حياتنا اليوم

الجدوى ليست في الكثرة
إشارة السير..
وكأن السائق لم يرها

  • 60a
  • 61c
  • 62b
  • 62c
  • 63a
  • 63b
  • 63c
  • 63d
  • 42c
  • 59a
  • 59b

العلاقة بين السائق وإشارة المرور الضوئية معروفة. فالسائق ملزم بالوقوف أمام الضوء الأحمر؛ لأن حياتة وسلامته ستكون على المحك، وفي أفضل الحالات سيكبِّده عدم الانصياع غرامة باهظة. ولكن ماذا عن إشارات السير المعدنية التي يزيد عددها على عدد الأشجار في المدن. بعضها يمنع الوقوف هنا، والبعض الآخر يحدِّد السرعة هناك، وآخر يشير إلى ما سنمر بجانبه بعد لحظة.. وغير ذلك مما يصعب حصره. هذه اللوحات المعدنية الصامتة تكاد رغم كثرتها، أن تكون غير مرئية. وحتى بعدالانتباه إلى وجودها، فإنها غالباً ما تبقى من دون أثر على أداء السائق، هذا إذا سلَّمنا جدلاً بأنها تدعو بوضوح إلى تغيير أداء هذا السائق. فريق القافلة يلتفت إلى هذا النوع من الإشارات المتعددة المضامين، ويعرض لمساعي مراجعة جدواها وتفعيلها الجارية عالمياً، بالاعتماد جزئياً على كتاب صدر مؤخراً للكاتب توم فاندربلت* عن دار ألفريد كنوف في نيويورك بعنوان «مرور». حاول أن تتذَّكر آخر مرة شاهدت فيها إشارة سير عليها هذه العبارة: «انتبه مدرسة». الراجح أنك لن تُفلح في المحاولة، ولكن إذا تذكَّرت، فحاول أن تتذكَّر أيضاً ما الذي فعلتَه حين شاهدت الإشارة المذكورة. هل أبطأتَ من فورك؟ هل استطلعتَ الطريق بحثاً عن أطفال؟ إذا كنتَ مثل معظم الناس، فالاحتمال الأقوى هو أنك لم تفعل شيئاً. ولعلك لو شاهدت الإشارة، لما تيقَّنت مما كان مطلوباً منك أن تفعل عندئذ. ففي دراسة عن إشارات السير, استُفتي سائقون عما يفعلونه حين يشاهدون إشارة عليها عبارة: «انتبة! انهيار صخور»، قال نصف السائقين إنهم يسرعون، للرحيل على عجل من المنطقة الخطرة، فيما قال نصفهم الآخر العكس، إنهم يبطئون تحسباً من وجود صخور على الطريق، أو لمراقبة احتمال سقوط صخرة ما. ولا تقول الإشارة للسائقين ما المطلوب فعله بالضبط. كذلك حين تشاهد إشارة إلى وجود مدرسة في هذا المكان وتلاميذ قد يقطعون الشارع، فالراجح أيضاً أنك مثل معظم السائقين، لن تبطئ ولن تغيِّر سرعتك أو مسيرك؛ لأنك ستكون في إحدى حالتين: إما أنك لا ترى تلاميذ، ولا داع إذن للإمهال، أو انك شاهدت تلاميذ قبل أن تقرأ الإشارة، إذا كنت قرأتها أصلاً. وقد أثبت إحصاء علمي أن الإشارات في كلا الحالتين، لم تسهم في تقليل حوادث صدم التلاميذ. فإذا كانت الإشارات التي تنبِّهنا إلى تساقط صخور، أو إلى وجود أطفال وتلاميذ، لا تفيد في تغيير شيء من سلوك السائق، فلماذا إذن تصرُّ السلطات المحلية والدوائر البلدية على إكثار الإشارات، وأين العلة في عدم التجاوب: أهي في السائقين غير المبالين؟ أم في مضمون ما تقوله الإشارة للسائق؟ وهو مضمون لا يقول له في الغالب ما الذي عليه أن يفعله. الحق أن السائقين المبالين وغير المبالين يتساوون في عدم التجاوب مثلما يجب مع الإشارات. وقد يشير هذا إلى أن العلة أساساً في الإشارات ومضمونها، وربما في سياسة توزيعها ووضعها والإكثار منها أيضاً. وفي مختلف البلدان، يشاهد السائق إشارات تقول له إن في المنطقة غزلاناً أو جمالاً أو حتى فيلة. لكنك لا تستطيع أن تتكهن بما يدور في خلد السائق حين يرى الإشارة. غير أن الأمر الأكيد، الذي أثبتته الدراسة، هو أن السائق لا يبدل مسلكه ومسيره لدى مشاهدة الإشارة. بل ان ردة الفعل على الإشارة قد تذهب في عكس الاتجاه الذي ينشده واضعوها. ففي ولاية كولورادو الأمريكية، «تفننت» إحدى البلديات، وصنعت إشارة يظهر فيها غزال في رسم متحرك، وفي ذهن المبتكر أن حركة الرسم أقدر على إثارة انتباه السائق، فيستجيب ويبطئ. ولم يكن مبتكر الإشارة المتحركة مخطئاً في شأن القدرة على إثارة الانتباه، لكنه أخطأ في أن هذا سيدفع السائق إلى التجاوب على النحو المنشود. فبعد أسابيع قليلة اضطرت البلدية إلى إزالة الإشارات المذكورة، لأن حوادث تصادم السيارات بالغزلان زادت بدل أن تقل. حينئذ أخذت البلدية المذكورة تضع جيفة غزال قرب الإشارة. وكانت النتيجة أفضل. وحاول بعض مهندسي السير والطرق أن يضعوا الإشارات في المواسم التي تكثر فيها هجرة القطعان من منطقة إلى أخرى. فابتكروا جساسات تلتقط حركة القطعان وتنبه السائقين. غير أن هذا الأسلوب تبيَّن أنه مكلف وغير دقيق. وقد صدرت عنه علامات تنبيه خاطئة. وزاد توقف السائقين الفضوليين على الطرق السريعة لمشاهدة القطعان، فزادت حوادث صدم الغزلان، بل زادت حتى حوادث تصادم السيارات من جراء هذا الأمر. ولعل من أسخف الإشارات التي تقام على الطرق، تلك التي تنبه في نيوفاوندلاند، إلى سوء الرؤية بسبب الضباب. فإذا استطاع السائق أن يرى الإشارة فمعنى ذلك أنه ليس بحاجة إليها، وإذا كان بحاجة إليها لتكاثف الضباب، فلن يستطيع أن يراها. وثمة إشارات تنبه إلى جسر أو منعطف، ولا تقول للسائق ما عليه أن يفعل. إشارات موحَّدة لطرق ليست كذلك قد تعني إشارة دولية معروفة في كل بلدان العالم، أشياءً مختلفة باختلاف البلد. فتلك التي تنبِّهك إلى أن الطريق متعرجة أمامك، قد تضعها بلديات معينة عند منعرج بسيط قد يرى البعض أنه لا يستحق تنبيهاً. وقد لا تضع إشارة التنبيه هذه بلدان أخرى، وربما بلديات أخرى في البلد نفسه، إلاَّ في الحالات القصوى، عند المنعطفات الشديدة. ولا تنشأ مشكلة للسائق من جرَّاء هذا الاختلاف إذا ظل يقود سيارته في قريته سنوات. أما إذا قاد سيارته في بلد آخر، فقد يفاجأ بطريق متعرجة من دون إشارة، مع أنه تعوَّد رؤية تنبيه عند تعرج أقل. كل هذه المشكلات التي تعترض صناعة إشارات السير وتصميمها وهندستها، جعلت أشهر مهندسيها، الهولندي هانس موندرمان، الذي توفي في أوائل العام الجاري، يشتهر بكره الإشارات، ولا سيما كثرتها. وكان يعارض جيرانه الألمان، الذين يحب مهندسو الطرق عندهم كثرة الإشارات. كان موندرمان يفضِّل إشارة سير على كل ما عداها، وهي إشارة عند مدخل قرية ماكينغا في فريزلاند، تقول إن السرعة القصوى هي ثلاثون كيلومتراً في الساعة، ثم ترحِّب بالقادم وتبشِّره بأن الطريق أمامه خالية من إشارات السير. وفي مرة كان موندرمان يسوق سيارته في القرية، فنظر إلى إشارة تنبه إلى جسر أمامه، وقال: «هل نحتاج إلى هذه الإشارة لنرى أن أمامنا جسراً؟ إذا لم تكن الإشارة ضرورية حقاً، فأنت كمن يستغبي البشر، وعندئذ سيتصرفون فعلاً كالأغبياء». لم يكن موندرمان مجرد كاره للإشارة، بل كان موقفه معبِّراً عن فلسفته. فهو يرى أن ثمة مساحتين: عالم السير، وعالم المجتمع. فعالم السير هو الطرق السريعة الموحَّدة المعايير، التي لا تهم إلا السيارات. ذلك ما تراه في الطرق الألمانية السريعة. أما في القرية الهولندية، فالسيارة ضيف في كنف مجتمع. وهي ليست وحدها وليست سيدة الموقف. والطريق لها ولغيرها، من أشخاص وأغراض. لذا كان موندرمان يعارض توحيد الإشارات المجرَّدة من الصفات المميزة. وهو يريد للإشارة أن تقول للسائق إن هنا محلاً تجارياً, وهناك مدرسة، ثم مزرعة بقر، وقد يصادف السائق جراراً، وهكذا. فلكل قرية وبلدة خريطتها الخاصة وإشاراتها المختلفة. وتأخذ فلسفة موندرمان على مهندسي إشارات السير، أنهم بتوحيدهم المعايير لكل طرق العالم، جعلوا القرية والبلدة امتداداً للطرق السريعة، ومحوا كل السمات التي تميِّز المواقع والساحات، بعضها من بعض. ولعل هذا يفسِّر سبب كثرة غرامات السرعة عند مداخل البلدات والقرى. في الحالات العادية، تضع البلديات مطبات في الشوراع، أو حواجز متعرجة، تجبر السائقين على الإبطاء. وتستخدم بلديات إشارات وقف السير، وتزيد بلديات أخرى عرض المطبات، وتخفض ارتفاعها، لتتجنب دعاوى قضائية قد يرفعها سائقون تضررت سياراتهم من أثر الصدمة، حين يكون المطب عالياً وغير منساب. ويقترح مهندسون وضع مطب كل مئة متر، لأن بعض السائقين يزيدون السرعة بين المطب والمطب التالي. بل ان بعض الخبراء أنشأوا «خدمة مطبات»، إذ يتصل المواطنون بمكتب متخصِّص، يقيم مطبات أمام المنازل التي يطلب أصحابها الخدمة المذكورة. واستخدم خبراء آخرون حيلة وضع علامات «أشغال» مزوَّرة، من أجل تبطيء السير. لكن الأمر لا يخلو في أيةحال، من اعتراض وجيه على المطبات لأنها تبطئ سيارات مسرعة في حالات الطوارئ أيضاً. واعتمد خبراء آخرون فكرة مختلفة تماماً، هي فصل الناس عن السيارة، فتكون للمشاة جسور من فوق الطرق التي تُترك للسيارات. لكن معظم الناس لم يستسيغوا الفكرة. فبعضهم يفضِّل المرور من جانب إلى آخر، في الشارع نفسه، على تجشم عناء الصعود إلى الجسر. وبعضهم الآخر يرى أن البشر هم أصحاب البيت وأن السيارة هي الضيف، ولا يجوز أن تنقلب الآية. تجربة قرية هولندية في الثمانينيات من القرن الماضي، أدهشت فكرة جديدة الناس، حين استُخدمت في تصميم شوارع قرية أودهاسك الهولندية، بعدما شكا سكانها من مشكلة مزمنة، وهي سرعة زائدة في شارعها الرئيس. فرضت البلدية ألا تزيد سرعة السيارات في القرية على عشرة أميال في الساعة. لكنها لم تستخدم مطبات ولا حواجز تعرُّج ولا شيئاً من هذا في خطتها. بل وضعت في الشوارع حواجز من نوع آخر، نوع ألطف، وأوثق ارتباطاً بحياة الناس: أحواض زهور ومقاعد وتماثيل وشجراً في وسط الطرق. وبدا الفرق سريعاً وواضحاً للغاية، إذ صار الأولاد يلعبون في الخارج، حتى من دون حاجة إلى مراقبة. لكن حين اطلع موندرمان على المشروع اعترض على إشارة تقول: هنا قُدْ سيارتك بحذر. فقد رأى أن الإشارة تعني أن القيادة بحذر مقتصرة على المكان، وأن السائق يستطيع أن يبدِّل سلوكه في أي مكان آخر. وأبدى كذلك رفضه لفكرة الحواجز، حتى تلك التي وُصفت بأنها لطيفة. عالَم الاجتماع بدل عالَم السير ألغى موندرمان في أودهاسك تماماً فكرة المطبات، واعتمد فكرة أن تبدو القرية قرية، لا مجرد فرع للطريق السريعة. وعادت طرق القرية لتبدو مثل طرق القرى فعلاً، وكانت النتيجة محسوسة على الفور. إذ لم تعد رادارات مراقبة السرعة قادرة حتى على ملاحظة أية سرعة للسيارات، من شدة إبطائها طوعاً، بلا حواجز ولا إشارات، تقريباً. فما الذي أحدثه؟ لقد مَزَج في المكان نفسه مسار السيارة والدراجة والمشاة، بدل أن يَفصِل لكلٍ مساراً. وجعل عرض الطريق ستة أمتار على الأكثر. وبذلك لم يعد لسيارتين أن تتقابلا مع دراجة، وصار السائق مجبراً على الإبطاء، ليتعامل مع بشر أمامه، أحدهم آتٍ بسيارة من الاتجاه المقابل، والآخر يمتطي دراجة. وشرح الفكرة بقوله: ينتابك شعور بأن جميع المارة ينتمي أحدهم إلى الآخر. وبذلك أزال موندرمان معالجة السرعة بالإشارات، وأحل محلها المعالجة البشرية النفسية. واليوم، بعد مرور نحو ربع قرن على تنظيم السير الجديد في أودهاسك، لا تزال سرعة السير في القرية على حالها. لقد استُخدم جو القرية، لا الإشارات والأوامر، في نقل السائق من مزاج إلى آخر. لقد عاد بتصميم الطرق، من دنيا المهندس إلى دنيا المعمار. المهندس يريد للمنشأة أن تكون صحيحة على الورق، والمعمار يريد أن يعرف من سيستخدمها وكيف. وقد توسعت حركة التنظيم الجديد واعتُمدت في قرى وبلدات أخرى، بل وجد موندرمان من انضم إليه في فلسفته، مثل إيان ووكر، البريطاني الذي أسس مع زميله الهولندي، جمعية سمياها: «المجال المشترك»، تعبيراً عن ضرورة عدم فصل الناس عن السيارة والدراجة. دور العين أكبر يقول أحد خبراء السير، إن طبيعة القدرة البشرية تجعل العين قادرة على عقد الاتصال بين البشر لدى التقائهم، حين لا تزيد سرعتهم على عشرين ميلاً في الساعة. مثل هذا التلاقي يجعلهم اجتماعيين، بالتقاء النظرات. فتطور البشر لم يلحق بعد بالسرعة التي أحدثتها السيارة في حياتهم. والعين لا تزال قادرة على الملاحظة الكاملة، بالسرعة البشرية القصوى، وهي سرعة جري الإنسان، لا سرعة سيارته. وحين نتخطى السرعة التي تطورنا على أساسها في ملايين السنين، تعجز العين عن الإبصار الإنساني الكامل، الذي يجعل اللقاء اجتماعياً. لقد اعتمد موندرمان عالَم الاجتماع، بدل عالَم السير. صحيح أن إشارات السير تُعفي المدن وسلطاتها من المحاسبة القانونية، لكنها لا تحول دون قتل السيارات آلاف الركاب أو المشاة في العالم كل يوم. بل ان إحصاء في مدينة نيويورك، أثبت أن المشاة الذين قُتلوا وهم ملتزمون نظم السير، أكثر من الذين قُتلوا وهم يخالفونها. ففي بعض الطرق، حين يكون الضوء الأحمر مضاءً، يمكن للسيارات أن تنحرف إلى اليمين، ويصادف أن الضوء للمشاة يكون أخضر. وفي هذه الحال، يقع ضحايا، من دون أن يكون أي من المشاة أو السائقين مخالفاً القانون. أما إذا نظر كلاهما إلى الشارع والحركة والمارة، بدل الاكتفاء بالنظر إلى إشارات السير، فإن المشكلة لن تقع على الأرجح. الفكرة إذن هي أن نتوقف عن فصل أنفسنا عن بقية ما في الشارع ومن في الشارع، ليصبح هذا الشارع «مجالاً مشتركاً» للسيارة والمشاة والدراجات على السواء. بل ان بعض الخبراء يؤكد أن مخالفة نظام السير، مخالفة حذرة، في الشوارع الفرعية والضيقة، آمن كثيراً من السير في الطرق السريعة، حتى مع التزام النظام. وفي كاليفورنيا، ثبت لباحثين أن عدم معرفة المشاة والسائقين بعض نظم السير أوقع حوادث أقل، لأن السائقين أو المشاة عندئذ يعتمدون حسهم البشري، ولا يريحون أنفسهم بمجرد الاعتماد الأعمى على إشارة السير. كان موندرمان إذن على حق، حين أزال الكثير من إشارات السير من أجل أن يزيد تنبُّه مستخدمي الطرق، فأزال بذلك إحساسهم بالاطمئنان واستسلامهم لحكم إشارة السير, والمضي على هديها وحده. بل انه أعرب عن اغتباطه حين وقع لابنه حادث سير, إذ شعر بأن ابنه هذا صار الآن موقناً أنه غير آمن في الطرق، وعليه أن يزيد حذره وانتباهه. ولم تكن أفكار موندرمان مجرد نظريات مجردة، لأنها أثبتت جدواها حيثما اعتُمِدت. فالحوادث غير القاتلة أشبه بلقاح مناعة حيال ما قد يكون أفدح. ففي إحدى البلدات التي عالج موندرمان مشكلتها، بلغ عدد حوادث السير سنة 2005م: صفراً. بل ان ازدحام السير انفرج، وانخفض معدل الوقت اللازم لعبور ساحة البلدة %40، لأن عدم وجود إشارات أجبر السائقين على عدم اقتحام الساحة، فاسحين المجال لغيرهم حتى يمر. وصار الدرَّاجون يؤشرون بيدهم، عن وجهة سيرهم، ولم يكن ذلك متبعاً من قبل. المدينة للقاء البشر والطرق ليست للسائقين فقط قد نظن أن ما يصح في بلدة هولندية ريفية، لن يصح في المدن الكبرى. فماذا يقول بيتر ويدن، مهندس الطرق الذي عالج مشكلة حي كنسنجتون الآهل في لندن؟ كان الحي الراقي مزدحماً في التسعينيات، بالسيارات والمشاة الخارجين من محطات المترو وبإشارات السير على السواء. بدأت المعالجة باقتلاع %95 من إشارات السير، التي كان الناس قلَّما يلاحظونها من كثرتها. كذلك أزيل الدرابزين، بين الطرق والأرصفة، إذ كان يضايق ركاب الدراجات والمقاعد المتحركة، بل حتى المشاة. وهو فوق هذا كان يقوم على فكرة فصل المشاة عن الطريق، بدل فكرة «المجال المشترك». وتبدل فجأة مزاج السائقين، فبدلاً من الإحساس بامتلاك الطريق، حلَّ عندهم الإحساس بأن المشاة صاروا هنا، ولا بد من التنبه وإبطاء السير. فهل دبت الفوضى في الحي؟ بالعكس! لقد انخفض عدد القتلى والمصابين إصابة خطرة من جرَّاء حوادث السير فيه بنسبة %60. كذلك قلَّت الإصابات البسيطة بالنسبة نفسها. ويقول ويدن: «لم يكن في ذهننا تقليل عدد الحوادث بل تحسين منظر الحي وتعزيز حركة التسوق، ولكن تقليل عدد الحوادث جاءنا من غير قصد». عادت المدينة محلاً للقاء البشر، لا للسير السريع. صار الحي أجمل، ولكنه آمِنٌ أيضاً. ومشكلة إشارات السير أنها تُعفي السائقين من واجبهم الاجتماعي حيال المشاة، حين تعطيهم حقوقاً معزولة عمن حولهم، وعما يجري من حولهم. وعندما يعود السائق إلى المجتمع عودة الإبن الضال، فالجميع يبتهج، وتصير الحياة أفضل على الطرق في المدن والقرى. كل الطرق تؤدي إلى روما حتى يصح هذا القول الشهير، كان لا بد من إشارات سير تدل على الأقل من لا يعرف الاتجاه، كيف يصل إلى عاصمة الإمبراطورية الرومانية. إن أول ما لدينا من آثار تاريخية على وضع علامات للسير، هي الصوى التي كان الرومان يضعونها على طرف الطريق، وعليها الاتجاه والمسافة التي تفصل المسافر عن هذه المدينة أو تلك. كانت الصوى عبارة عن أعمدة منشورة على كل طرق الإمبراطورية. وقد ورثت أوروبا من روما هذا التنظيم، فكانت الطرق في العصور الوسطى مجهزة بإشارات سير تبيِّن الاتجاه والمسافة، لا سيما عند تقاطع أهم الطرق. وقد عرف العرب قديماً نظام الصوى نفسه، من خلال «حجارة البريد» التي كانت تشير إلى بُعد موقعها عن أقرب مدينة كبيرة إليها. وفي المتحف الوطني بالرياض، نموذج ممتاز وواضح من هذه الإشارات. ومع ظهور السيارة في القرن العشرين، صارت إشارة السير مسألة لا تخدم المسافر في وجهة اتجاهه ومعرفة المسافة الباقية له في رحلته وحسب، بل صارت ضرورية من أجل تنظيم السير ومنع وقوع الحوادث أيضاً. وقد أنشأ أول نظام لإشارات السير في العصور الحديثة، نادي السيارات الإيطالي سنة 1895م. وفي سنة 1900م، اجتمع في باريس مؤتمر منظمات اتحاد السيارات الدولي، للنظر في مقترحات توحيد إشارات السير. وقد ظهر النظام الذي تطوَّر إلى ما نعرف اليوم من إشارات السير، في مؤتمر الطرق الدولي الذي عُقد في روما. ففي سنة 1909م، وافقت تسع دول أوروبية على اعتماد أربع إشارات موحدة على طرقها، هي: طريق وعرة، وطريق متعرجة، وتقاطع طرق، وسكة حديد. وفيما بعد شهدت السنوات بين 1926 و1949م، في القارة الأوروبية، تطويراً كبيراً لنظام الإشارات هذا، أدى إلى نشوء نظام متكامل وموحَّد ومتشعِّب. كانت الولايات المتحدة في هذه الأثناء تطور نظامها الخاص لإشارات السير، وهو نظام اعتمدته بلدان أخرى في العالم. وفي ستينيات القرن العشرين، بدأت القارة الأمريكية الشمالية تعتمد الإشارات الدولية. ومع مر السنوات تبدَّل النظام، وصار معظم ما في العالم اليوم من إشارات، مصنوعاً من معدن لا خشب. وعند ابتكار الدهان المضيء، أخذت تنتشر وسيلة طلاء إشارات السير به، لمساعدة السائقين في رؤية مضمون الإشارة في الليل أو عند غياب الشمس. ثم دخلت إشارات السير عصر الإلكترون أيضاً، فصارت الإشارة ذكية، بفضل الجسَّاسات والعدسات البصرية، وأدوات التحكم من بعد. وبدأ منذ سنوات قليلة عصر الجساسات الإلكترونية المدفونة في الأسفلت، لإحصاء السيارات أو مراقبة الازدحام، وما إلى ذلك. وصار ثمة تفاعل بين الطريق والسيارة التي تسير عليها. وفي آخر ما ابتكره المخترعون، لضمان التحكم بسلامة السير والمسافرين، نظام إشارات بالأشعة تحت الحمراء، يبث تعليمات للمعوقين أو الأكفَّاء الذين لا يمكنهم رؤية الإشارات. وتحتاج هذه الإشارات إلى أن يكون المسافر المستفيد منها، مزوَّداً جهاز استقبال خاصاً، يتلقى الإشارة التي تتفق في مضمونها، مع الإشارات المرئية. فيتبلغ المتلقي صوتاً يقول له مثلاً، إن المخرج إلى البلدة الفلانية يقع على بُعد كذا متر، أو ما شابه ذلك.

أضف تعليق

التعليقات