الثقافة والأدب

الظــــاهـر
رواية كويلو الجديدة
الطابع السيري في مغامرة بين باريس وكازاخستان

  • 82c
  • 80a
  • 82a
  • 82b

هل من الممكن أن تحتل رواية قائمة الكتب الأكثر مبيعاً قبل شهر من صدورها؟ هذا ما حدث فعلاً في البرازيل عشية الإعلان عن الصدور الوشيك لرواية الكاتب البرازيلي باولو كويلو الجديدة وهي التاسعة في سياق أعماله الروائية. فالرواية التي تحمل عنواناً ملتبساً في ترجمته العربية هو “الظاهر” أو “الزهير” احتلت المرتبة الأولى عبر نظام “الحجز المسبق” الذي بات رائجاً في عالم النشر الغربي وقد بيعت حقوق الترجمة فوراً في نحو ثلاث وأربعين لغة في ثلاثة وثمانين بلداً. واللافت هو صدور بعض الترجمات العالمية متوازية مع الطبعة البرازيلية الأم في دول عدّة مثل: إيران وتشيكيا وكازاخستان وإيطاليا والنمسا وسويسرا وألمانيا والبرتغال والمجر وفرنسا وروسيا والأرجنتين. وصدرت الرواية لاحقاً مترجمة إلى الهندية والتركية والكورية والعربية. الناقد عبده وازن يعرض لهذه الرواية، ويختار بعض المقاطع منها.
خلال ما يقارب السنوات العشر، أي منذ صدور رواية الخيميائي عام 1994م استطاع باولو كويلو أن يكون الكاتب الأكثر شعبية في العالم، وبلغت مبيعات رواياته خمساً وستين مليون نسخة في مئة وخمسين بلداً وعبر ستين لغة عالمية.

وبات صدور أية رواية له بمثابة الحدث في حركة النشر العالمي وأضحت الدور الكبيرة في العالم تتسارع إلى توقيع العقود معه وإلى ترجمة أعماله وتسويقها. وفي فرنسا عمدت دار فلاماريون الشهيرة إلى الفوز بالرواية الجديدة سارقة باولو كويلو من ناشره الفرنسي السابق والوحيد (دار آن كاريير)، وخصصت مبلغ مليون يورو بغية تسويق الرواية. وهذا مبلغ مذهل في عالم النشر نادراً ما يخصص لرواية من نحو ثلاثمئة صفحة.

نجاح يكاد يكون لغزاً
في الثامنة والخمسين من عمره أصبح باولو كويلو من أغنى الكتّاب في العالم، وثروته جمعها من مردود كتبه ومن العقود الهائلة التي يدأب على توقيعها. ولعل شهرته الكبيرة جعلته نجماً عالمياً يسافر باستمرار ويوقع كتبه للقراء حيثما حلّ، ومن يحصل على توقيع كويلو هو أشبه بـ المحظوظ نظراً إلى تدفق القرّاء بالآلاف على حفلات التوقيع. إلا أن هذه الشهرة الكبيرة صنعت منه ظاهرة في عالم النشر فقط ولم تدفع به إلى مرتبة روّاد الرواية الأمريكية اللاتينية الذين أنجزوا أجمل الأعمال الروائية في القرن العشرين من أمثال: غبريال غارثيا ماركيز وخوليو كورثازار وخورخيه بورخيس وماريو فارغاس يوسا.. لكن هؤلاء مجموعين لم يُبع من رواياتهم جزء يسير مما يباع من أعمال طويلة، وقد ظلّت رواياتهم وقفاً على فئة معينة نخبوية وغير نخبوية ربما ولكن غير شعبية حتماً.

ما سرّ هذا النجاح الهائل لأعمال باولو كويلو؟ هذا السؤال تصعب الإجابة عنه لأنه مثار سجال بين النقاد الأدبيين والقرّاء. فالفن الروائي لدى هذا الكاتب ينتمي إلى عالم الحكاية المتخيلة، الحكاية شبه الخرافية وشبه الميتافيزيقية وشبه الأسطورية، الحكاية التي تخاطب مخيلة القارئ وتحرك أحاسيسه الدفينة وتجعله أمام أسئلة قدرية، ترتبط بالماوراء والصدفة والأسرار التي تكتنف الحياة، ولكن عبر نسيج سرديّ بسيط (ولكن غير ممتنع) وعقدة روائية سهلة وشخصيات غير معقدة.

ويتقن كويلو حرفة الحكواتي أيّما إتقان حتى لتغدو أعماله كأنها تُروى على لسان راوٍ يختفي وراء المؤلف نفسه. ويستعين كويلو بسائر الأساطير والميتولوجيات وبعض الحكايات الغرائبية (الفانتاستيك)، وبعض القصص الدينية، ويرتكز في أحيان كثيرة على ألف ليلة وليلة في حبك المرويّات واستيحاء أجواء الشرق الباهرة. ولعل هذا ما أشار إليه في روايته الجديدة الظاهر أو الزهير .

لا بدّ، قبل قراءة الرواية، من العودة إلى العنوان الإشكالي الذي لم يختره كويلو صدفة بل اختاره عمداً. وقد عاد في مقدمة روايته إلى قول للكاتب خورخيه لويس بورخيس يوضح فيه التباس العنوان وهو يعني برأي الأخير الظاهر أو الحاضر، الذي لا يمرّ مرّاً سريعاً . ويضيف بورخيس قائلاً: إنه شيء أو شخص، ما إن يحدث لقاء بينه وبين الإنسان حتى يستحوذ شيئاً فشيئاً على فكره حتى يتملكه، ويمكن أن يعني القدسية أو الجنون .

ويشير بورخيس إلى أن هذه الفكرة ظهرت في العالم العربي في القرن الثامن عشر. لكن محيط المحيط يوضح أن كلمة الظاهر؛ هي الأنسب لترجمة هذه المفردة Le Zahir بالفرنسية أو The Zahir بالإنجليزية. فكلمة الزَّهير (بفتح الزاي) غير موجودة، فيما الزُّهير (بضم الزاي) هي تصغير الأزهر وهو القمر ويوم الجمعة والثور الوحشي والأسد الأبيض اللون والنيّر والمشرق الوجه وزهر السراج والوجه والقمر تلألأ… .

أما مفردة الظاهر فهي الأقرب إلى المعنى الذي افترضه بورخيس وهو اسم فاعل وخلاف الباطن بحسب محيط المحيط و الظاهر هو إشارة إلى معرفتنا البديهية، فإنّ الفطرة تقضي في كل ما نظر إليه الإنسان أنه تعالى موجود . ويضيف محيط المحيط : الظاهر هو اسم لكلام ظهر المراد منه للسامع بالصيغة نفسها ويكون محتملاً للتأويل والتخصيص . إلا أن ترجمة العنوان إلى العربية تظل مشرعة على احتمالات عدة: الزُّهير، الزَّهير، الظاهر، الظهير (كما اقترح بعض المصريين)… وقد تعبر كل مفردة عن أحد المعاني المتعددة للكلمة الفرنسية أو الإنجليزية.

عوليس و إيثاكا
يختار باولو كويلو قصيدة إيثاكا للشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس مدخلاً إلى روايته، والقصيدة هذه تستعيد حكاية عودة عوليس في الميتولوجيا الإغريقية إلى مدينته إيثاكا بعدما طوّف في أنحاء الأرض مواجهاً المشقات والأخطار والمآسي.

فبطل الرواية وهو الراوي الذي يرتدي وجه أو ربما قناع المؤلف هو أشبه بـ عوليس ، لكن تطوافه يجري في أفق ماضيه الشخصي وحياته التي أضحت وراءه، علاوة على مضيّه في البحث عن زوجته أستير التي اختفت في ظروف غامضة. أما الزوجة أستير فهي تحمل بدورها بعض الملامح العويسية كونها سافرت إلى أقصى آسيا بالغة بلاد كازاخستان بحثاً عن مغامرات تساعدها على تخطي رتابة حياتها الزوجية في باريس.

هكذا تجري أحداث الرواية بين قطبين: أوروبا التي تمثلها باريس وآسيا التي تمثلها كازاخستان. لكن الكاتب – الراوي سيعمد إلى استعادة سيرته بين هذين القطبين، بين إقامته في باريس ورحلته إلى كازاخستان بحثاً عن زوجته. والسيرة هنا ستكون ذاتية وأدبية في الحين نفسه، مما يؤكد أن باولو كويلو يصر على كتابة سيرته في طريقة مواربة ، جاعلاً من نفسه البطل – الراوي. لكن السيرة الذاتية لن تكون حقيقية تماماً بل سيعتريها الكثير من التخييل والتحريف والحذف والإضافة.

تبدأ الرواية بداية شبه بوليسية: اختفاء أستير الزوجة الشابة (في الثلاثين من عمرها) بعد عودتها من العراق عشية الاجتياح الأمريكي يحمل الشرطة الفرنسية على توقيف زوجها (الراوي – الكاتب) لاستجوابه والتحقيق معه.

أستير صحافية في ميدان تغطية الحروب كما سنعلم لاحقاً وقد غطّت حروباً عدة في الشرقين الأوسط والأقصى. إلا أن اختفاءها يثير حفيظة زوجها: هل خطفت من أجل فدية ما؟ هل قتلت لأجل معلومات تملكها؟ أم أنها شاءت أن تهجر زوجها وحياتها الزوجية هرباً مع رجل آخر؟ كان الزوج يعلم أن زوجته ارتبطت ببعض الخلايا الإرهابية، كصحافية طبعاً، كانت اتخذت مرافقاً لها ومترجماً في مقتبل عمره يكنّى بـ ميخائيل ، شاب داكن البشرة، منغولي الملامح يستتر تحت هذا الاسم غير الحقيقي. وعندما يطلق شرطي السجن الزوج – الراوي من الأسر يقول له: أنت حر الآن ، لكن الزوج سيقول في نفسه: في السجن كنت حراً أيضاً، لأن الحرية هي كنزي الأثمن في العالم .

هكذا يعود الراوي إلى عالمه وإلى ذاته ولكن من غير أن يهجره لحظة هاجس اختفاء الزوجة. إنه الآن في باريس وحيداً، يستعيد تفاصيل ماضيه القريب مع أستير التي اختارت أصعب المهن وأخطرها، وفي يقينه أن الرجل لا يكتشف حبّه لزوجته إلا عندما يفقدها. هكذا تحضر باريس في الجزء الأول من الرواية، مثلما ستحضر كازاخستان في الجزء الثاني. باريس قوس النصر و الشانزليزيه و برج إيفل ، باريس الأحياء والمارة، باريس المترو، باريس المدينة الكوسموبوليتية …

وبعدما يقول له محاميه أنه اتصل بدائرة المستشفيات وأمكنة حفظ الجثث ولم يجد اسم أستير يبدأ في وضع خطة للبحث عنها قائلاً لنفسه إن عليه أن يكون عملياً وأن يدرس الخيارات ويدع مشاعره جانباً.

أما الخطة فارتآها في ثلاثة احتمالات: التوقف عند احتمال أن أستير خطفت فعلاً، مما يعني أن حياتها في خطر، وأن عليه بالتالي، بصفته زوجها ورفيقها، أن يجوب الدنيا بحثاً عنها. إلا أن أمراً ساوره هنا: الزوجة تحمل جواز سفرها وقد اختارت حاجات شخصية عدة وسحبت مالاً من حسابها المصرفي. ويستنتج أنها كانت تتهيأ للرحيل.

ويتخوف من الاحتمال الثاني من أن تكون صدّقت وعداً قطعه لها أحد ما وتبين أنه فخ نصب لها. لكن أستير اعتادت مثل هذه الأوضاع الخطرة.

أما الاحتمال الثالث فهو التقاؤها رجلاً آخر، وهذا الاحتمال في نظره منطقي، لكنه يصعب عليه أن يتقبله. ويقول: لا أقبل أن تكون قد رحلت هكذا، من غير سبب. فكلانا، أنا وأستير، اعتددنا بأنفسنا دائماً في مواجهة مصاعب الحياة معاً، تعذبنا ولكن لم يكذب واحدنا على الآخر يوماً . ويضيف: كنت مدركاً أنها تغيرت كثيراً منذ أن التقت الشاب الذي يدعى ميخائيل. ولكن هل يبرّر ذلك نهاية زواج دام سنين عشر؟ .

وعلى رغم الشك الذي يساوره، لم يستطع أن يتخلص من هاجس أستير. فها هو يحاول تبرير ما حصل. يقضي أياماً وليالي يسترجع كل لحظة عاشها في قربها، ويستنتج أنها كانت امرأة صعبة. ويقول: من الأفضل أن ألعق جروحي ببساطة كما لعقتها في الماضي. سأذوق المرّ وسيمل مني أصدقائي لأن كل ما أتحدث عنه هو هجر زوجتي لي. وعندما سأمشي في الشارع، سأظل أرى طيفها في نسوة أخريات. سأعاني ليل نهار ونهار ليل. وقد يستغرق هذا أسابيع، أشهراً وربما سنة وأكثر . ويبلغ به هاجس أستير مبلغاً حتى أنه ليتخيلها على وشك الدخول من باب منزله تخطو نحوه وهي تطأ السجاد العجمي وتجلس إلى جانبه من دون أن تنبس بأية كلمة، تدخن سيجارة…

كان لا بد للراوي في هذه الفترة من الحيرة والعزلة والهجس من أن يستعيد سيرته المزدوجة، سيرته كشخص تمرّد باكراً على سلطة العائلة وراح يعيش حياته بحرية، وسيرته ككاتب لن يلبث أن يصبح مشهوراً وثرياً. ومن يدرك بعض النواحي في حياة كويلو يعلم على الفور أن الراوي هو وجهه الآخر أو لنقل قرينه الذي يشبهه بمقدار ما يختلف عنه. وقد أجاد كويلو في لعبة المرآة هنا جاعلاً من سيرته الذاتية سيرة روائية لبطل هو نفسه وسواه في آنٍ واحد.

يستعيد كويلو إذاً صورة ذلك الشاب الذي حلم بأن يصبح كاتباً مشهوراً، وأدرك فجأة أن الحقيقة مختلفة تماماً. إنه يكتب بلغة يكاد لا يقرأها أحد في بلد يقال فيه ليس للمطالعة جمهور تقريباً. شاب تجبره عائلته على ارتياد الجامعة ويقول له والده: أية جامعة ستفي بالمطلوب يا بنيّ، ما دمت ستحصل على شهادة وإلا فأنت نكرة… . لكن الشاب يثور، ويجول العالم خلال الحقبة التي صعدت فيها موجة الهبّيين، يلتقي مغنياً ويكتب له أغنيات، وإذا به فجأة يجني مالاً يفوق ما تجنيه أخته التي عملت بنصيحة الوالدين وقرّرت أن تصبح مهندسة كيميائية…

ولا تخلو كتابة السيرة من بعض الاعتراف الهادئ الذي يسترجع بعض فصول ماضيه ومراهقته كأن يقول: منذ صغري كافحت لأجعل الحرية أثمن مقتنياتي. خضت صراعاً مع والديّ، اللذين أرادا أن أكون مهندساً وليس كاتباً . وقد صارع هذا الشاب كي يحصل على وظيفة يدعم بها نفسه. فعمل في مهنٍ صغيرة لم يخجل منها. ويعترف أيضاً بأنه خاض صراعاً مع عالم الصحافة العدائي . وأنه صارع بشجاعة ليترك الصحافة ويخوض مغامرة تأليف كتاب وهو على يقين بأن لا أحد في بلاده يمكنه كسب عيشه من مهنة الأدب.

أما سيرته الأدبية فتدل عليه وتفضح بعض أسراره و المتاعب التي واجهها، لا سيّما في بدء مسيرته. فالكتاب الأول الذي أصدره (وهو ليس الخيميائي ) لم تُكتب عنه كلمة في الصحافة ولم يبع إلا القليل في البداية، لكن الذين قرأوه أوصوا آخرين بقراءته وإذا الطبعة الأولى تنفد بعد ستة أشهر.

وبعد سنة صدرت من الكتاب نفسه (لا يبوح بعنوانه) ثلاث طبعات وراح يكسب المال وكأنه لا يصدّق أن الأدب يدر مالاً. ويقول هنا: لا أدري كم من الوقت سيدوم الحلم، لكنني أقرر أن أعيش كل لحظة كما لو كانت الأخيرة. أرى أن هذا النجاح يفتح الباب الذي لطالما سعيت إلى فتحه، وها هم ناشرون آخرون يبغون نشر كتابي التالي .

ويعترف بالأثر الذي تركه فيه وفي أدبه كتاب ألف ليلة وليلة الذي وقع ذات مساء على إحدى قصصه المشوقة وقد وجد فيها رمز سبيله الخاص وشيئاً يساعده على فهم كيانه. وإذا به يستخدم تلك القصة أساساً لقصة أخرى عن راعٍ ينطلق سعياً وراء حلمه وهو عبارة عن كنز مخبأ في أهرامات مصر. وما يعنيه هنا هو رواية الخيميائي التي كانت فاتحة نجاحه الكبير وشهرته الواسعة. يقول: لم أبق شخصاً يحلم في أن يصبح شيئاً، أنا كيان. أنا الراعي الذي يجتاز الصحراء ولكن أين الخيميائي الذي يعينه على المضيّ؟ . ويعترف: عندما انتهيت من هذه الرواية، لم أفهم تماماً ما كتبت: إنها بمثابة قصة خيالية للراشدين… ومع ذلك قبلها الناشر. نشر الكتاب وإذا بقرّائي يدرجونه على لوائح الكتب الأكثر مبيعاً .

إلا أنه لا يخفي أنه فيما أحبه القرّاء كثيراً كرهه النقاد، هؤلاء الذين ظلوا يرحبون به إلى أن بلغت مبيعات كتابه المئة ألف الأولى، فإذا به يكف عن أن يكون عبقرياً يساء فهمه . ومشكلة باولو كويلو مع النقد الأدبي ما زالت قائمة وما برح النقاد يمعنون في نقده على رغم شهرته الكبيرة، آخذين عليه تنازله عن العمق والمضمون الإنساني والبعد الفلسفي الحقيقي، وجعله الأدب مادة للإغراء الشعبي والرواج والكسب المالي. ويرفض معظم النقاد العالميين إدراج اسمه ضمن روائيي أمريكا اللاتينية الذين أحدثوا ثورة في رواية القرن العشرين.

يبدو من الواضح أن باولو كويلو اختلق قصة اختفاء أستير ليعيد قراءة نفسه وماضيه ولكتابة سيرته الشخصية والأدبية بقلمه. وقد نجح فعلاً في كتابة هذه السيرة المزدوجة مثلما نجح الراوي في إيجاد الزوجة الشابة أستير في كازاخستان وكانت مستسلمة لنوع من الحياة الطبيعية والعفوية، وقد امتهنت حرفة حياكة السجاد، علاوة على تعليمها اللغة الفرنسية في بعض المدارس الفقيرة. إنها الحياة التي أغرتها فاكتشفت صورة أخرى للعالم لا تشبه أبداً صورته المعممة في العالم الحديث. أخيراً التقى الراوي والزوجة وسرعان ما استعادا حياتهما السابقة.

لعل الجديد الذي حملته رواية الظاهر أو الزهير هو الطابع السيريّ الذي استطاع باولو كويلو من خلاله أن يماهي بينه وبين الراوي في لعبة مرآوية تختلط فيها الملامح الحقيقية للكاتب بالملامح المتخيلة للراوي.

باولو كويلو
– ولد فـي ريودي جانيرو سنة 1947م
– قضى سنوات ثلاث فـي مصح نفسي عندما كان فـي السابعة عشرة من عمره
– عمل كاتباً درامياً وصحفياً ومديراً مسرحياً، كما ألف بعض الأغاني الشعبية
– يعتبر ظاهرة روائية بالنظر إلى الإقبال على رواياته والتي ترجمت إلى مختلف اللغات
– ترجمت الخيميائي إلى خمس وأربعين لغة، ونشرت أعماله فـي 150 بلداً، ووزع منها ما يزيد على أربعين مليون نسخة
– ترجم له عربياً: على نهر بيدرا جلست وبكيت، حاج كومبوستلا، فيرونيكا تقرر الموت، الجبل الخامس، الشيطان والآنسة بريم
– نال العديد من الشهادات التقديرية والأوسمة
– يعمل كمستشار خاص فـي اليونسكو ضمن برنامج تقاربات الفكر وحوار الحضارات
– يشرف على معهد باولو كويلو، وهو مؤسسة خيرية مصدر تمويلها هو حقوق التأليف العائدة له من أعماله

الظاهر
مقطع من الرواية..
إنها أستير، صحافية تغطي الحروب، عادت للتو من العراق لأن اجتياح هذه البلاد سيتم بين حين وآخر، في الثلاثين من عمرها، متزوجة ولم ترزق أولاداً. أما هو، فرجل مجهول الهوية، في الثالثة أو الخامسة والعشرين من عمره، أسمر اللون وذو ملامح مونغولية. شوهد الاثنان للمرة الأخيرة في مقهى، في شارع فوبور – سانت اونوريه.

أُعلِمت الشرطة أنهما التقيا قبلاً ولكن لم يتمكن أحد من أن يحدد كم مرة التقيا: لطالما أكدت أستير أن الرجل – الذي كان يخفي هويته تحت اسم ميخائيل – كان شخصاً مهماً جداً، علماً بأنها لم توضح البتة إن كان مهماً لمهنتها كصحافية، أم لها كامرأة.

باشرت الشرطة في تحقيق رسمي. وطرحت استخلاصات عدة: خطف، ابتزاز، خطف تبعته جريمة قتل – الأمر الذي لا يمكن افتراضه، نظراً إلى أن عمل أستير كان يجعلها على اتصال دائم مع أشخاص مرتبطين بخلايا إرهابية، بحثاً عن المعلومات. واكتشفت الشرطة أن حسابها المصرفي شهد سحباً مالياً منتظماً في الأسابيع التي سبقت اختفاءها: اعتبر المحققون أن هذا الأمر يمكنه أن يرتبط بدفعات مالية في مقابل معلومات. لم تأخذ معها أي ثوب، ولكن، يا للغرابة، لم يُعثر على جواز سفرها. أما هو، فشخص مجهول، شاب فتي، لم يرد اسمه في سجلات الشرطة، وما من أثر يدل على هويته.

على أن أستير، التي فازت بجائزتين دوليتين في الصحافة، في الثلاثين من عمرها ومتزوجة. إنها زوجتي.

أصبحت على الفور شخصاً مشتبهاً به، وتم توقيفي، لأنني رفضت الاعتراف أين كنت يوم اختفائها. لكن شرطي السجن فتح باب زنزانتي قائلاً لي إنني بت رجلاً حراً.

لمَ أكون رجلاً حراً؟ لأن الجميع، في أيامنا هذه، يعلم كل شيء عن الجميع، ويكفي أن يسأل المرء حتى تصله المعلومات للحين: أين استخدمنا بطاقتنا المصرفية، الأماكن التي زرناها، الناس الذين عرفناهم. ولكن في حالتي كان الأمر سهلاً أيضاً: تقدّمت امرأة، هي صحافية أيضاً وصديقة زوجتي لكنها مطلقة، لتشهد لمصلحتي حينما علمت بأنني موقوف. وقدمت أدلة حسية على وجودي معها يوم اختفاء أستير.

تكلمت إلى كبير المفتشين الذي أعاد إليّ أغراضي، واعتذر مني مؤكداً أن توقيفي لفترة قصيرة أمر قانوني وأن ليس في استطاعتي أن أتهم الحكومة أو أقيم دعوى ضدها. وشرحت له أن لا نية لدي البتة بالاتهام والدعوى، وأنني أعلم جيداً أن أي شخص إنما يعتبر مشتبهاً به، ومراقباً على مدار الساعة، حتى وإن لم يرتكب أي جرم.

“أنت حر”، قال، مستعيداً كلمات شرطي السجن.
سألته: أليس من الممكن أن تكون زوجتي قد واجهت مكروهاً ما؟ لقد سبق أن أعلمتني أنها تشعر بأنها ملاحقة، تبعاً لشبكة صلاتها الهائلة في الوسط الإرهابي.
بدا المفتش غير ميّال للكلام. أصررت عليه، لكنه لم يقل لي شيئاً.
سألته إن كان في إمكانها السفر بجواز سفرها، فقال: نعم، لأنها لم ترتكب جرماً. لماذا لا تستطيع أن تغادر البلاد بحرية وأن تعود إليها؟
“إذاً من الممكن أنها ليست في فرنسا؟”.

– هل تعتقد أنها هجرتك بسبب المرأة التي تحبها؟
– “هذا ليس من شأنك”، أجبته. توقف المفتش عن الكلام ثانية، وأصبح جدياً، وقال إنني أوقفت وفق الإجراءات الروتينية، وأعرب عن أسفه لاختفاء زوجتي. هو متزوج أيضاً، ومع أنه لا يحب كتبي (إذاً هو يعلم من أكون، وليس جاهلاً بقدر ما يبدو عليه) فهو يستطيع أن يضع نفسه مكاني، مدركاً أن ما أواجهه صعب حقاً.

أسأله ما عليّ أن أقوم به فيما بعد. يقدم لي بطاقته ويعهد إلي أن أطلعه على أي جديد – هذا مشهد أراه في الأفلام، إنني غير مقتنع، فالمفتشون يعلمون دوماً أكثر مما يقرّون به.

يسألني إذا كنت التقيت الشخص الآخر الذي كان مع أستير في المرة الأخيرة التي شوهدت فيها. أجبته انني أعرف اسمه الأول ولكنني لم ألتق به شخصياً.

يسألني إن كنا نواجه مشكلات زوجية. فأقول له إننا متزوجان منذ أكثر من عشر سنوات وإننا كنا نواجه المشكلات التي يواجهها عادة الزوجان، لا أكثر ولا أقل.

وسألني بلطف إن كنا تحدثنا في موضوع الطلاق، أو إن كانت زوجتي تفكر في هجري. أجبته إن هذا الافتراض لم يرد البتة في أي يوم، حتى وإن قام بيننا، – أكرر، “مثل كل المتزوجين”، بعض النقاشات حيناً تلو حين. دوماً أو حيناً تلو آخر؟
حيناً تلو حين، قلت له (…).
إنني حر. خرجت من المخفر، امرأتي اختفت في ظروف غامضة، لا أعمل في وقت محدد، ولا مشكلة لدي في علاقاتي، إنني رجل ثري ومشهور. إنني رجل حر ومستقل.
ولكن ماذا تعني الحرية؟

أضف تعليق

التعليقات