قول في مقال

فلتعبر البحر
تعقيباً على مقال عرب عند أطراف أصابعكم

بعدما تناول رئيس التحرير في عدد سابق قضية التواصل الثقافي ما بين الجزيرة العربية من جهة، وبلاد الشام ومصر من جهة أخرى، الكاتبة المصرية ليلى أمل تقدم قراءتها للقضية نفسها من زاوية المنتمي إلى الطرف الثاني من هذا الحوار، مستبشرة بتوافر المزيد من التحولات التي يمكنها أن ترقى بهذا التواصل إلى المستوى الصحيح والمطلوب.
على مدى السنوات التي شكلت علاقتي بعالم الثقافة والأدب، ظلت مفردات هذا العالم في قاموسي كلها مفردات مصرية. أسماء الأدباء وأعمالهم.. مدارسهم.. والمراحل التي مرت بها الحركة الثقافية، مرتبطةً بالحالة السياسية والاجتماعية المصرية. فطبيعة مجتمعي.. المجتمع الذي يعتز باكتفائه الثقافي، والذي يغنيه تنوعه الداخلي عن البحث عن تنوع خارجي يثري حركة الثقافة فيه، جعلتني لا أشعر بالحاجة إلى فتح نوافذ على عوالم أخرى من الأدب العربي، وجعلتني مثله مكتفية بثقافته. إلى أن طرقت أسماعي مؤخراً أسماء كتّاب غير مصريين أغلبهم من الخليج، دفعني ما قرأت عنهم، إلى أن أقرأ لهم، وأن أتعرف إلى مساحة جديدة من الأدب العربي المعاصر، لم تكن عينايا تراها من قبل. قراءتي لمقال عرب عند أطراف أصابعكم للأستاذ محمد العصيمي المنشور في عدد يوليو وأغسطس، أعادت إلى الحياة أفكاري حول هذا الأمر، وأضافت إليها أخرى جديدة.

انقسام الخريطة الثقافية
بالتأكيد هناك نوع من الانفصام الثقافي بين بلاد الشام ومصر، وبين دول الخليج، لكن هل هو تهميش متعمد للثقافة والأدب الخليجيين؟ لا أعتقد ذلك. حتى وإن كانت هناك أصوات تتحدث بنبرة تميل إلى التعصب، لكن هل تعبر هذه الأصوات عن الشريحة العريضة من المثقفين، أو تملك وحدها تغيير المشهد الثقافي؟ أيضاً، لا أعتقد ذلك.

لسنوات طويلة، كانت خريطة الإبداع الثقافي العربي، تنقسم بالفعل إلى مركز وأطراف. ومع تغير أوضاع الحياة سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً في العالم العربي، تغيرت معالم الخريطة القديمة، وتشكلت في شكل مختلف عن ذلك الذي عاشت عليه لأعوام مضت. لكن هل تبدلت الرؤى الثقافية للطرفين.. المركز والأطراف، تبعاً لتغير معالم الخريطة؟ المشكلة أن الجواب هو لا.

فبالنسبة لدولة من دول المركز كمصر، تشكل فكرة التمسك بفارق تفوق ثقافي كبير لصالحها، نوعاً من المكابح التي تحد من تقبل الثقافة الخليجية المعاصرة كمنافس على درجة من القوة، أو تكتفي بالتقدير الفردي للأسماء الأكثر شهرة وثراءً في تجربتها الخاصة، وتتروى كثيراً في إعطاء هذا التقدير للتجربة العامة ككل.

التعامل مع الآخر.. أي آخر؟
هذا بالإضافة إلى بعد آخر تفرضه حقيقة أن منظومة التفكير العربية التي تعاني بوجه عام صعوبة في التعامل مع الآخر ، تعاني كذلك مشقة وتخبطاً فوق الصعوبة، حين يكون هذا الآخر ليس آخراً بالكامل. وأنها ربما تتمكن من التعامل مع نقاط التشابه في إطار عام من الاختلاف، لكن يصعب عليها كثيراً أن تتعامل مع نقاط الاختلاف في إطار عام من التشابه، أو ربما التماثل. فبينما يستطيع الناقد أو المثقف بشكل عام حين يسلِّم بأن الإطار العام هو الاختلاف، أن يسترخي في مقعده وهو يتابع قراءته لكتاب ينتمي إلى الثقافة الغربية أو الأجنبية، ويبتسم، أو يتأمل في حياد، حين يرى فكرة أو ملمحاً من ملامح الحياة الاجتماعية يتشابه مع أفكاره وحياته، نجد أن الأمر يتحول لشعور بالغربة ونوع من التوتر، ربما يفضي إلى الرفض، حين يلمح ما يعاكس فكره أو يبدو شيئاً غريباً عن ملامح حياته، أو حتى لا يطابق توقعاته أو الصورة التي رسمها في مخيلته مسبقاً، في رواية عربية خليجية.

تقصير المؤسسات
الثقافية والإعلام
أما على الجانب الآخر، فلا أرى أن المؤسسات الثقافية الخليجية، قد قامت بواجبها تجاه تعريف المثقف المصري بالثقافة والأدب الخليجيين.

فدوماً تقف عقبة الحصول على الأعمال الأدبية الخليجية، أمام المهتمين بالتعرف إلى هذه الثقافة سواء كان هذا على مستوى القارئ العادي، أو الناقد المتخصص الذي لن يستطيع أن يعد دراسة نقدية دقيقة إذا كانت مادة الدراسة غير متوافرة أصلاً بين يديه، ولا يحصل إلا على نماذج قليلة منها عن طريق الأصدقاء أو المعارف ممن يعيشون في دول الخليج!

كما أن الدعاية الإعلامية الفقيرة تظلم الإنتاج الأدبي الخليجي. فخلال الحدث الثقافي الأول في مصر معرض القاهرة الدولي للكتاب ، لا تلمح من دور النشر، أى نوع من الجهد في التعريف بالأعمال الأدبية الخليجية، أو بالكتّاب الخليجيين المعروفين في بلدانهم. فلا يقبل على اقتناء الأعمال الأدبية الخليجية، إلا ناقد مطلع على الإنتاج الخليجي بحكم تخصصه، أو قارئ عرف بالصدفة باسم كاتب متميز، أو عمل لاقى استحساناً، أو أثار جدلاً.

عوامل التواصل متوافرة
كقارئة، أجد أن المجال الآن مفتوح لتكوين علاقة طيبة بين المثقف المصري، والثقافة العربية الخليجية، خاصة في الوقت الذي اختصر فيه عصر السماوات المفتوحة كثيراً من المسافات بين المجتمعات ذات الثقافات المختلفة، فلم تعد مفردات الحياة الخليجية غريبة على المجتمع المصري. ولا أعتقد أن هناك عقبات حقيقية أمام هذه العلاقة في هذ التوقيت.. ربما تتقدم ببطء بسبب حالة الركود الثقافي العام الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية، لكن المجال بالتأكيد يتسع لها. والمثقف المصري في النهاية قادر على استيعاب وقبول منتج ثقافي غبر مصري. ربما ليس بسهولة، لكن إن أثبت هذا المنتج جودته فسيقبل عليه. فأدب أمريكا اللاتينية وجد قبولاً كبيراً في مصر، مع أنه من أدب الفقراء الذي يحتاج جهداً لينتشر، وليس كالمنتجات الثقافية الأمريكية التي تسعى بنفسها لتنتشر، ولا الأوروبية التي تسعى إليها النخبة المثقفة انبهاراً، أو رغبة في التميز.

الأدب اللاتيني يحتاج لمترجم، ودار نشر في داخل البلد المستوردة له.. يحتاج لمن يتبنى المشروع ويبذل لأجله جهداً، كي يصلني كقارئة. الأدب الخليجي سيصلني إن عبر هو البحر إليَّ فقط.. فهل يفعل؟

أضف تعليق

التعليقات