حياتنا اليوم

عبدالله الأسمري..
القدرة والطموح والحب و.. المتحف

  • 66a

إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يتعلق بالتحف الفنية والأشياء الجميلة؟ وإلى أي مدى يمكن للطموح أن يذلل القدرات المادية المحدودة؟ وإلى ماذا يمكن أن ينتهي هذا الطموح الممتزج بحب اقتناء الشيء الجميل؟
الأجوبة عند عبدالله بن محمد الأسمري.. الذي نعرض هنا لصورته الشخصية.
ولد عبدالله الأسمري في مدينة أبها، عام 1371هـ، والتحق في العام 1390هـ بالقوات الجوية الملكية السعودية بالظهران، حيث وصل إلى رتبة ضابط صف، ومن ثم تقاعد قبل سنتين (1424هـ).

وإضافة إلى عمله العسكري، انهمك الأسمري طوال هذه السنين بشراء واقتناء كل الأشياء التراثية والفنية والأثرية التي كان يستطيع الوصول إليها. يقول عن ذلك: اقتبست حب التراث من الوالد -رحمه الله- عندما كنت طفلاً وأنا أرى أدواته الشخصية من خناجر وسيوف وأدوات عمله الزراعي. وعندما توفي كنت أتذكره لدى رؤية هذه الأدوات فأعتني بها وأنظفها وأرتبها. كنت آنذاك في العاشرة، وعندما أصبحت في العشرين بدأت باقتناء كل ما هو أثري وقديم، من دون أن أتخصص في أي صنف محدد.. . والنتيجة؟

مجموعة.. وأية مجموعة؟
على مدى ثلاثين عاماً وأكثر من جمع التحف والأشياء الجميلة والأدوات التراثية، تضخمت مجموعة الأسمري إلى أن ضاقت بها كل الأماكن. ودعماً له في الحفاظ عليها، وضعت قيادة القاعدة الجوية في الظهران في تصرفه مبنى المطار القديم لإيواء مجموعته.

فما الذي يمكن للزائر أن يجده في هذا المتحف الذي يشغل بالكامل مبنى ضخماً؟
مجموعة من الأسلحة والسيوف والخناجر، مخطوطات، عملات، طوابع، آنية طعام خشبية ونحاسية، لُقى أثرية حجرية عليها نصوص بالخط الحميري، متحجرات، ساعات يد، آلات طباعة وتصوير وخياطة، أدوات الفروسية، أوسمة، صور فوتوغرافية.. وأيضاً الأدوات الطبية القديمة والمعدات العلمية وعشر سيارات تعود إلى النصف الأول من القرن العشرين، منها الكاديلاك والكرايزلر والفورد والرولزرويس وصولاً إلى كوب الكرتون الذي يحمل شعار أرامكو السعودية!!

المبنى ممتليء بالكامل، بقاعته الرئيسة والقاعات الجانبية العديدة.. وباستثناء قاعة المدخل حيث رتبت بعض القطع بشكل يليق بها، تبدو آلاف وآلاف القطع في القاعات الأخرى مكدسة فوق بعضها البعض.. وقبل أن يستيقظ الزائر من دهشته، يغرقه الأسمري في مزيد من الدهشة بقوله: الموجود في هذا المبنى يشكل نحو أربعين بالمئة فقط من مجموعتين. الباقي يحتل مبنى آخر في الجهة الأخرى من المنطقة، إضافة إلى كمية أخرى في الأحساء وأبها.. !! والمجموع؟ يقول: عدة ملايين.. لا أعرف .

الثروة في الطموح
نسأله: كيف تمكنت من شراء كل هذا؟ هل ترك لك الوالد ثروة ساعدتك على ذلك؟ .
فيجيب: أبداً، فالوالد -رحمه الله- كان مزارعاً. بدأت بالاقتناء من راتبي كعسكري. ولكن الحظ ساعدني في أنني بدأت مجموعتي باكراً، قبل أن ينتبه الناس إلى قيمة الأشياء القديمة. ولا تزال هذه المجموعة تستهلك حتى اليوم القسم الأكبر من مدخولي .

ويضيف: واجهتني صعاب كبيرة، ولكن بفضل من الله، ومن ثم مساعدة أبنائي سيف ومحمد وسلطان وتشجيعهم المتواصل لي، تمكنت من تذليل الكثير من هذه الصعاب .

وما هي القيمة المادية لهذه المجموعة؟
لا أعرف.. لقد عرض عليّ أحد أبناء المنطقة الشرقية الذين لهم باع طويل في هذا المجال ثلاثين مليون ريال لشرائها. ولكني رفضت. وسأرفض حتى لو عرض عليّ مائة مليون.

ثمة ما هو نبيل وغامض
في شخصية عبدالله الأسمري ملامح عميقة لا يستطيع المرء قراءتها إلا بعد التفكير فيه وبالزخارف الصغيرة المختبئة في حنايا حديثه وتصرفه بمجموعته.

فالثوب الأبيض والحديث عن التحف الأثرية لا يخفيان تماماً شخصية صاغتها الحياة العسكرية على مدى أكثر من ثلاثة عقود. فالرجل مباشر وصريح وواضح. لا يبدو عليه أي تذمر أو تبجح بما بذله في سبيل تشكيل مجموعته، بقدر ما يبدو عليه السرور الرصين بالنتيجة.

قد يستغرب المرء وهو يزور متحفه وجود بعض التحف الحقيقية التي تليق بأرقى المتاحف مثل مخطوطات القرآن الكريم، أو ساعة جيب جلالة الملك فيصل، يرحمه الله، أو درع فارس مغولي من القرن السابع عشر، أو سيف قديم مُطعّم بالفضة والذهب بجوار أشياء حرفية جديدة يمكن العثور عليها في أسواق اليوم.. ولكن التغلغل إلى أعماق الرجل قليلاً يؤكد أنه مهتم بقيمة الشيء وليس بثمنه.. بدلالاته الثقافية والحضارية، وليس بالقدرة على الإبهار التجاري. وبموجب مثل هذه النظرية العميقة إلى الأمور يصبح الشيء البسيط الذي يحمل شعار أرامكو السعودية القديم أو الجديد، على سبيل المثال، قطعة يجب الحفاظ عليها من وجهة نظره.

ويتعدى سخاء الرجل ما هو ظاهر في فتح أبواب متحفه أمام الزائرين مجاناً. إذ يتجلى أيضاً في دعوته غير المباشرة للآخرين إلى مشاركته الاستمتاع بهذه المجموعة. ولذلك يوزع بعض الطاولات في أرجاء المبنى واضعاً عليها كتالوجات الطوابع والنقود ومجلات الفنون والآثار، توفيراً للجو الملائم لمن يريد أن يقرأ أو يبحث. كما بدأ بتشكيل مكتبة خاصة حباً بإطلاع الناس على الماضي وفنونه.. ويقول إنه يقبل بإعارة الكتب لهذه الغاية.

وبخلاف أحاديث هواة جمع التحف، يكاد الحديث مع الأسمري أن يخلو تماماً من الإشارة إلى ثمن أية قطعة اشتراها. حتى عندما يسأله المرء عن ثمن هذا السيف أو ذاك الحجر، يجيب فوراً: لا أعرف، لا أذكر . ويبدو عليه فعلاً أنه غير مهتم بهذه الناحية.. ولكن بالمقابل، تكثر في حديثه مفردات مثل: تاريخنا، تراثنا، وطننا، ماضينا.. ولا يبدو عليه التجهم أو الحسرة، إلا عندما يفكر في القطع الأثرية والفنية المحلية التي انتقلت إلى الخارج تصديراً أو تهريباً.

ويتأكد عمق اهتمام الأسمري بالتراث الوطني من كون أكثر من نصف مجموعته ينتمي إلى التراث المحلي. أما النصف الثاني فمعظمه يعود إلى البلدان الإسلامية في عصور مختلفة: الهندي والعثماني والفارسي والمغربي وغيره، في حين أن قلة قليلة (نسبياً) تعود إلى تراث الحضارات الغربية.

الأغلى على قلبه
ومتى ستتوقف عن شراء التحف؟ أليس عندك ما يكفي؟
هذا شيء لا أستطيع التوقف عنه. ولكني أصبحت الآن أقتني بانتقائية أكبر من السابق. وعندما أجد قطعة ملائمة، فسأبذل جهدي لاقتنائها .

وقبل أن نغادر متحف الأسمري، خطر ببالنا سؤال: لو افترضنا أن حريقاً اندلع في هذا المتحف، لا قدّر الله، وأُعطيت إمكانية إنقاذ قطعة واحدة فقط من ملايين القطع هذه، فأية قطعة تختار؟
فأجاب فوراً: جنبية الوالد . ومشى بنا صوب إحدى الخزائن الزجاجية، ليشير إلى خنجر طويل قديم ومُطعّم بالفضة، مضيفاً: هذه هي القطعة التي أنقذها، لأنها كانت الأولى التي أشعلت في نفسي حب التراث.. علّني أبدأ بها مجموعة جديدة .

أضف تعليق

التعليقات