بيئة وعلوم

تحلية المياة
تلبية الحاجة بحذر

  • 31a
  • 34a
  • 30a

مع ازدياد حاجة العالم بأسره إلى المياه العذبة، تشهد صناعة التحلية التي ظهرت قبل عقود محدودة نمواً متعاظماً، وتطوراً مستمراً على صعيد تحسين الأداء والإنتاج.
ومع الإقرار بجدوى التحلية حيثما تدعو الضرورة، بدأت دول لا تعاني شحاً في مصادرها المائية الطبيعية باعتماد التحلية ضمن خططها التنموية، الأمر الذي بات يشير إلى احتمال حصول «فوضى تحلية» على مستوى العالم، وهذا لا يخلو من انعكاسات سلبية على البيئة غير محتسبة بدقة حتى الآن، ولكن من الممكن تلافيها بوقف الهدر، والتعامل العاقل مع المياه العذبة. بهاء الرملي* تعرض جوانب هذه القضية.

تشكِّل المياه التحدي الأساسي للشعوب والحكومات حول العالم في القرن الحادي والعشرين. فهذه المادة الحيوية، التي صارت تسمى اصطلاحاً بالذهب الأزرق، تنذر بأن تكون سبباً لصراعات شرسة بين الدول.
كونها آخذة في التراجع كماً ونوعاً بسبب تنامي الطلب عليها وبسبب ما يلحقه بها النشاط البشري، اجتماعياً واقتصادياً، من استغلال جائر وتلوث يهدَّد منابعها. والخوف الكبير هو ألاَّ تعود مصادر المياه كافية لتلبية حاجات كل البشر في مستقبل ليس ببعيد قياساً بعمر الدول والمجتمعات.

وتؤكد تقارير المنظمات المعنية في الأمم المتحدة أن حصة الفرد من المياه تراجعت بنسبة %50 في العقود السبعة الأخيرة، إذ تضاعف عدد السكان مرات ثلاث وتضاعف الطلب على المياه 6 مرات.

وتشير الأمم المتحدة في أحد تقاريرها إلى أن 1.1 مليار شخص في العالم لن يتمكنوا من الوصول إلى مياه الشرب في عام 2030م وأن 2.4 مليار شخص سيعانون نقصاً في المياه الصحية الملائمة. وفي التقديرات أيضاً أن كلفة العناية الصحية حول العالم ستصل سنوياً إلى 300 مليار دولار بسبب المياه غير الصحية، وأن 5 ملايين شخص سيموتون بسبب أمراض متصلة بمشكلات المياه، أي 10 أضعاف عدد الذين سيموتون بسبب الصراعات المسلحة، كذلك تقدر أن %80 من الأمراض والوفيات في الدول النامية سيكون سببها عدم القدرة على الوصول إلى مياه صحية، وأن %90 من المياه في هذه الدول هي رسوبية وأن الملوثات الصناعية تلوث المياه القابلة للتجدد.

في المقابل، هناك مشهد مناقض كلياً يسيطر في الدول المتقدَّمة في أمريكا وأوروبا، التي ينعم مواطنوها بترف هدر المياه. واستناداً إلى تقارير الأمم المتحدة نفسها، تبيَّن أن الأوروبيين يستهلكون اليوم ثمانية أضعاف ما كان يستهلكه أجدادهم من المياه، (مع الأخذ في الاعتبار النمو السكاني). ويقدَّر الاستهلاك اليومي للفرد الأوروبي بـ 300 ليتر مقابل 600 ليتر للأمريكي، نظراً إلى وفرة المياه من جهة وإلى ارتفاع مستوى المعيشة.

ولا ننسى أن نضيف إلى ما تقدَّم ازدياد الطلب على المياه في كافة أوجه النشاط الصناعية والخدمات والسياحة،
ولا سيما الزراعية، مع ازدياد المساحات المزروعة أولاً لتلبية الحاجة الغذائية، وثانياً لأن عدداً من الدول الصناعية بات يلجأ إلى بعض أنواع الزراعات العضوية لاستعمالها كوقود بدلاً من المحروقات الأحفورية.

حاجة غير مضبوطة
أمام هذا الواقع، كان على دول عديدة اللجوء إلى تقنيات تحلية مياه البحر للتزوُّد بالمياه العذبة، رغم ارتفاع كلفتها مقارنة مع التزود بالمياه بالطرق التقليدية. ويقدَّر عدد السكان الذين يتزوَّدون اليوم بالمياه المحلاة في العالم بما بين 100 و155 مليون شخص أو ما يقارب %0.7 من سكان العالم، معظمهم يعيش في مناطق قاحلة أو جافة.

ونظراً إلى كلفتها الباهظة في بداية انطلاقها (4 و5 دولارات للمتر المكعب الواحد) كان الاعتماد عليها محصوراً بعدد من الدول الغنية أبرزها دول الخليح العربي وبعض المناطق الجافة في كاليفورنيا وكندا وإسبانيا والصين. غير أن تطور التقنيات في العقود الأخيرة بات يسمح بالحصول على كميات كبيرة من المياه المحلاة وبكلفة مقبولة بالنسبة إلى مياه الشرب، مما جعل الاعتماد على هذه التقنيات ينمو ويتوسَّع في مناطق مختلفة من العالم تعاني عجزاً مائياً. وما سمح بهذا التطور تمركَّز نحو %40 من سكان العالم على بعد أقل من 40 كلم من البحر، وواقع أن سكان أكثر من 42 مدينة من أصل سبعين يعيش في كل منها أكثر من مليون نسمة لا يحصلون على المياه العذبة مباشرة، بالإضافة إلى ذلك المخزون الكبير من المياه الجوفية المالحة الذي يقدَّر بأكثر من 13 مليون كلم مكعب، ويمكن الإفادة منه في المناطق البعيدة عن البحار.

تطورات خالفت التوقعات
بيَّنت الإحصاءات أن تطوُّر استهلاك المياه المحلاة تخطى كل توقعات الخبراء الذين قدَّروا في عام 2004م أن الطلب على هذه المياه سيزيد بنسبة %101 بحلول عام 2015م. فالصين والهند مثلاً، اللتان كانت التوقعات تشير إلى أن نشاط التحلية فيهما سيصل إلى 650 ألف متر مكعب يومياً بحلول عام 2015م، تخطتا هذا الرقم منذ الآن. وأعلنت الصين أن منشآت التحلية فيها ستعالج أكثر من مليون متر مكعب بحلول ذلك التاريخ و3 ملايين متر مكعب في عام 2020م. وينطبق هذا الواقع أيضاً على الكثير من الدول التي تعتمد على تحلية المياه وإن كان بتفاوت في قدرات كل منها. وباتت مصانع التحلية تنتشر بسرعة مذهلة في الأعوام الأخيرة، محفزها دائرة مغلقة، قوامها عنصران يستتبع كل منهما الآخر، هما الطلب المتزايد باستمرار وتراجع الكلفة. ويقدر أن دول الخليج تعتمد على المياه المحلاة لتأمين %60 من حاجتها إلى المياه العذبة. ويقدَّر حالياً حجم المياه المحلاة في العالم بأكثر من 30 مليون متر مكعب يومياً، %54 منها مصدره البحر، و%46 من المصادر الجوفية. ويخصص نحو %75 من هذه المياه للاستهلاك البشري والباقي يذهب في معظمه إلى الزراعة.

وتستنتج الأمم المتحدة من هذه الوقائع أن تحلية المياه لم تعد مجرد حل وحيد للتزود بالمياه العذبة، بل باتت خياراً استراتيجياً تُبنى عليه سياسات تنمية الموارد المائية في عدد من الدول. ومن الأمثلة على ذلك إسبانيا التي عدَّلت خططها المائية في 2004م من جرِّ المياه من حوض نهر «آيبر» إلى تحلية مياه البحر بمعدل 600 ألف متر مكعب في السنة، وإعادة تدوير 200 ألف متر مكعب في السنة. ولم تكن سياسات التحلية هذه لتعتمد على نطاق واسع لو لم تكن الكلفة سجَّلت تراجعاً كبيراً بفضل تطور التقنيات.

تقنيات التحلية
شهدت تقنيات تحلية مياه البحر في العقد الأخير تقدماً كبيراً بفعل عوامل عديدة، منها تراجع كلفة الاستثمار وحجم مشاريع التحلية والتراجع الكبير في استهلاك الطاقة نتيجة تحسن فاعلية تقنية الأغشية واسترجاع الطاقة وتحرير سوقها. ورغم الإجماع على تراجع كلفة التحلية بنسبة كبيرة، لا يزال هناك اختلاف في الأرقام حتى اليوم. فبعض المراجع يقدِّر كلفة تحلية المتر المكعب بين دولار واحد ودولارين بما في ذلك استهلاك الاستثمارات. فيما تعتقد مصادر أخرى أنها تراوح مع تقنية التناضح العكسي بين 0.5 و0.7 يورو وفقاً لمواقع استخراج المياه وحجم المصنع وطبيعة المياه المستخرجة.

وكون المياه المحلاة تُعد موثوقة جداً وصالحة للاستهلاك البشري وأقل كلفة من المياه المستعملة المعاد تدويرها، انتشرت تقنيات التحلية بكثرة، ليس فقط في المناطق القاحلة أو الجرداء، بل أيضاً في دول تعاني ضغطاً مائياً كما هو الحال في أوروبا الشرقية وبعض الدول في أوروبا الغربية وشمال إفريقيا وأمريكا الشمالية وشرق آسيا. وتخطط الجزائر التي تتوسع في هذا المجال، لإقامة 13 مصنع تحلية، من بينها واحد تصل طاقته الإنتاجية إلى 500 ألف متر مكعب يومياً سيكون الأكبر في العالم. أما عدد محطات التحلية في العالم اليوم فيقدَّر بنحو 15 ألف محطة متفاوتة الحجم، ومعظمها من الحجم الصغير والمتوسط لتحلية المياه الجوفية في مناطق داخلية.

أما أهم تقنيات التحلية المتبعة حالياً فهي اثنتان: التقطير أو التحلية الحرارية، وتكمن في تبخير مياه البحر ثم تكثيف البخار للحصول على المياه العذبة. والتناضح العكسي، وهي عملية تتم من خلال أغشية نصف قابلة للاختراق، تخترقها مياه البحر عندما يتم تعريضها لضغط معين، ويعلَق فيها الملح وباقي المواد العضوية فائقة الدقة الموجودة في المياه.

ورغم وجود تقنيات أخرى، تتقاسم هاتان التقنيتان سوق المياه بالتساوي تقريباً مع أرجحية لتقنية التناضح العكسي التي تحتل نسبة %53 من السوق، ويتوقع أن تصل إلى %70 في عام 2020م في مقابل %20 للتبخير أو التقطير %10 للتقنيات الأخرى.

وتبرز تقنية الأغشية الأولى اليوم وفي المستقبل القريب كونها تتمتع بمواصفات عديدة أبرزها:

1 – 
أنها أقل استهلاكاً للطاقة من تقنية التقطير الحراري بنحو 3 أو 4 مرات. ويقدَّر اليوم أن إنتاج المتر المكعب من المياه بواسطة هذه التقنية يستهلك ما بين 4 و5 كيلواط/ ساعة.
2 – 
زيادة المردود، إذ تقدَّر كمية المياه التي يمكن الحصول عليها بضعفي أو ثلاثة أضعاف ما تنتجه التحلية الحرارية.
3 – السيطرة على الماء المملح وخفض كلفة الإنتاج.
4 – 
تتيح إمكانية إدارة الترسبات بهدف تقليل الضرر على البيئة.

ولكن، مع تسارع وتيرة الطلب على المياه العذبة لأغراض الاستهلاك والتنمية كما سبقت الإشارة، بدأ التفكير جدياً في اعتماد تقنيات أكثر تطوراً وأكثر إنتاجية لتحلية مياه البحر والمياه الجوفية، يرجّح أن تأخذ حيزاً كبيراً في هذا المجال في المستقبل القريب. إنها التحلية بالطاقة النووية.

في الواقع، استخدمت هذه الطاقة للمرة الأولى في تحلية المياه عام 1972م في كازاخستان، وبدأت تتطوَّر بسرعة منذ عام 1999م، وقد أثبتت جدواها الاقتصادية في التجارب التي أجريت في هذه الدولة وفي اليابان أيضاً. ففي الأولى عمل المفاعل الذي بني بتقنية روسية طوال 27 عاماً، وتمكن من إنتاج 135 ميغاواط من الطاقة الكهربائية، تسمح أيضاً، ومنذ بضعة أعوام، بإنتاج ما بين ألف وثلاثة آلاف متر مكعب من المياه العذبة يومياً. ويتوقع الخبراء أن تسمح هذه التقنية، بعد تجربتها وصقلها، في خفض إضافي لتكلفة التحلية. ويشهد العالم اليوم تجارب متقدِّمة لبرامج تطوير مفاعلات نووية مخصصة لتحلية المياه. ومن أبرز هذه التجارب نماذج صممت في روسيا والصين لإنتاج الكهرباء والمياه العذبة في وقت واحد، واختيارياً إنتاج الحرارة للتدفئة.

عملياً، يمكن استخراج قسم من الحرارة المنتجة في شكل بخار يتم لاحقاً تأطيره بواسطة تمديدات إضافية وتحويلها إلى مصنع لتحلية المياه، وفي هذه الحال تكون الحرارة قد استعملت في عملية التحلية من دون أن تكون قد تحوَّلت مسبقاً إلى كهرباء، ويكون التقطير في هذه الحالة العملية المثلى للتحلية، لا سيما التقطير المتعدد التأثير.

وتطوِّر كندا مشروعاً لجمع المفاعل العامل بالمياه الثقيلة المضغوطة مع معامل التحلية المتطورة، لتبتكر بذلك مفهوم التسخين الأولي للمياه المالحة قبل معالجتها بطريقة التناضح العكسي. لأن تسخين المياه وفق مفهوم هذه الشركة، حتى درجة 40 مئوية، يحسِّن الإنتاجية بنسبة %10 مقارنة مع الطريقة التقليدية التي تتم على درجة حرارة طبيعية.

إلى ذلك تعمل شركة كندية بالتعاون مع شركة روسية على تصميم نظام تحلية نووي عائم يسمح بالتموين بالمياه الصالحة للشرب وبالكهرباء بكلفة اقتصادية، كما أنه يلبي حاجة الدول النامية، كونه لا يتطلب استثمارات كبيرة في البنية التحتية، ويمكن بواسطته تحلية المياه بطريقتي التقطير والتناضح العكسي. ويتوقع أن تركب أول وحدة تجريبية في سيبيريا في السنوات القليلة المقبلة. وهناك تجارب عدة أخرى في جنوب إفريقيا والهند وكوريا الجنوبية والأرجنتين وباكستان.

ومع هذه التجارب يجزم الخبراء أن التحلية بالطاقة النووية بدأت تصير حقيقة، وأنها بعد عقد من الدراسات الاختبارية وصلت إلى مرحلة بناء عدد من المصانع التجريبية معظمها سيوضع في الخدمة في السنوات القليلة المقبلة. ومن خصائص الطاقة النووية أنها تخفض تكاليف إنتاج الطاقة الكهربائية إلى %44 من كلفة الوقود العادي، وكلفة تحلية المياه بنسبة %30 مقارنة مع المحطات التقليدية.

سعي عربي إلى التحلية النووية
أمام هذه الاختراقات التقنية المتوقَّعة، ونظراً إلى أن الدول التي قامت بهذه الاختبارات تملك الخبرة النووية، يُطرح سؤال كبير عن موقع العالم العربي من هذه الفورة التكنولوجية وما تعد به من حل جذري لمشلكة المياه.

في الواقع، قرَّر عدد من الدول العربية أبرزها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر والجزائر والمغرب وتونس ألاَّ تقف مكتوفة أمام الإمكانات الهائلة التي تتيحها التقنيات النووية للتزوٌّد بمياه عذبة، وأبلغت إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالمراحل التي قطعتها لتوليد الطاقة النووية لأغراض سلمية وفق المعايير والأنظمة الدولية واستخدامها في التنمية وتحلية المياه. وكانت دول مجلس التعاون الخليجي أكدت في اجتماع لها في العام 2006م حقها في الحصول على الطاقة النووية لأغراض سلمية، وطلبت إجراء دراسات في دول المجلس عن إمكان تنفيذ برنامج مشترك من هذا النوع.

وفي الإطار العملي وقَّعت دولة الإمارات اتفاق تعاون مع فرنسا بهدف الإفادة من خبرتها لسد حاجة الإمارات من الكهرباء. كذلك وقَّعت مصر اتفاقاً مع روسيا لاستدراج عروض لشركاتها للإسهام في بناء محطات نووية بطاقة إجمالية تصل إلى 1800 ميغاواط تبدأ العمل في عام 2015م. بدورها قرَّرت المملكة بناء محطة تحلية تعمل بالطاقة النووية في منطقة رابغ، اقتصادية وتناسب البيئة. ويبدو اللجوء إلى الطاقة النووية منطقياً بالنسبة إلى المملكة كونها المنتج الأول للمياه المحلاة، إذ يبلغ إنتاجها ثلث الإنتاج العالمي. وتقدَّر طاقتها الإنتاجية الحالية لمياه الشرب بنحو 6 ملايين متر مكعب يومياً، ويتوقع أن يصل الطلب في عام 2024م إلى 10 ملايين متر مكعب يومياً، وأن يرتفع الطلب على الكهرباء بنسبة %230. وإذا أخذنا في الاعتبار ارتفاع أسعار المحروقات مؤخراً والمتوقع أن يستمر في المستقبل، وتأثيره على ارتفاع كلفة المياه المحلاة، وأيضاً العمر الافتراضي لمحطات التحلية التقليدية الذي لا يزيد على 30 عاماً وعمر المحطات النووية الذي يصل إلى 60 عاماً، تبرز أكثر مبررات السعي إلى الحصول على التقنيات النووية في تحلية المياه، لا سيما وأن مجموع ما دفعته دول الخليج حتى عام 2007م لبناء وصيانة محطات التحلية قدِر بأكثر من 100 مليار دولار. وتؤكد دراسة أوروبية أن كلفة التحلية بالطاقة النووية أقل كلفة من باقي التقنيات بما بين 60 و%70، لافتة إلى أن هذه النسبة تتغيَّر وفقاً لنوعية المياه والكميات المنتجة وأسعار المحروقات الأحفورية.

مخاطر بيئية ودعوة إلى عقلنة الاستهلاك
انطلاقاً من هذه التقديرات والأرقام، وانطلاقاً من الواقع المعروف أن الدول الغنية وحدها قادرة على إنفاق مثل هذه المبالغ الطائلة للحصول على المياه، يبقى السؤال حول من يؤمِّن المياه للدول الفقيرة وللملايين الذين يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم والذين لا يمكنهم الوصول حتى إلى مياه غير صحية؟. وتبدو المشكلة أكثر تعقيداً إذا انتبهنا إلى أن نقص الموارد المائية العذبة يعوق عملية التنمية في الدول المعنية، وهذا ما يعني زيادة مستويات الفقر. وقد دخل بعض الدول في هذه الحلقة المفرغة، التي يتطلب الخروج منها مساعدات دولية وجهوداً كبيرة.

ومع الإقرار بالحاجة القصوى إلى استغلال ما أمكن من المياه لتأمين حاجة البشرية ورفاهيتها الآن وفي المستقبل، فإن الاستغلال الجائر للمياه المتاحة اليوم، لا سيما من قبل الدول القادرة على الإنفاق في هذا المجال، يشكِّل هاجساً كبيراً بالنسبة إلى مستقبل الموارد المائية في العالم وقدرتها على إيفاء متطلبات الأجيال المقبلة سواء لجهة الكمية أو النوعية.

حيال هذا الواقع، أبدى الصندوق الدولي للطبيعة قلقه من التأثيرات السلبية المحتملة التي يمكن أن يحدثها الانتشار الفوضوي لتقنيات التحلية على البيئة والمناخ مباشرة أو غير مباشرة. وتسجِّل المنظمات غير الحكومية أن معامل تحلية المياه تستهلك الكثير من الطاقة وهي تنفث تالياً الكثير من الغازات التي لها أثر الدفيئة، مع ما لها من آثار لجهة تغير المناخ وظهور كوارث طبيعية في غير منطقة من العالم (فيضانات وأعاصير). إلى ذلك، يبقى للتحلية أثر كبير على البيئة البحرية الناتج من سحب المياه من مناطق قريبة من الشاطىء تشكِّل أساس السلسلة الغذائية البحرية، بالإضافة إلى إعادة الملح الذي يستخرج من مصانع التحلية إلى البحر. ويقول الصندوق إن أثر هذه السلبيات لم يدرس في العمق بعد، لاسيما وأن ما توافر لديه من معلومات يفيد بأن السلطات العامة المعنية بالمياه وبصناعة التحلية تتجه نحو إنشاء مصانع كبيرة مترابطة بعضها البعض في بيئة بحرية حساسة نسبياً. وهو إذ لا ينكر الحاجة الملحة إلى تحلية المياه، يوصي بإنشاء مصانع صغيرة ومتباعدة، كما أنه يشدِّد على ضرورة اعتماد أساليب أكثر عقلانية مثل ترشيد استهلاك المياه وتدوير المياه المستعملة.

ومع اعتماد سياسة المحافظة على الموارد المتجددة مثل الأنهر والمستنقعات في كثير من الدول، واللجوء إلى التحلية كمصدر رئيسٍ للمياه، يخشى الصندوق أن تتحوَّل مصانع التحلية إلى سدود جديدة بعدما كانت السدود التي أقيمت منذ منتصف القرن الماضي قد أدت إلى نتائج بيئية سيئة عصت على كل معالجة، وتعذرت معها العودة إلى الوراء. كما أوصى الصندوق بأن تكون التحلية الملاذ الأخير، لا لاستعمالها في مجالات تكون جدواها فيها معدومة، كما هو الحال مع ليبيا التي أنتجت بهذه المياه قمحاً بلغت كلفته ثمانية أضعاف السعر العالمي.

أما أحد وجوه الحل بالنسبة إلى المنظمات الدولية، فهو في إعادة استعمال المياه المالحة في الصناعة، خاصة فيما يتعلق بتبريد المصانع الذي يستهلك القسم الأكبر من المياه. وفي هذا المجال يمكننا أن نذكر مثلاً نموذجياً على مستوى العالم، ألا وهو لجوء المملكة العربية السعودية إلى الاعتماد على مياه البحر المالحة لتبريد المجمعات الصناعية العملاقة التي أقامتها في مدينتي الجبيل على الخليج العربي وينبع على البحر الأحمر. وبعد التبريد، تعود هذه المياه إلى البحر عبر مجرى ضخم يشبه النهر يؤمِّن تبريدها بدورها تدريجياً، كي لا تؤثر سخونتها على الحياة الفطرية في البحر.

كما يوصي الصندوق أيضاً باعتماد المياه المالحة في بعض المجالات المحددة في قطاع الزراعة وباعتماد حلول أخرى مثل التغذية الصناعية للأحواض المائية ونقل المياه، بالإضافة إلى عقلنة الاستهلاك والابتعاد عن المشاريع التي تستهلك المياه بكثرة وذات الجدوى الاقتصادية القليلة.

المالحة والحلوة والمحلاة
كان الفيلسوف اليوناني أريستون أول من راقب واكتشف عملية التبخر وتحلية المياه في القرن الرابع قبل الميلاد. وفي القرن الثاني عشر وصف أدلارد دي باث عملية تحوُّل المياه موضوعة على صخرة، إلى ملح تحت أشعة الشمس. ومنذ أقدم العصور، كان البحارة يقومون بتحلية المياه بواسطة غلايات بسيطة جداً على قواربهم.

يبلغ متوسط ملوحة مياه البحر 35 غراماً من كلورود الصوديوم لكل ليتر، أي %3.5 من وزن المياه. ويمكن لهذه الكمية أن تتغيَّر وفقاً للمناخ لتصل إلى 7 غرامات لليتر في بحر البلطيق و270 غراماً لليتر في البحر الميت. أما التركز الأقصى للملح في المياه المخصصة للشرب فهو 200 ملغ لليتر بحسب منظمة الصحة العالمية.

%72 من مساحة الأرض مغطاة بالمياه، %97 منها مالحة. أما نسبة الـ %3 المتبقية، فهي موزعة بين الدول، وتستأثر 9 دول بنحو %60 من الاحتياطات المائية العذبة، وهي: البرازيل، كندا، روسيا، الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، إندونيسيا، كولومبيا، البيرو والهند. ويواجه 29 بلداً في إفريقيا والشرق الأوسط مشكلة جفاف مزمنة.

%55 من المياه المستخرجة عالمياً يستعمل فعلاً، فيما تهدر النسبة المتبقية، أي %45، سواء بالتبخر أو بالتسرب إلى الأرض أو عبر الشبكات الخاصة بالتوزيع.

يعيش %40 من سكان العالم في أحواض 250 نهراً عابراً للحدود، ويتعين عليهم تقاسم مواردها المائية. وغالباً ما تتحكم دول منبع النهر بدول المجرى وصولاً إلى دولة المصب، من هنا نشأت في العالم أزمات ونزاعات متعلقة بتقاسم المياه. ويخشى أن تتحوَّل هذه النزاعات إلى مواجهات مسلحة للسيطرة على هذه الموارد. وتفيد بعض الدراسات أنه بعد إنجاز السدود التركية في عام 2010م سينخفض منسوب نهر الفرات إلى %37 لدى دخوله الأراضي السورية، وينخفض منسوب نهر دجلة إلى %24 لدى دخوله العراق.

ينمو النشاط الصناعي في مجال تحلية المياه بنسبة تقدَّر بنحو %10 سنوياً في 120 دولة تعتمد هذه التقنية. ويقدر أن دول الخليج أنفقت إلى الآن 100 مليار دولار على محطات التحلية وصيانتها. ويقدر أن تصل المبالغ اللازمة لتزويد الجميع بالمياه في عام 2025م إلى 180 مليار دولار سنوياً.

أضف تعليق

التعليقات