطانية طقوس يؤديها معظم مرتاديها. فلو أنك أغلقت عينيك وأنت في أحد قطارات مترو لندن وسط ذروة الازدحام صباحاً أو مساءً، فإنك في معظم الأحيان ستظن أنك الراكب الوحيد على متن المقطورة، فلا توجد هناك أحاديث تدور حولك أو أصوات تسمعها سوى صوت الحديد يحك الحديد إلا ما ندر، فالكل مشغول من ناحية بقراءة الصحف والكتب والمجلات، ومنها صحيفة (مترو) التي توزع مجاناً بشكل يومي صباحاً في كافة محطات المترو داخل حدود العاصمة، ومن ناحية أخرى هناك الأسلاك المغروسة في آذان معظم الراكبين والممتدة نحو جهاز تسجيل أو (آي بود) مصدراً الموسيقى والنغمات المفضلة لدى كل راكب منهم.

كثير من الركاب في وقت الذروة لا يستطيعون الجلوس لأن المقاعد قد شغلت بمن صعد قبلهم، فتجدهم مترجلين أو مترجلات تمتد إحدى أذرعهم لتصل بالأصابع في نهايتها إلى ممسك تتعلق أو (تتشعلق) به بينما الذراع الأخرى تحمل في آخرها المطبوعة التي يستمر الراكب في قراءتها رغم ذلك الوضع الذي يبدو مزعجاً. كل يعيش حسب ذلك الطقس في عالمه المنعزل الذي صنعه لنفسه داخل دائرة خصوصيته التي حدد شكلها ولن يسمح لشيء أو أحد باقتحامها أو تجاوزها. ورغم أن القطار أو الحافلة تتحرك وتهتز باستمرار ومعها يهتز الركاب بطبيعة الحال وهم متلاصقون وقوفاً كالأسماك في علبة الساردين، فإن ذلك الوضع لم يتمكن بكل ما يحمله من غضاضة أن يمنع ذلك الطقس من الاستمرار، بل وكأنه يكرسه، فكلما اقترب الوجه من الوجه أو الجسم من الجسم فإن النظر والسمع والتفكير يبتعد. ويحمل هؤلاء الركاب وقوفاً وقعوداً، حقائب على أكتافهم وظهورهم، ولكن رغم ذلك الوضع غير المريح، فإنك تجد أن الأعين لا تنظر إلا إلى تلك الأسطر والآذان لا تسمع سوى تلك الموسيقى طوال فترة الرحلة.

ويستمر ذلك المشهد خارج إطار المواصلات العامة وإن كانت هي سبب ظهوره فيتكرر في الطائرات في الجو، والمتاحف والحدائق العامة على الأرض حيث القراءة الانعزالية هي المظهر الأكثر وضوحاً، وبغض النظر عن النوعية فالكم من القراءة كثير. والنوعية كما ذكرت غير مهمة لأن دوافع القراءة في المواصلات العامة تختلف عن دوافعها في أماكن القراءة كالمكتبات أو المنازل، فالقراءة في المواصلات العامة هدفها الأكثر وضوحاً هو الانعزال وتقليل الاحتكاك والحديث والنظر إلى ذلك الراكب الآخر.

وبمستوى القراءة المصاحبة لمثل هذا الطقس الذي تصنعه المواصلات العامة المزدحمة في لندن، فإن الإعجاب بمشهد القراءة نفسه لا مفر منه. ولعله للعين العربية سبباً آخر يبرر ارتفاع معدلات القراءة لدى تلك الشعوب مقارنة بالشعوب العربية التي تبين دراسة قامت بها منظمة اليونسكو أنهم يقرأون بمعدل ست دقائق ونصف (سنوياً) مع العلم أن هناك مواصلات عامة مزدحمة في الدول العربية وأن كثيراً من الناس يستقلونها لمسافات تزيد كثيراً عن ست دقائق. وأزعم أن الغالبية منهم يفضلون ألاَّ يسألهم الشخص الجالس قربهم عن صحتهم بمعدل ست مرات ونصف لكل محطة وأن الكتب متوافرة وكذلك الصحف اليومية، ولكن لماذا لا يقرأون؟ أو لماذا يفضلون مراقبة الناس والتحديق بهم أو النوم في غفوة تلو غفوة على الاستفادة من تلك الدقائق أو الساعات المملة على الطريق؟.

وقبل أن أهم بالبحث عن إجابة منطقية عن ذلك السؤال تذكرت نصيحة كانت والدتي تنصحني بها في صغري وتنهرني إن لم ألتزم بها: لا تقرأ في السيارة . فقد كنت في صغري قد وصلت إلى استنتاج مشابه للاستنتاج الذي ساق طقوس القراءة إلى المواصلات العامة في لندن، وهو أن قراءة مجلتي المفضلة يعجبني ويجنبني الاحتكاك بالكبار المملين خلال رحلات السيارة الأسبوعية من جدة إلى مكة أو الطائف. فالقراءة تقتل الوقت وتقصر المسافة. ولكن والدتي كانت لي بالمرصاد لأن القراءة في السيارة تسبب الدوخة والغثيان. وللقراءة في السيارة فعلاً هذا النوع من التأثير، ولن أكذّب والدتي -معاذ الله- فقد كانت أكثر من شجعني على القراءة واشترى لي القصص والكتب في صغري وكبري.

قررت أن أقرأ مثل باقي الركاب في رحلاتي اليومية داخل لندن ليس لأنني أفضل القراءة بالضرورة في عربة أو حافلة تهتز باستمرار وتسبب لي الدوخة، ولكنني بدأت أقرأ لأنني لم أود أن أكون ذلك الفرد في القطار الذي يحدق في كل داخل وخارج أو جالس وقائم ويوزع الابتسامات. أيضاً بدأت أقرأ لأنني اكتشفت أن التبسم لأشخاص لا تعرفهم يعطي إشارات مختلفة في مجتمع في عجلة دائمة من أمره ليس لديه وقت للمجاملات الكاذبة. بدأت أقرأ لأنني اكتشفت أن نصائح والدتي -أطال الله في عمرها- بأن القراءة في مكان يهتز يسبب الدوخة ليس دقيقاً تماماً خاصة بعد التعود عليه. كما أنني اكتشفت أن الرحلة التي تستغرق نصف ساعة في وسيلة المواصلات العامة تستغرق ضعف الوقت (إحساساً) إن لم تقرأ، ونصف الوقت إذا قرأت.

وجدت بعد ذلك أنني أصبحت مثلهم، أركب القطار في محطة ويسير بي القطار لأكثر من ساعة لا أرى خلالها سوى أسطر المطبوعة التي أقرأها. لم يعد يهمني ما يصنع الرجل الذي يجلس أمامي أو لون ملابس الفتاة التي تجلس إلى جواري. صنعت لنفسي دائرة خصوصية مثل باقي الركاب. ودخلت إلى خضم البيئة التي تصنعها المواصلات العامة المزدحمة بكافة طقوسها فوجدت أنني قرأت أربعة كتب وكماً لا أستطيع أن أحصيه من المجلات والصحف خلال فترة الأشهر الأربعة الأولى. وهو رقم لا أستطيع أن أدعيه لنفسي بالنسبة للكتب على الأقل خلال عام أو أكثر قبل ذلك.

وللوهلة الأولى، يمكنك أن تصل إلى استنتاج مفاده أن القراءة تتسبب في الفوضى واتساخ المواصلات العامة عندما تدخل إليها فإذا بالصحف منثورة بكثافة على المقاعد، ولكن ذلك المشهد ثقافي أيضاً، فالركاب لا يرمون بما يقرأونه في سلة المهملات بعد الانتهاء من القراءة، ولكنهم يتركونه على المقاعد حتى يتسنى لغيرهم الاستفادة منه بعدهم. لم أكن أتصور أنني سوف أقرأ يوماً صحيفة ليست لي، أو أن أقرأ موضوعاً لا يهمني على الإطلاق، ولكن عندما تصبح القراءة ضرورة لشغل الفراغ وتجنب الآخرين، فقد تجد نفسك يوماً تقرأ مكونات عصير البرتقال الذي تشربه حتى لا تضطر إلى النظر لمن يجلس أمامك، وقد يكون للصحة النفسية في ذلك الموضوع رأي، خاصة عندما تبدأ في اكتشاف أن المحطة التي وددت أن تنزل بها قد فاتت منذ ثلاث أو أربع صفحات.

مترو الأنفاق..
حياة صاخبة تحت أرض القاهرة
إسعاد عثمان
عربات زرقاء على الطريقة الفرنسية، أو رمادية على الطريقة اليابانية.. مقاعد بذات اللونين، وتلك الحلقات التي تتثبت بها أيادي الركاب الواقفين في الممرات بين صفوف المقاعد، وكأنها أطواق نجاة صغيرة بيضاء.. تذاكر صفراء، يقطعها في المنتصف ذلك الشريط الممغنط، ماكينات المرور الإلكترونية. صفير الأبواب وهي تهم بالانغلاق، وذلك الصوت التحذيري الذي يرجو من السادة الركاب الابتعاد عن الأبواب ، والإيقاع الرتيب الذي تصنعه حركة القطارات على القضبان الحديدية. ووسط كل هذا، أمواج البشر.. هذه هي مفردات عالم مترو الأنفاق في القاهرة.

المترو للجميع
عالم متكامل، نما خلال عقدين ليحتل مساحة كبيرة على خريطة العاصمة المصرية، ومساحة أكبر بكثير في حياة سكانها. فأحد الأشياء المميزة في مترو الأنفاق، والتي تجعل من عالمه حياة كاملة، أن رواده خليط متفاعل من طبقات اجتماعية مختلفة، وأعمار مختلفة كذلك. على عكس وسائل المواصلات العامة التي تتحرك هناك بالأعلى ، والتي تفرض طبيعتها نوعاً من التشابه بين مرتاديها. فالباصات التقليدية الأرخص سعراً، يرتادها في الغالب من لا تحتمل ميزانيته إرهاق وسيلة مواصلات أكثر راحة، بينما سيارات الأجرة يرتادها الموسرون. طلبة المدارس وشباب الجامعة يفضلون الميكروباص لسرعته، بينما يكرهه كبار السن للسبب نفسه.

في المترو يختلف الأمر. فرواده يمثلون جميع شرائح المجتمع.. سكان الأحياء الراقية والشعبية.. طلبة المدارس، وشباب الجامعة.. الموظفون وربات البيوت، وأساتذة الجامعة.. رجال متأنقون بحقائب جلدية مليئة بالأوراق والملفات، وممرضات في مستشفى. فالميزات العديدة تجمع الآراء المختلفة حوله، وتكلفة الرحلة في متناول الجميع، والأهم من ذلك أنه الأسرع بين البدائل المتاحة. فالرحلة من أحد أطراف العاصمة إلى قلبها عبره، تستغرق ما بين ثلث إلى نصف الساعة، وهي المسافة التي لن تقطعها السيارات أبداً في أقل من ساعة ونصف الساعة، وبعد أن يفقد راكبها أعصابه من شدة الزحام والملل. هذا التنوع الكبير في الخلفيات الاجتماعية والثقافية التي يمثلها راكبو المترو، يعطي للرحلة معه أبعاداً أعمق من كونها مجرد انتقال روتيني من مكان لآخر، ويجعل منها لقطات لحياة اجتماعية غنية بالتفاصيل، هي في أصلها جزء من صورة أكبر تضم المجتمع ككل.

الحميمية تحت الأرض كما فوقها
فعلى الرغم من أن هذا التنوع كان يمكنه أن يكون باعثاً على الانعزال، وتفضيل كل راكب الانفراد بنفسه، فإن الأمر لم يكن كذلك. ففي مجتمع تعتبر الحميمية جزءاً من تكوين العلاقات بين أفراده، يختلف الأمر كثيراً.. ليست حميمية قرب أو ود في الطريقة التي ينظر بها أحدهم إلى الآخرين، لكنها الاعتقاد بأنه ليس هناك ما يدعو إلى الاحتفاظ بالحواجز .. يكفي أن يحمعنا مكان واحد، أو موقف واحد، ليصبح الحال وكأن بيننا نوعاً من الخيوط المشتركة. وأحياناً تملي هذه المشاركة على كلينا حقوقاً وواجبات. حميمية يراها البعض شيئاً طيباً، ويراها البعض عيباً اجتماعياً خطيراً.

هذه الحميمية هي التي تسمح لطرف ثالث غريب، أن يتدخل في حوار بين اثنين.. إن لم يكن بالحديث، فبنظرات العيون التي تخبر بوضوح بأن صاحبها يتابع. هي التي تجعل من المألوف للأم التي تحمل رضيعاً أو طفلاً صغيراً، أن تتلقى مداعبات الفتيات لطفلها، وأن تسمع حديثاً تشاركها فيه الأمهات الأخريات عن هموم العناية بالصغار ورعايتهم. هي التي تسمح بسؤال الجارة عن اسم المتجر الذي اشترت منه هذا الثوب، وعن ثمنه. هي التي تدفع لتقديم الابتسامات وكلمات التعاطف لجار مريض أو مهموم، وهي نفسها التي تعطي الحق لأحدهم في أن يلقي بتعليق ساخط، أو حتى يتشاجر مشاجرة صغيرة، إن أدى الزحام وتدافع الركاب داخل العربات وقت توقفها بالمحطات، إلى أن يدفعه أحدهم، أو يطأ بطريق الخطأ على قدمه.

خيارات تمضية الوقت
ومن الأمور التي تعكس هذا التنوع، هناك النشاطات التي يقوم بها الركاب لتمضية وقت الرحلة. فباستثناء النوم الذي يجعله تصميم المقاعد داخل عربات المترو خياراً صعباً، ينشغل الركاب بأشياء كثيرة. فالحديث هو الخيار الأول للاجتماعيين الذين يفضلون ارتياد المترو مع صحبة، تضمن لهم هذا الخيار. وإن لم يكن الأمر كذلك، فخيار الحديث مع الغرباء ما زال قائماً، ويمكن لأشياء صغيرة للغاية أن تكون بداية خيط طويل من الحديث يستمر حتى نهاية الرحلة. وعلى الجهة الأخرى، يكون التأمل الساكن، والعيش في العوالم الداخلية الخاصة. فرتابة حركة القطار تساعد على الشرود بعيداً، وحركة الركاب المليئة بالحياة تفتح مجالاً للتأمل المدقق والناقد، ليس في أحوال البشر فحسب، ولكن ربما في معاني الحياة الأكثر عمقاً وتعقيداً.

القراءة في المترو هي خيار آخر، لكنه خيار له قواعده الخاصة. فالصحيفة التي تمثل في مجتمع آخر حاجزاً يختفي خلفه قارئها، وينعزل معها في عالمه الخاص بعيداً عن البشر من حوله، تمثل أحياناً أداة للتواصل. فصاحب الصحيفة يخرجها من حقيبته ويبدأ بالقراءة، ليجد بعد دقيقتين أن جاره يشاركه قراءة ذلك الخبر، (ألم أحكي لكم عن الحميمية؟!).. يلتفت الجار إلى مرافقه، ويبدأ في التعليق على ما قرأ، وينتهي الأمر إلى حديث متصل، لا يشارك فيه ذلك الجار ومرافقه فقط، ولكن صاحب الصحيفة كذلك!

مع الكتب الأمر مختلف.. لن يحدق أحد في صفحات الكتاب، ويشارك قارئه متابعة سطوره. مخاطر قراءة الصحف يقابلها إذن أمان تام حين يتعلق الأمر بقراءة كتاب، بشرط ألا يكون عنوانه لافتاً للانتباه بشكل أكثر من المعتاد. هكذا تعلمت ما الذي يمكن أن أصطحبه معي في رحلاتي بالمترو إن أردت تمضية الوقت في القراءة، بعد أن جعلتني عناوين بغرابة أيقظ قواك الخفية أو شوربة دجاج للحياة ، أستقبل كماً لا بأس به من نظرات الفضول والاستغراب، التي لم تكن موجهة للكتاب نفسه، لكن لصاحبته بالأساس!

مع الكتب عشت تجربة قراءة طيبة. كان ذلك حين كنت متأثرة بما أقرأه في رواية مريد البرغوثي رأيت رام الله ، والتي يحكي فيها عن تجربة عودته لوطنه فلسطين بعد ثلاثين عاماً من الإبعاد، ووجدت موسيقى زهرة المدائن تملأ الهواء من حولي، وتصنع من الرواية فيلماً أعيش أحداثه الثرية والموجعة. تجربة جميلة، ما كنت لأعيشها -وهذا هو الغريب في الأمر- لو أنني كنت أقرأ تلك الرواية في هدوء غرفتي، بعيداً عن صخب عالم المترو. والحقيقة أنني توقفت بعدها عن نقد التجربة الجديدة للإذاعة الداخلية التي تبث الموسيقى في بعض رحلات المترو، باعتبارها نوعاً من إجبار الركاب على ممارسة نشاط لم يختاروه بأنفسهم.. ليس لأنني غيرت نظرتي إلى الأمر، أو اقتنعت به، ولكن فقط كنوع من الشعور ببعض الجميل!

أضف تعليق

التعليقات