ديوان اليوم

إعط القوس باريها

  • 76b
  • 76a

وضع الشخص المناسب في المكان المناسب من أكثر المبادئ ارتباطاً بمفهوم إدارة الجودة، ولذا نجد المؤسسات التي تسعى إلى تحقيق أعلى مستويات النجاح والتقدُّم تحرص كل الحرص على تطبيقه باعتباره إحدى أهم الوسائل التي تقود إلى تحقيق الأهداف. والسؤال الذي قد يتبادر إلى الأذهان بعد قراءة هذه المقدمة هو: ما علاقة ما جاء بها من حديث عن مبادئ الجودة وتحقيق الغايات..بديوان الأمس، وهل يمكن أن يكون أولئك البُداة الحفاة قد تفتَّقتْ أذهانهم عن مثل هذه المفاهيم التي يُظنَّ ظنّاً يُوشِك أن يبلغ درجة اليقين أنها ناتج من نواتج حضارة القرن العشرين؟! ويأتي الجواب: نعم لقد عرف أولئك البُداة ومنذ ذلك الزمان مفاهيم الجودة وحُسْن الأداء، بل حضُّوا على التمسُّك بها، وذلك ما يكشف عنه ديوانهم وأمثالهم، فمن تلك الأمثال قولهم: أعطِ القوس باريها، أي استعن على العمل بمن يُحسنه. وقد قال شاعرهم:
ياباريَ القوس برياً لستَ تُحكِمُهُ
لا تَظلِم القوسَ، أعطِ القوسَ باريها

فنحن أمام بيت يكشف -صياغةً وانتقاءً للألفاظ- عن حرص شديد على ترسيخ مفهوم الإتقان، وأنَّه لازم من لوازم التصدي للأداء على كلِّ المستويات، ومع مختلف أنواع الأعمال. فهل هناك ما هو أقسى من الوصف بالظلم -وأصله في اللغة وضع الشيء في غير موضعه-: لا تظلم القوسَ بأن تتصدى لبريها وأنت لم تبلغ بعدُ مرحلة الأهليَّة لتعاطي ذلك الفعل، والحلُّ المطروح ينحصر في خيار أَوْحد: التنحِّي والاستقالة التي تَعقبُ تسليم المهمة إلى من يُحسن القيام بها.

وقد جاء الإسلام فزاد ذلك المفهوم ترسيخاً؛ إذ عدَّ التنازل عنه وتضييعه من صور تضييع الأمانة، وتضييعها من علامات الساعة. فها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعلنُ محذِّراً من ترك العمل بهذا المبدأ: إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظرِ السَّاعة . ومثل آخر من أمثالهم يُؤكِّد تمكُّن ذلك المفهوم من عقولهم ونفوسهم، وهو قولهم: قَتَلَ أرضاً عالمُها ، ويَعنونَ به: ضَبَطَ الأمرَ مَنْ يَعلمه وحَذِقَ به. يُقال: قتلتُ الشيءَ عِلماً، إذا علمته من وجوهه. فالفيصل بين أن يَقْتُلَ وأنْ يُقْتَلَ هو التزوُّد بخبرات ومهارات قطعِ المفازات. فالعِلْمُ هنا علم ممارسة وتجريب، كما أنَّ بري القوس كذلك. وتلخيص المسألة وما شابهها نجده في قول شاعرهم:
وَمـا هَـداكَ إلَى أرْضٍ كَعالِمِها
ومـا أعـانَكَ في غُرْمِ كَغَرَّامِ
ولا استَعْنتَ على قَوْمٍ إذا ظَلَمُوا
مِثلَ ابنِ عمٍّ أبِيِّ الظُلْمِ ظَلاَّمِ

وصورة أخرى لهذا المبدأ لها تعلُّق خاصٌّ بأمر الممثِّلين والمُفَوَّضِينَ المفاوضين، والتمثيل: -سواءً كان على مستوى الدول، أو على مستوى المؤسسات والشركات والإدارات نزولاً إلى مستوى علاقات الأفراد بعضهم ببعض: أُسراً وأقارب وأصدقاء وزملاء- يتطلَّبُ مواصفات خاصة، فمن يُعقد العزم على انتدابه للتمثيل على أيَّ من المستويات المذكورة فلا بُدَّ من أن يكون مزوَّداً بنوعين من الزاد، الأوَّل: سمات ذاتية تتحلَّى بها شخصيته، والنوع الآخر: تعليمات واستراتيجيات وأهداف واضحة ومحدَّدة من قِبل المرسِل. وفقدُ أيٍّ من النوعين ينتج عنه فشل مَهَمَّة المرْسَل التي انْتُدِبَ لأجل إنجازها. هذا ما يضع أيدينا عليه شاعر من مُخضْرِمي الدولتين (الأمويَّة والعباسيَّة)، هو أبو عطاء السِّندي حيث يقول:
إذا أرسلتَ في أمر رسولاً
فأفهِمْهُ وأرسلـه أديـبـا
فإنْ ضيَّعتَ ذاك فلا تَلُمْهُ
على أنْ لم يكُنْ عَلِمَ الغُيوبا

الأديب: هو الإنسان الظريف، ذو الرأي الحَصيف الذي يُحسن تناول الأمور وتقليبها على وجوهها، وإفهامه تزويده بمرادك وأهدافك وما ترمي إليه وتتطلع إلى تحقيقه. قال المتنبي مبيناً أهمية هذه السِّمات في إنجاح المهمات وتحقيق الغايات:
الرأيُ قبلَ شجاعةِ الشُّجعانِ
هـو أوَّلٌ وهي المحِـلُّ الثاني
فـإذا هما اجتمعا لنفسٍ مِرَّةٍ
بَلَغَتْ مـن العلياءِ كلَّ مكانِ
ولـرُبَّما طعنَ الفتى أقرانَـهُ
بـالرأي قَبْلَ تَطاعُنِ الأقْرانِ

ويؤكدُ ماذهب إليه المتنبَّي شاعرٌ آخر من شعراء الدولة العباسيَّة -هو إبراهيم بن العباس الذي كان كاتبًا للمعتصم والواثق والمتوكل- حيث يقول:
وإذا الحروبُ غَلَتْ بَعَثْتَ لها
رأيًاً تَـفَلُّ بـه كتائبَهَا
رأياً إذا نَبَتِ السُّيوفُ مضى
قُـدُماً بها فَشَفَى مَضارِبَها
يُمْضِي الأُمُورَ على بَـدِيهَتِهِ
وتُـرِيهِ فِكرتُـهُ عواقبَها
فَيَظَلُّ يُورِدُهـا ويُصْدِرُهـا
وَيَـعُمُّ حاضرَها وغائِبَها

وهناك جانب آخر ذو أهميَّة بالغة في ضمان توفير النجاح لتنفيذ المهمات -في أيِّ مجال وعلى أيِّ مستوى- وهو جانب وضع الخطط ورسم الاستراتيجيات. وقد أدرك قدماؤنا -كما يكشف عنه ديوان الأمس- خطورة دور المخططين وواضعي الاستراتيجيات، فنصُّوا على حضورهم القوي في مرحلة التنفيذ -على الرغم من غياب ذواتهم- من خلال ما رسموا وما هندسوا؛ فبصماتهم شديدة الوضوح، وقسماتهم قويَّة السطوع في كلِّ خطوة من خطوات تلك المرحلة. وها هوَ الشاعر الكبير، ابن الرومي يتغنَّى -في إحدى قصائده- بدور واحدٍ منهم (صاعد بن مُخلِّد)، حيث يقول:
تَـرَاهُ عَـنِ الحَربِ العَوَانِ بِمَعْزِلٍ
وآراؤهُ فيها، وإنْ غابَ شُـهَّـدُ(1)
كما احتجبَ المِقْدارُ(2) والحكمُ حُكمُهُ
على الخَلْقِ طُـرّاً(3)، ليس عنه مُعَرَّدُ(4)

والهاء في تراه تعودُ على الممدوح، فهو غائبٌ جسداً، حاضرٌ رأياً وأثراً يفعلُ الأفاعيل ويُبطل الأباطيل، يُنزلُ الجميعَ على حكم رسمـه وتخطيطـه دون أن يترك لأية شاردةٍ أوْ واردة منفذاً للفرار.

(1) شُهَّدُ: حاضرات. (2) المِقْدارُ: القَدَر.
(3) طُرّاً: جميعاً. (4) مُعَرَّدُ: فرار.

أضف تعليق

التعليقات