طاقة واقتصاد

شركات البترول العالمية ..
كم تنفق على البحث والتطوير

تُعد صناعة البترول بحكم عالميتها أولاً، وبالنسبة الكبيرة التي تشكِّلها من إجمالي التبادل العالمي ثانياً من أفضل الأمثلة على الدور الذي يمكن أن يلعبه تطوير عناصر الصناعة على تقدِّمها ككل ورفع مستوى أدائها.
كما يُعد البحث وتطوير التقنيات في عالم صناعة البترول تحديداً أمراً بالغ الأهمية في حد ذاته من جهة، ومن جهة ثانية لأن هذه الصناعة تواجه اليوم تحدياً تاريخياً يتمثَّل في المحافظة على سعر لبرميل النفط مقبول عند كل من المنتج والمستهلك، وفي تأمين الطلب المتزايد على البترول الذي يتوقع أن يصل إلى أكثر من 100 مليون برميل يومياً بحلول العام 2015م.
الدكتور عبدالله محمد عيتاني* يحدثنا عن استثمارات شركات البترول العالمية في البحث والتطوير، ويقارنها بما هي عليه هذه الاستثمارات في الصناعات الأخرى، معرجاً على أبرز مجالات الأبحاث التي يتم تنفيذها في وقتنا الحاضر.

يُعد الاستثمار والإنفاق على البحث والتطوير من المؤشرات المهمة والأكثر ارتباطاً بالحالة التنافسية لأية شركة ومدى قوتها أو ضعفها في السوق مقارنة مع الشركات العاملة في نفس المجال.

ويشجِّع النشاط والزيادة في الإنفاق على البحث والتطوير التصور الداخلي لأية شركة فيما يتعلق بالفرص والأسواق المستقبلية لمنتج ما أو عملية جديدة.

وبصورة عامة، فإن الإنفاق على البحث والتطوير في صناعة البترول والغازيشمل النفقات المترتبة على الأبحاث الأساسية والتطبيقية، إضافة إلى النفقات غير البحثية المرتبطة بتطوير المنتجات والعمليات والخدمات الفنية.

وتتضمَّن الأبحاث الأساسية المعرفة العلمية غير المرتبطة بأهداف تجارية، بالرغم من إمكانية وجود اهتمام تجاري بتلك الأبحاث. أما الأبحاث التطبيقية فتتضمَّن اكتشاف المعرفة العلمية الجديدة ذات الأهداف التجارية المحددة بالمنتجات أو العمليات أو الخدمات. ويتم تعريف التطوير بأنه الاستخدام والتطبيق المنظَّم للمعرفة أو لنتائج الأبحاث لإنتاج مواد أو أجهزة أو أنظمة أو وسائل، بما في ذلك تصميم وتطوير العمليات. وتعد شركات البترول العالمية والجامعات ومراكز البحث المتخصصة من أهم المؤسسات التي تقوم بالأبحاث والدراسات المتعلِّقة بتطوير تقنيات جديدة للصناعة البترولية.

الإنفاق على أبحاث البترول والغاز
بالرغم من الإسهامات الكبيرة والمؤثرة لصناعة البترول والغاز في الاقتصاد العالمي واعتمادها على التقنيات الحديثة ووجود أكثر من 3500 شركة بترول في العالم، فإن حجم الإنفاق العالمي على البحث والتطوير في هذه الصناعة يُعد ضئيلاً إذا ما قورن بما هو عليه في الصناعات الكبرى الأخرى، إذ إنه لا يتعدى %1.4 من إجمالي الإنفاق على الأبحاث الصناعية. ويأتي الإنفاق العالمي على أبحاث تقنية المعلومات في المقدمة %27.3، تليه أبحاث صناعة السيارات %17.7، وأبحاث الصناعات الدوائية %15.7.

وبالنسبة للاستثمار في البحث والتطوير لدى 18 شركة بترول عالمية متعددة الجنسيات، يستعرض الجدول 1 حجم الإنفاق وإجمالي المبيعات ومعدل الإنفاق بالنسبة للمبيعات، والذي يشير إلى كثافة أعمال البحث والتطوير لدى أية شركة وسعيها إلى امتلاك التقنية. وتتصدَّر هذه القائمة شركة شل التي أنفقت على الأبحاث حوالي 1200 مليون دولار في العام 2007م، وأنتجت %3 من إجمالي الإنتاج العالمي للبترول تليها شركة إكسون- موبيل، ثم شركة توتال. وقد تخطى إجمالي مبيعات معظم شركات البترول العملاقة 100 مليار دولار.

وبالرغم من امتلاك الدول المنتجة معظم احتياطات البترول، إلا أن سيطرة شركات البترول وخدمات الحفر العالمية على تقنيات إنتاج البترول ومعالجته ما زالت سائدة حتى الآن، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بما يسهم به البحث والتطوير في سبيل إبقاء هذه الشركات على قمة صناعة البترول. ويشير وجود شركة ستاتويل هايدرو النرويجية وشركة البترول البرازيلية بتروبراس ضمن قائمة الشركات في الجدول 1 إلى أن الدول المصدرة للبترول بدأت بأخذ زمام المبادرة في الاعتماد على نفسها لتطوير وامتلاك تقنيات جديدة لصناعة استخراج ومعالجة البترول.

وعند مقارنة حجم الإنفاق بالنسبة للمبيعات، نجد أن الشركات الهندسية والحفر أنفقت حوالي %3.0 من إجمالي مبيعاتها، بينما لم يتعد متوسط ما أنفقته شركات البترول العالمية %0.3. وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن الشركة الصينية بترو شِاينا أظهرت ارتفاعاً ملحوظاً في معدل الإنفاق وصل إلى %0.6.

ولعل الزيادة الكبيرة في معدلات الإنفاق لدى الشركات الهندسية والحفر يعود إلى عزوف عدد من شركات البترول عن القيام بالأبحاث الأساسية الابتكارية واكتفائها بإجراء الأبحاث الضرورية المرتبطة بعمليات التشغيل. فعلى سبيل المثال, أنفقت شركة شلمبرجير وهي شركة خدمات هندسية بترولية متخصصة بتقنيات الحفر حوالي 728 مليون دولار على البحث والتطوير من أصل إجمالي مبيعاتها البالغ 23 مليار دولار، متخطية إنفاق شركات بترول عملاقة أمثال بريتش بتروليوم وشيفرون. ولقد لجأت معظم هذه الشركات إلى التعاقد مع الشركات الهندسية وشركات الحفر والجامعات والمراكز المتخصصة في مجال البترول للقيام بالأبحاث التطبيقية والتقنية. وبصورة عامة، تنفق شركات الحفر حوالي %90 من مخصصات الأبحاث على إجراء تحسينات وتعديلات على التقنيات القائمة للتقليل من نسبة المخاطرة على استثمارات الأبحاث.

أرامكو السعودية مثلاً
يشارك في تنفيذ البحوث المتطوِّرة في أرامكو السعودية فريق ضخم من الباحثين والعلماء ذوي الخبرة الواسعة والقدرة على ابتكار حلول لمشكلات تواجه الصناعة أو تقنيات متطورة بدءاً من محاكاة المكامن وعمليات إزالة الكبريت من البترول والتقنية الحيوية لتحسين معدلات استخلاص البترول ومعالجة التربة الملوثة وصولاً إلى مزج الوقود للمحركات المستقبلية والطلاء المقاوم للتآكل.

وفي مجال البحوث البترولية أنجز مركز الأبحاث المتقدِّمة في الشركة سلسلة من الابتكارات تتعلَّق بتطوير نظام محاكاة لمكامن البترول والماء والغاز بحيث يعد الأكثر تقدماً في العالم. ويعمل المركز كذلك على تطوير عملية إنجاز الآبار الذكية المتقدِّمة من خلال استعمال أجهزة قياس عن بعد لاسلكية للاتصال مع أجهزة تحكم في عمق الآبار إضافة إلى تطوير أجهزة نانوية (بالغة الصغر في الحجم) لعمل القياسات المتعلقة بالآبار داخل المكامن بالإضافة إلى تقنيات أخرى.

وتدعم الشركة عدداً من مشاريع البحث ذات العلاقة بالبترول والغاز وطرق الاستفادة منهما، عبر شراكات بحثية مع المؤسسات الأكاديمية والجامعات السعودية ومراكز البحث العالمية المتخصصة. وتتعاون لهذه الغاية مع مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية ومؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع. كما أنشأت مؤخراً شراكة بحثية وتحالف صناعي واعد مع جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، وهي جامعة بحثية عَهٍد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله ابن عبدالعزيز لأرامكو السعودية بإنشائها في قرية ثول القريبة من مدينة جدة. وتشمل هذه الشراكة عدداً من المجالات المتعلِّقة بأبحاث الطاقة والدراسات البحرية وتقنيات تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ومعالجة البيانات الجيولوجية المتعلقة بمحاكاة المكامن. كما ستتعاون الشركة مع مركز الدراسات والبحوث البترولية في وزارة البترول والثروة المعدنية لدعم تقنيات التنقيب والطاقة المتجددة وتقنيات البيئة.

ولقد أيقنت أرامكو السعودية ان استراتيجيات تطوير التقنيات لا يعتمد فقط على البحث والتطوير ولكن على الموارد البشرية؛ فقامت بأعمال التطوير الوظيفي للكوادر البشرية الوطنية الجديدة من خلال «برنامج الباحثين الشباب» واستقطاب العلماء والاستشاريين البارزين. وبدأت الشركة حملة لتحفيز الرغبة في الابتكار وإنتاج الأفكار لدى موظفيها، وفتحت عدداً من القنوات التي تمكِّن العاملين وخاصة المهندسين الميدانيين من تقديم أفكارهم في مجال إيجاد حلول أو مبتكرات جديدة تسهم في تطوير الكفاءة التشغيلية للشركة. ونتيجة لذلك تمكنت الشركة من الحصول على 65 براءة اختراع عالمية، وتقوم باستكمال وتسجيل 130 براءة اختراع جديدة في مجالات تتعلَّق بالتنقيب عن مكامن جديدة ومحاكاة مكامن البترول وزيادة إنتاج الآبار وتطوير طرق وأساليب تكرير البترول وقياس ومعالجة التآكل.

مقارنة الإنفاق على أبحاث البترول
مع قطاعات صناعية أخرى
ولمعرفة واقع وحيثيات الإنفاق على البحث والتطوير في صناعة البترول والغاز فقد قورن هذا الإنفاق مع ما هو عليه في 19 قطاعاً صناعياً في الولايات المتحدة الأمريكية حيث بلغ إجمالي الإنفاق السنوي لهذه القطاعات على البحث والتطوير 172 مليار دولار في العام 2004م. واحتلت أبحاث صناعة الأدوية المركز الأول، تلتها أبحاث صناعة السيارات، ثم أبحاث الصناعة الكهربائية والكيميائية، في حين لم يتعد الإنفاق على أبحاث صناعة تكرير البترول وخدمات حقول البترول والغاز أكثر من 3.4 مليار دولار بنسبة لا تتجاوز %2. ويقدِّم الجدول 2 مقارنة بمعدلات الإنفاق على البحث والتطوير بالنسبة لإجمالي المبيعات في مختلف القطاعات الصناعية الأمريكية. وتُظهر البيانات أن أعلى معدل إنفاق بالنسبة إلى إجمالي المبيعات، حققته أبحاث أجهزة اتصالات الحاسب الآلي %20.1، تلتها أبحاث برامج الحاسب %17.4، ثم صناعة الأدوية %13.1. أما عن معدل الإنفاق في الصناعة الكيميائية فقد بلغ %5.8 من إجمالي المبيعات وسجلَّت خدمات حقول البترول والغاز %3.2، في حين حصلت صناعة تكرير البترول على أدنى المعدلات %0.5. وبالنسبة لإنفاق الشركات على البحث والتطوير، يقدِّم الجدول 3 قائمة بأكبر 5 شركات أمريكية وعالمية من حيث الإنفاق على البحث الذي تخطى 7.4 مليار دولار لمبيعات لا تتجاوز 48 مليار دولار للشركات الدوائية العالمية، ومبيعات بحوالي 200 مليار دولار لشركات تصنيع السيارات الأمريكية واليابانية والألمانية.

مجالات البحث والتطوير
تتنوَّع مجالات الأبحاث قي صناعة البترول والغاز لتشمل جميع القضايا الفنية والهندسية والجيولوجية، من أبحاث جيوفيزيائية وتكوينات صخرية وعمليات التنقيب والحفر بأنواعه والإنتاج ونمذجة الآبار والبرامج الحاسوبية والاستشعار عن بعد وتحسين مواصفات البترول الثقيل، إضافة إلى أبحاث تكرير البترول لإنتاج الوقود النظيف والتخلص من الشوائب الكبريتية وتصنيع البتروكيماويات والتكامل بين صناعتي التكرير والبتروكيماويات وأبحاث محركات الاحتراق الداخلي والاستخدام الأمثل للطاقة مع ما يرافقها من عوامل لحماية البيئة. كما تشمل أيضاً الأبحاث المتعلِّقة بمحاكاة المكامن وحقول البترول والغاز المغمورة والتحكم بالتآكل في أنابيب البترول وتحسين تشغيل العمليات.

وتتركَّز مشاريع الأبحاث في تطوير تقنيات جديدة لعمليات الحفر وتعزيز استخراج البترول والغاز من المكامن ذات الاحتياطات المتدنية إضافة إلى خفض تكاليف الإنتاج. وتقوم الشركات البترولية أيضاً بدعم الأبحاث في الجامعات وتقديم الهبات والتبرعات لإجراء أبحاث مكثَّفة لتطوير تقنيات جديدة لتكرير البترول والاستفادة من المشتقات البترولية والحد من الانبعاثات الناجمة عن احتراق الهيدروكربونات للمحافظة على البيئة من خلال تطوير تقنيات تجميع وتخزين الكربون. كما دخلت مؤخراً تقنيات النانو (متناهية الصغر) والتقنية الحيوية لتأخذ حيزاً لا بأس به من الإنفاق على أبحاث استخراج البترول وإنتاج الوقود الحيوي.

الحاجة إلى جهود أكبر
تحتاج صناعة البترول في الدول المنتجة لجهود كبيرة في أعمال البحث والتطوير للاستحواذ على التقنية. وإذا نظرنا إلى المخصصات التي كانت تنفقها شركات البترول العالمية على البحوث والتطوير، ندرك سبب احتكارها التقنيات وامتلاكها لآلاف براءات الاختراع. ويمكن للصناعة البترولية في الدول المنتجة أن تستعيد المبادرة وتحقَّق نتائج باهرة إذا ما التزمت بمستويات عالية من الإنفاق، ووفرت القدرات والإمكانات اللازمة. وفي هذا السياق لا بد من الإشادة بالجهود الجبارة التي تضطلع بها أرامكو السعودية في دعم البحث والتطوير من خلال مركز الأبحاث والتنقيب وهندسة البترول، ودعمها لعدد من مشاريع البحث في الجامعات السعودية والمراكز العالمية المتخصصة، إضافة إلى البرامج البحثية الواعدة في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية ومركز الدراسات البترولية في وزارة البترول والثروة المعدنية.

فكلنا ندرك أن الإبداع والابتكار هو نتيجة العمل الجاد والدؤوب ويدرك الجميع أن البحث العلمي والنهوض به أصبح مطلباً أساسياً لدعم وتعزيز مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستقبلية، وأن أي جهد لتنشيط أعمال البحث العلمي في مجال البترول يجب أن يرتكز على التمويل الكافي واجتذاب أفضل القدرات والمهارات البشرية ومنحها الحوافز والميزات وتهيئة البيئة المناسبة التي تمكِّنها من العمل الخلاَّق المبدع.

أضف تعليق

التعليقات

حسام محمد

انا خريج هندسة بترول ( بكالوريوس ) منذ عام 2010 و حتى الآن لم تتوفر لي فرصة عمل في قطاع البترول …