حياتنا اليوم

لمياء با عشن
في بيتها الكبير نافذة على العالم وماضيه

  • 64a

هي أستاذة جامعية مهتمَّة بتوثيق التاريخ والفلكلور والتراث الحجازي، وهي أيضاً أديبة وناقدة وكاتبة مسرحية.. ووفق الصورة الشخصية التي ترسمها لنا ابتسام محمد*، فإن في شخصية الدكتورة لمياء باعشن ما يتجاوز كل ما تقدَّم.
في حارة المظلوم بمدينة جدة؛ نشأت لمياء في كنف عائلة كبيرة, في بيت شبَّهته بسفينة تيتانيك لجهة عدد حجراته وطبقاته وكثرة مداخله. سكان هذا البيت لا يعرفون الملل. ففي كل ركن منه، وفي أي وقت ليلاً أو نهاراً يوجد شخصٌ ما، يقوم بعملٍ ما, مختلف عن غيره. وكان هذا يشكِّل متعة كبيرة للفضولية الصغيرة التي لا تحب أن ترى دولاباً مغلقاً, ولا «صندوق سيسم» ولا «سحَّارة» من دون أن تعرف ما بداخلها, وتظل تنهك صاحبها بالأسئلة: «لمن هذا؟», «ماذا في بطنه؟», «فيما يستخدم؟», «يستخرج من ماذا؟», وهكذا حتى تشبع فضولها. وإذا لم تجد من تسأله فإنها لا تتورَّع أن تستكشف كل شيء بنفسها دون مساعدة. وظيفة رسمية.. عاشت لمياء طفولة ثرية. فرغم أن إخوتها الحقيقيين كانوا ثلاثة فقط؛ إلا أنها في الحقيقة كانت بين ثمانية وعشرين أخاً وأختاً يعيشون في بيت واحد. بعضهم عمَّاتها وبعضهم أبناء عمومتها, مع عدد لا بأس به من الأجداد والعمات المستعدين للحديث، ولسرد القصص والحكايات بمحبة وفن, ولم تكن هناك أسرار. فالحكايا الشعبية تخاطب الصغار والكبار, مما غرس في لمياء الرغبة في المعرفة وتلمس جمال الماضي والتحسر عليه حتى الحنين. كانت الدراسة الوظيفة الرسمية للمياء التي تتذكَّر بفخر اليوم الكبير الذي تجتمع فيه العائلة حول جهاز الراديو لسماع اسمها بين الناجحين. في تلك الأيام، لم تكن هناك سن معينة لبدء الدراسة, فقد بدأت لمياء أولى سنواتها الدراسية وهي لم تتجاوز سنتين والنصف السنة. ولمَ تذهب الفتيات جميعهن إلى المدرسة وتظل هي تنتظرهن؟ لم يكن هذا مقبولاً عند لمياء التي أصرّت على الذهاب للمدرسة وهي في هذه السن ونجحت بتقوق، فقد أنهت الابتدائية وعمرها أقل من عشر سنين, وتخرجت في الجامعة وهي في الخامسة عشرة فقط. عملت بعدها معيدة لمدة سنة واحدة فقط في جامعة الملك عبدالعزيز, ثم سافرت إلى أمريكا في عام 1980م لتحضير الماجستير والدكتوراة في الأدب الإنجليزي. ثم عادت للتدريس في الجامعة, إلى أن تقاعدت مبكراً لتتفرغ للكتابة والنقد وللحياة الثقافية بشكل عام. ثقافة لمياء القائمة على الأدب الإنجليزي، عزلتها عن الأدب المحلي, وعن الحراك الثقافي في المملكة. لم تكن تعلم من الأشخاص المهمِّين في الساحة الثقافية, ولا كيف تتعرَّف إليهم, إلى أن عادت إلى المملكة وانتمت إلى النادي الأدبي بجدة, وإلى جماعة (حوار) تحديداً, الأمر الذي أتاح لها الفرصة لإرضاء طموحها وإحساسها بفاعليتها في الحياة الثقافية. رابنزل, أم لولوة بنت مرجان؟! عرفت لمياء قيمة الحكاية الشعبية من خلال دراستها للأدب الإنجليزي, فقد فوجئت وهي تدرس في كتاب موسوعي حول تاريخ القصة أن أول قصة تعود إلى الدانمارك هي شبيهة بأخرى تعرفها جيداً, والقصة تتحدَّث عن: «بنت نامت على السرير، ونام جنبها الأمير, لقت على صدره ضبَّة؛ فتحتها شالت الشمعة ودخلت, وجوَّه لقت الأسواق كلها تعمل استعدادات لولد الأمير اللي حيتولد..», تقول: «ذهب خيالي إلى عمتي وهي تحكي لي نفس المشهد, قلت: يا سلام, أهذه هي اللبنة الأساسية في ديوان القصة؟ إذن، نحن لدينا الكثير من اللبنات». منذ ذلك الحين، عزمت لمياء على جمع القصص والحكايات الشعبية. فكانت كلما عادت إلى المملكة، تبحث عن السيدات الكبيرات في العائلة لتسجِّل أحاديثهن, وبعد أن اكتملت المجموعة، أصدرتها في كتاب سمته «تبات ونبات». وحوله تقول: «ربما لا يعرف الناس قيمة هذا العمل. ولكن إذا نظرنا إلى قصص ديزني، مثل سندريللا, ورابنزل التي نعرفها في الحجاز بلولوة بنت مرجان، لوجدنا أنها كلها قصص شعبية جمعها أخوان من ألمانيا في القرن الثامن عشر. ولو لم يجمعوها لاندثرت ولم يسمع عنها أحد مثل قصصنا تماماً. بعد كتاب «تبات ونبات» أصدرت لمياء أسطوانة باسم «دوها», تضم مجموعة أهازيج حجازية, جمعتها وأعادت تسجيلها بأصوات حجازية جميلة, وبتوزيع موسيقي عصري, لإحياء تراث عزيز على أهله كاد أن يندثر. أكتاف عمالقة.. كثيرون هم من أسهموا في توجيه لمياء وغرس حب وتقدير الماضي في وجدانها، فتقول: «كان أينشتاين يقول: كيف لا أكون عظيماً وأنا أقف على أكتاف عمالقة. وهكذا أنا، عظيمة بعظمة الناس الذين بنوني. موسوعة ربتني وساندتني وفتَّحت عيني على الكتب والفن والطرب والرقي والتسامح. كانت عمتي جواهر وما زالت نافذتي على الماضي. هي التي جعلتني أفكِّر في الماضي بتقدير كبير, وبنظرة تكريمية لما حصل فيه», أما جدَّها، فقد ترك في نفسها آثاراً من الرقي في التعامل والأناقة وطيبة القلب وعدم التعلق بالدنيا وعزة النفس والفرح بالعطاء. ووالدها – يرحمه الله- هو بحر من العلم والمعرفة, يحب السفر, ذكي وخارج عن إطار العادية, متعدِّد المواهب, يحب الأدب واللغة الإنجليزية, كما يقدِّس عمله كتاجر, فقسَّم المودة بين ابنتيه. نمَّى في لمياء حب الشعر والأدب, وفي نادية الاقتصاد والتجارة. والدتها راقية صموتة لكنها مثالية وخلوقة. ابنة عمة والدتها زخم من الحكايات, مستعدة أن تحكي وتقول الشعر حتى الصباح. زوجة جدها, عماتها رتيبة وأسماء, أساتذتها, تقول: «تربيت وسط عائلة كبيرة, تحب التقاليد, وتقدِّس العادات, وتفهم الواجب والأصول, ولكنها في الوقت نفسه تعشق الغناء والطرب. كبرت وحولي أجيال من سني وقبلي وبعدي, مما عرضني للتعامل مع مختلف الطبقات العمرية», وهذا ما نلاحظه من خلال سهولة تعامل لمياء مع الشباب والأطفال وكبار السن. فهي مؤمنة بالمثل القائل «يوضع سره في أضعف خلقه», لا تفرِّق بين بروفيسور أو طفل لا يزال في بداية حياته, تبحث داخل كل إنسان على نقطة جمال تسحرها وتدهشها, وتكون في منتهى السعادة عندما تجد جديداً يبهجها ويضيف إليها. هويتنا أجمل.. فازت الدكتورة لمياء باعشن بجائزة التميز في مهرجان جدة للأفلام في دورته الثالثة هذا العام 2008م, عن فلم «تبات ونبات», وذلك لجهودها المتميِّزة في إحياء التراث الحجازي, و«تبات ونبات» في الأصل كتاب, عمره 10 سنوات, ويباع منه 3000 نسخة سنوياً, تقول: «أنا فخورة بهذا العمل الناجح جداً, فلدي قصص كثيرة عن أناس لم يقرأ أبناؤهم باللغة العربية أبداً, ولكنهم عندما يسافرون يأخذون «تبات ونبات» معهم». هدف لمياء من الحكايات هو ترسيخ المفاهيم النابعة من الثقافة المحلية. ففي كل حكاية مثل, وكل مثل له قيمة زمنية لم تُفَعَّل, تقول لمياء: «نحن في مرحلة فقد الكلام فيها معناه, يتردَّد بسرعة يستهلك ثم يُرمى بشكل أسرع. وقد ظن الناس عندما أصدرت كتاب «تبات ونبات» أني فلكلورية, أنا لا يهمني الفلكلور بقدر ما يهمني الإنسان العربي وليس الحجازي فقط. كان هناك مشروع بناء إنسان قوي جداً, جذوره راسية, قدمه في الأرض, ورأسه في السماء, ولكنه وفجأة, ترك موقعه وانتقل إلى مكان ليس له. أتمنى أن يعود هذا الإنسان ليلملم شتات نفسه, يتلمَّس جذوره, وينطلق انطلاقة صحيحة, جميل الانفتاح على الغرب ولكن هويتنا أجمل». رحلة مؤكدة.. لمياء متذوِّقة للرسم, تحب القراءة والموسيقى. شرقية إلى أقصى حد. وتطرب للأوبرا والسيمفونيات الغربية بالقدر نفسه. الإنترنت هي الآن الهواية التي تصرف جُلَّ وقتها فيه. تقرأ أمهات الكتب, تزور المتاحف, وتلعب بعض الألعاب التي تعتمد على الحصيلة اللغوية. تتشارك فيها مع لاعب أو لاعبة قد تكون في الطرف الآخر من العالم: شاعرة مكبوتة, وكاتبة قصة مكبوتة, وروائية أيضاً مكبوتة.. خطتها الأساسية للمستقبل، هي التركيز في النية على الله, مسار مريح مطَمئن بالنسبة لها, وأن تتهيأ للرحلة الوحيدة المؤكدة في هذه الحياة, وتملأ حقائبها استعداداً لها.

أضف تعليق

التعليقات