حينما تقابل للمرة الأولى الفنان محمد الغامدي تلاحظ حيويته المتمثلة في تحركه المتكرر جيئة وذهاباً في بقعة واحدة، ولن يفوتك تنقل عينيه يميناً ويساراً وهما تبحثان عن شيءٍ جديد في الفضاء، فيبدو كمن يرسل ذبذبات مشفرة آنية بين ما تراه عيناه وما يتخيله عقله، ومن هنا تحديداً تكون البداية الحقيقية لميلاد عمل فني جديد وفريد من نوعه في الغالب، وابتكار ما هو خاص ومميز من كل ما هو عادي أو أقل من عادي.
لا يتقبل الغامدي سهولة فكرة دخول أي كان إلى مرسمه وورشة عمله، بحجة أنه مملوء بكل شيء ولا مكان للمشي فيه. إنه مساحة من الفوضوية والاحترافية في آنٍ واحد، تنتشر فيها الأخشاب والكراتين وقطع الحديد والأسلاك والمواسير والشاش والخيش والبلاستيك، وكل ما يخطر في بالك من أشياء ربما تكون قد رميتها يوماً دون أن تعرف قيمتها إلا بعد أن ترى كيف حوَّلها الغامدي إلى تحفة مجسمة أو لوحة يقف أمامها متذوق الفن بانبهار ليتساءل: «كيف فعل هذا؟» أو «لماذا لم أفكر في هذا؟».
في هذه الغرفة المنزوية بالمنزل ذات المساحة الصغيرة، يرتدي الغامدي سروالاً من الجينز وقميصاً أزرق ويرفع صوت المذياع عالياً. ولا يبدو عليه أنه يركِّز على ما يُذاع على وجه التحديد، ولكن الأصوات تساعده على التفكير وإنجاز عمله، بمساعدة من كوبٍ من الشاي. هذا كل ما يريده ليدخل عالمه، طقوسه سهلة عكس أعماله، رغم أن هذه الطقوس نفسها قد لا تنجو من مقارباته الفنية، فذات مرة شدَّه مذياع قديم، فعمل على تحويله إلى تحفة فنية تُعرض بالمعارض.
تراه كالنحلة يتنقل بين تلك الخامات والأدوات التي تملأ المكان من السقف إلى الأرض، ورائحة الألوان تفوح بين مخزوناته في محترفه. يختار ما يترجم فكره، فيبدأ بالنحت والرسم والنجارة والحدادة، إنه مهندس يمارس الفن في عمله، وفنان يهندس كل ما يعمل!.
حصل محمد الغامدي على دبلوم هندسة الطائرات بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1982م. دراسته جعلت أنامله تعتاد العمل اليدوي الصعب باستخدام أدوات الهندسة من مسامير ومفكات وغيرها من الأدوات. فكان من السهل عليه أن ينتقل من رسم اللوحات الزيتية والاسكتشات التقليدية التي زاولها في بداية مسيرته، إلى التماثيل والمجسمات، ومن ثم إلى لوحاته الحالية المتنوعة في فكرتها ورسالتها إلا أن القاسم المشترك بينها هي الألوان الموحدة. إذ جرت العادة عند الغامدي أن يترك الخامات بلونها الطبيعي ونادراً ما يقوم بتعديلها وتحسينها أو يضيف إليها لوناً او لونين.
الصدفة «النعمة»..
يحكي الغامدي قصة التحوُّل في مسيرته الفنية بعد أن كان يمسك الفرشاة والألوان ليرسم لوحاته الزيتية إلى أن ولدت الصدفة التي جعلته يمسك بمطرقة ومفك لينجز لوحاته الحالية، فيقول: «كنت مشاركاً بمجسم في معرض بالرياض، وكان عليَّ إرساله في صندوق خشبي، إلا أن التمثال كان أكبر قليلاً من الصندوق. حينها غيَّرت الفكرة بأن حولت هذا التمثال إلى لوحة بخروجه بطريقة فنية من باب الصندوق، وبعض التعديلات التي أضفتها زادت من شراهتي لهذا الفن».
قرر الفنان أن يسلك هذا الطريق متعمقاً أكثر في تلك المدرسة الفنية الجديدة التي لا فرق عندها بين ما هو قديم وحديث. بدأ يهتم أكثر بالأشياء الهامشية والعابرة وحتى البالية. وفي كل يوم، كان يتأكد أكثر من أنه ليس ثمة ما لا يمكن تحويله إلى عمل فني.
أصبحت الصدفة نعمة للغامدي، واستمرت في إلهامه بأفكار لا تخطر على بال أحد، وهذا ما جعله مبتكراً يرفض مبدئياً كل ما هو تقليدي، ولهذا ربما بدت بصمته مختلفة عن الفنانين الآخرين في المشهد المحلي، وإن كانت هذه المدرسة الفنية الخاصة معروفة في الخارج.
إبداع عمل فني بمساعدة المطر
قريباً من سيرة الصدفة تلك، خرج الغامدي للمشي ذات مرة بعد هطول المطر في شوارع جدة، تماماً كما لو كان يبحث عما يخلفه المطر من فن مبهر، فوقعت عيناه حينذاك على مجموعة صحف وأوراق رصَّت فوق بعضها بعضاً وقد تبللت وأصبحت بالية بألوانها ورائحتها. حملها وربطها بحبل فقط، ورأى أنها تحفة فنية تثير داخل النفس تساؤلات عن الماضي والحاضر، وقد نجح في إيصال إحساسه لمتذوقي الفن بالمعارض.
حصل محمد الغامدي على دبلوم هندسة الطائرات بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1982م، دراسته جعلت أنامله تعتاد العمل اليدوي الصعب باستخدام أدوات الهندسة من مسامير ومفكات وغيرها من الأدوات
عمل فني آخر، ولدت فكرته حينما حصل الغامدي على فاتورة لقاء مشترياته بأحد المتاجر. ولأن الأمر عادي جداً فهو إلهام وارد لهذا الفنان. فقام لاحقاً بجمع الفاتورة إلى قطع خشبية وحروف وأرقام وبعض القطع المعدنية لتصبح لوحة لافتة ومميزة، سيلفتك كيف تم تحويل الفاتورة التي يراها الملايين يومياً إلى لوحة وعمل فني جميل هكذا، قبل أن تفهم جيداً كيف يصنع فنان حقيقي من اللاشيء شيئاً جميلاً.
ما بين العزلة واقتناء الأعمال
قبل سنتين أو أكثر، اختلى الغامدي بمحترفه القاطن في جدة، وكاد أن يعلن اعتزاله الناس بعد تقاعده من وظيفته الحكومية. لم تكن حالة نفسية شائعة يعيشها هذا الفنان مثل كثير من المتقاعدين، بقدر ما كانت تفرغاً للوحاته التي يعشقها إلى حدِّ الانتماء، وكأنما أراد أن يعتذر لفنه لأنه لم يعطه الوقت الكافي من ساعات عمره التي مضت.
ورغم أن أحداً لم يسأل عنه في تلك العزلة، كما لم ينتبه لشغور مكانه في الساحة الفنية إلا بعض الأصدقاء. فإن هذا لم يؤثر عليه سلباً، بل كان له تأثير إيجابي في مسيرته الفنية، إذ زاده تركيزاً ونهماً تجاه إبداعه. وهذا ما نتجت عنه أعمال فنية قيِّمة، ستكون كلها أساساً لمشاركته في معارض فنية لاحقة في جدة ودبي والصين والهند، إضافة إلى مشاركة بارزة في معرض في نيويورك الذي يصنف من أهم معارض الفن عالمياً وأصعبها من حيث معايير المشاركة والاختيار. ولم تخلُ هذه المشاركات بالطبع من اقتناء بعض أعماله، وهو أمر لا يعيره الغامدي أولوية تذكر، فهو يرى أن نجاحه لا يقاس باقتناء أعماله بشكل عام، بقدر ما هو في وصول الرسالة والإحساس والفكرة إلى الآخرين، موقف يدعمه الرجل بمقاربة موضوعية فيقول «الكثير من متذوقي الفن يفهمون الفكرة ويتحمسون لها ويكتبون عنها، لكنهم لا يستطيعون الاقتناء».
المتاهة والشعر
حينما تتحدث مع محمد الغامدي تلمس في حديثه شيئاً من الغموض، وهذا واضح في لوحاته أيضاً بالإضافة إلى ما تمتاز به من سمات فنية. فهناك متاهة بين الأسلاك وقطع البلاستيك وألواح الخشب يتوسطها رسم فيه كثير من التيه للقراءة الأولى، وبعد التعمق فيها سيصلك إحساسه وتلامسك فكرته.
الغامدي يكتب الشعر الحديث، وفيما يقوله من الشعر أيضاً تلك الرحلة بين اللغز والمتاهة التي تضيعك لوهلة، ثم تنتشلك من الشرود إلى الواقع، فشعره ولوحاته كلها مكملة لروحه وشخصيته..وكلها تحسن توظيف عوامل الحيرة في إنتاج الفن.
يحب من الأسماء.. ما يختاره الناس
المرسم الممتلئ بالمواد المبعثرة والمشاريع الفنية قيد التشكل، لا يضم مجموعة كبيرة من مجمل أعمال الغامدي، فبعضها بيع والبعض الآخر في طريقه للمشاركة في معارض، وبقيت بعض الأعمال التي اعتاد الغامدي ألَّا يطلق عليها أية عناوين أو أسماء، وكأنه يريد لكل شخص أن يقرأها ويفهمها ويترجمها بإحساسه.
حينما تتحدَّث مع محمد الغامدي تلمس في حديثه شيئاً من الغموض، وهذا واضح في لوحاته أيضاً بالإضافة إلى ما تمتاز به من سمات فنية…
وعن أهوال الفن التشكيلي في المملكة، يقول الغامدي «إنه في تطور ملحوظ لم يتوقف، لكن جمعية التشكيليين وجمعية الثقافة والفنون لم تعودا تسهمان في دعم وتطوير هذا الفن حالياً بعد أن كان لهما دور بارز في السابق. وهذا ما اضطر الفنانين للبحث عن قاعات عرض خاصة لعرض لوحاتهم بهدف التعريف بها أو بيعها».
ولا يعفي الفنان الغامدي كذلك أقسام الفنون بالجامعات السعودية، فهي بعيدة عن التواصل مع الفنانين باستثناء طلابها وطالباتها الذين يقومون باجتهاد شخصي بزيارة المعارض الفنية والتواصل مع الفنانين. ورغم ذلك، فهو لا يفقد الأمل في خدمة هذا الفن مبدياً استعداده لإلقاء المحاضرات والدورات التدريبية في نفس مدرسته ومنهجه.
محمد الغامدي في سطور
• ولد محمد الغامدي عام 1959م بمدينة الطليقة في الباحة، يعيش في مدينة جدة.
• حصل على دبلوم هندسة الطائرات بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1982م.
• أقام سبعة معارض شخصية بمدينة جدة في الفترة ما بين 1996م إلى 2009م في المركز السعودي وأتيليه جدة.
• شارك في عدة معارض ومسابقات محلية ودولية
• حصل على الجائزة الثانية من معرض الجنادرية في الرياض عام 2000م.
• حصل على الجائزة الأولى في الرسم والتصوير من بينالي الشارقة عام 2001م وفي العام نفسه حصل على الجائزة الأولى في الفن السعودي المعاصر.
• حصل على الجائزة التقديرية لمعرض 25 فبراير بالكويت عام 1998م.
• بالإضافة إلى مشاركته بالمعارض التي تقيمها الخطوط الجوية السعودية .