قول في مقال

أناشيد الأطفال
“براءة” مثيرة للجدل

في حمأة الانتقادات الموجَّهة إلى دور التلفزيون في تقديم برامج للأطفال لا تتلاءم مع مفاهيم التربية السليمة، يرى خالد العوض* أن أناشيد الأطفال يمكنها أن تكون في أحيانٍ كثيرة بعيدة عن مستوى البراءة الذي تزعمه لنفسها.

يستخدم التربويون الأناشيد لتعليم الأطفال النطق الصحيح وتدريس بعض التراكيب اللغوية وتحسين مهاراتهم اللفظية بشكل عام، بالإضافة إلى تحقيق بعض الأهداف الأخرى كإضفاء المرح والمتعة وتذوق الأصوات الجميلة.

لكن، من منا يتخيَّل أن كل تلك الأهداف النبيلة التي يسعى الجميع إلى تحقيقها من خلال الأناشيد والأطفال قد تنطوي على دروس خفية ورسائل سلبية تتناقض مع تلك الأهداف وتنسفها؟ فقد وجد بعض الباحثين في الثقافة الغربية أن أناشيد الأطفال التي يتعلمونها في مرحلة رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية تبث رسائل سلبية تتمثَّل في تعليم العنف وترويجه بينهم على أنه مقبول من دون أن ينتبه إلى ذلك الكبار وأولياء الأمور.

بدءاً بالأناشيد المحلية
يتذكَّر أكثر رجال اليوم الأناشيد الجميلة التي كانت تستهدف الأطفال عبر التلفزيون السعودي. وكانت المنافسة شديدة بين مناطق المملكة في تقديم برامج مفيدة للأطفال، الأمر الذي نتج عنه إنتاج أعمال ذات مستوى عالٍ في الكلمات والألحان التي تجذب انتباه الأطفال. بل إن بعض هذه الأناشيد قد يعاد بثه بين الفينة والأخرى في الوقت الحاضر، ومن تلك الأناشيد المشهورة «زهرتي يا زهرتي» والتي سجَّلت نجاحاً باهراً إبان إذاعتها سواءً عبر التلفزيون أو الإذاعة والتي تفوَّق بها أطفال المدينة المنورة، أو أنشودة «بحجابي العربي الأصيل» التي شدا بها أطفال القصيم، أو أنشودة «ذاكر دروسك أول بأول» أو أنشودة «عنب المدينة» التي كانت من إنتاج تلفزيون المدينة المنورة أيضاً. لكن لم يفطن أحد إلى بعض الرسائل السلبية، وهي قليلة مقارنة بالأناشيد الغربية، التي يمكن أن تحتويها هذه الأناشيد بسبب براءة الأطفال الذين كانوا يرددونها. على سبيل المثال لا الحصر، فإن الطفلتين الجميلتين اللتين كانتا تشدوان بهذه الأنشودة الاستثنائية التي برع بها أطفال المدينة المنورة والتي كان عنوانها «زهرتي» ترددان كلمات تدعوان بها الأطفال إلى قطف الأزهار من الحديقة قائلتين:
يالله يالله يا أحباب
نقطف زهرة للأصحاب
لونها أصفر
على غصن أخضر
حلوة والله حلوة
وكمان عبيرها أحلى
فيها كل الزهور
فيها كل العطور
زهرتي .. زهرتي

ومثال آخر على احتواء تلك الأناشيد الرائعة التي كان يشدو بها أطفال الأمس على بعض المبادئ التربوية السلبية التي يرى بعض التربويين عدم مناسبتها في وقتنا الحاضر في أنشودة «ذاكر دروسك» والتي يقول مطلعها:
ذاكر دروسك أول بأول
تنجح وتصير الأول
لا.. لا.. تخلِّي لعبك يطول
ترى النتيجة تكون خسران

هذه المطلع الذي يتكرَّر كثيراً في هذه الأنشودة يشجِّع على المنافسة مع الآخرين والتي يمكن أن تؤدي إلى نوع من العداوة والكراهية بين الطلاب في المراتب العليا ونظرائهم في المراتب الأدنى وهو السبب نفسه الذي جعل وزارة التربية السعودية تلغي نظام الاختبارات في المرحلة الابتدائية وتطبِّق ما يعرف بالتقويم المستمر.

هذا لا يعني بالطبع الحكم بفشل تلك الأغاني الجميلة، بل على العكس تماماً فقد كانت من التميّز بحيث بقيت تلك الأناشيد في الأذهان وما زال البعض يقارن هذا التميّز مع ما يحدث اليوم، في عصر التقنية المتطوِّرة، من ضعف شديد في هذا الجانب الذي يمس شريحة مهمة وغالية في المجتمع.

العنف من المهد إلى
ملعب كرة القدم
وجدت دراسة علمية نشرتها إحدى المجلات العلمية المتخصِّصة في الأطفال في بريطانيا أن %41 من أناشيد الأطفال والتي تعرف بالأناشيد الرعوية (nursery rhymes) تحتوي على العنف سواءً كان ذلك بشكل مباشر أو عرضي أو متضمن. وقارن الباحثون بين مشاهد العنف التي يشاهدها الأطفال في التلفزيون وبين أناشيد الأطفال فوجدوا أن الطفل يشاهد 4.5 مشاهد عنيفة في الساعة في مقابل 52.2 مشهداً عنيفاً في الساعة لأناشيد الأطفال.

إن البراءة التي نشعر بها عندما نسمع أناشيد وأهازيج الطفولة تنبع من الأطفال أنفسهم وليس من خلال الكلمات التي يرددونها في هذه الأهازيج وخاصة في الأناشيد الغربية التي هي موضوع حديثنا في هذا المقال، إذ اتضح أنها تحتوي على رسائل خفية تشجِّع العنف والكراهية، بل وحتى أحياناً الجنس، كما يقول كريس روبرتس، وهو أحد المؤلفين الغربيين الذين تفرَّغوا لدراسة هذه الأناشيد ودرسوا أصولها ومعانيها.

يشبِّه روبرتس أناشيد الأطفال بأهازيج كرة القدم التي يرددها المشجعون داخل الملعب فهي بلا مؤلفين أي إنه ليس هناك حماية لحقوق المؤلِّف، كما أنها شائعة لدرجة أن الآلاف يرددونها بشكل دائم، ولا تحتوي على بداية أو نهاية.

يهتم الأطفال عادةً بأهازيج كرة القدم على الرغم من أنها لا تتناسب معهم حيث يحضرون بكثرة ويشاهدون مباريات كرة القدم. فعلى الساحة السعودية مثلاً يسمع الطفل هذه الأهازيج:
ياكلك أكل التفاحة
ويخلي جدة مرتاحة
ياكلك أكل الرمانة
ويخلي بريدة سهرانة

وليس هناك صعوبة في استخراج المعاني السلبية التي تتضمَّنها هذه الأهازيج ويسمعها الطفل في أوقات الإثارة أثناء المباريات فهي تدعو إلى عدم احترام الخصم وإثارة الفوضى والسهر، كما أنها تغفل جانباً مهماً في الرياضة والحياة بشكل عام وهي التحلي بالأخلاق العالية والروح الرياضية عند الفوز أو الخسارة، وهذا ما يفتقده عدد من هذه الأهازيج ومنها على سبيل المثال هذه الأهزوجة المصرية المشهورة التي انتشرت أيضاً في الملاعب السعودية وهي تقال عادة لجمهور الفريق المهزوم:
قاعدين ليه
ما تقوموا تروّحوا

يقول روبرتس في هذا الصدد إنه يعرف شخصياً أناساً يغنون مع أطفالهم أهازيج كرة القدم التي يصدح بها جماهير ليفربول أو مانشيستر يونايتد. ويقِّم روبرتس في كتابه الآنف الذكر عدداً من الشواهد التي تبيِّن أن الأناشيد الغربية المنتشرة بين أطفال الغرب تفتقد إلى البراءة التي يتمتع بها الأطفال، فهي مناسبة للحانات أكثر من مناسبتها لملاعب الأطفال؛ لأن بعضها يعود في أصوله إلى خلفيات لا تناسب الأطفال كالجنس والدعارة.

ويستعرض هذا الكتاب عدداً من أناشيد الطفولة ويبيِّن أصولها التاريخية والمعاني السلبية التي تختفي بين السطور لكل أنشودة. فمثلاً، يرى روبرتس أن هناك أكثر من نظرية في أغنية الأطفال همبتي دمبتي أو كما تلفظ بالإنجليزية Humpty Dumpty، فإحدى هذه النظريات ترى أنها شخصية خيالية على شكل بيضة تمشي على حائط لا متناهٍ، ونظرية أخرى ترى أنها تمثِّل مدفعاً تم استخدامه في الحرب الأهلية البريطانية كان موضوعاً على جدار، وفي أدب الأطفال عند الغرب ترتبط هذه الشخصية بأغنية الأطفال الشهيرة التي تقول (مترجمة إلى العربية) ما يأتي:
همبتي دمبتي جلس على الحائط
همبتي دمبتي سقط سقوطاً مريعاً
كل رجال الملك وخيوله
لم تستطع جمع همبتي من جديد.

ومهما كانت النظرية التي يعتمد عليها نص همبتي دمبتي إلا أن النتيجة واحدة بالنسبة للأطفال، وهو أن هذا يظل مشهداً عنيفاً يتمثل بإصابات بليغة في الرأس. فالأطفال لا يعرفون أن هذه الشخصية كانت مدفعاً أم بيضة، بل تُرك ذلك لخيالهم الواسع، وهذا ما يشكِّل مشكلة أخرى قد لا تجدها في المشاهد العنيفة في التلفزيون التي قد يعرف الطفل نهاية ذلك المشهد العنيف أو غير الملائم، بينما النهايات في هذه الأناشيد تعتمد على خيال الطفل الذي قد لا يقف عند حد معين يمكن التصرف فيه.

التلفزيون ليس وحده المسؤول
إن الفريق الذي قام بالبحث العلمي السابق حول أكثر من 25 أنشودة مشهورة خاصة بالطفل، والذي كان يعمل في أحد مستشفيات الأطفال في بريطانيا، يرى أنه من غير المقبول أن يكون التلفزيون هو المسؤول الوحيد الذي يمكن توجيه اللوم إليه حول المشكلات السلوكية لأن القبول المطلق بهذا الرأي قد يؤدي إلى إغفال قضايا اجتماعية معقَّدة أخرى، كما لا يمكن الجزم بأن هذه الأناشيد تمثل عنصراً مهماً في هذا الجانب على الرغم من أنها تحتوي على مشاهد الخوف والعنف.

هذا على الرغم من أن الكثير من الدراسات العلمية وجدت ارتباطاً كبيراً بين البقاء لمدة طويلة في مشاهدة التلفزيون وبين العنف، فمثلاً، الطفل الذي يشاهد الأفلام الكرتونية لمدة ساعتين يومياً سيشاهد 10000 مشهد عنيف في السنة. وهذا لا يعني أن التلفزيون هو المصدر الوحيد، بل إن هناك مصادر أخرى مثل كتب هاري بوتر التي غزت أطفال العالم، فهي تحتوي على مشاهد في العنف والظلم والسرقة والكذب والتآمر والقتل.

لكن أن يكتشف هؤلاء الباحثون أن الأناشيد المخصَّصة للأطفال تحتوي على مشاهد عنف فهذا أمر غائب عن الذهن ولم يخطر على بال أحد من قبل. ليس هذا فقط، بل إن هناك مطالبة، من وجهة نظر طبية، بالتدخل وتغيير الرسائل السلبية لهذه الأناشيد عن طريق استبدال الكلمات السلبية بالكلمات الإيجابية. وهذا ما قام به فعلاً اثنان من الباحثين حيث قاما بتغيير أحد الأناشيد والإضافة إليه بحيث يمكن قبوله طبياً واجتماعياً.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، الأنشودة الغربية المنشورة والتي بعنوان (Rock-a-Bye-Baby) غير مناسبة للأطفال ويجب إعادة كتابتها، بل إن الكاتب كما تقول إحدى الباحثات يجب أن يخجل من نفسه. إذ كيف يمكن أن تضع أم طفلها الرضيع في مهده فوق غصن شجرة يهتز ثم تقوم بالغناء له بصوت رقيق «سوف يسقط الطفل والمهد وكل شيء» ثم عبارة «الغصن ينكسر». كيف يمكن أن تكون خيالات الطفل؟ وكيف يشعر بالأمان، حتى وإن كانت أمه تقرأ له هذه الأنشودة وهو بين أحضانها؟

إذن، حماية الطفل لا تنتهي فقط عند مراقبة البرامج التلفزيونية التي يشاهدها أو الكتاب الذي يقرأه، أو رسالة البلوتوث التي قد يطلع عليها من الهاتف المحمول، بل إن ذلك يمتد إلى أشياء كثيرة قد تغيب عن البال مثل الاستماع إلى أنشودة خاصة بالطفل أو حتى الاستماع إلى الأهازيج البعيدة عن براءة الطفل في مباريات كرة القدم.

أضف تعليق

التعليقات