قول آخر

القادمون من الفضاء

حتى إذا ضاقت عليها الأرض بما رحبت، هاجرت تلك الأقلام إلى الفضاء، واتخذت من المدى مستقراً لها، فثَمَّ أسواقٌ ونوادٍ، وممالكٌ ومدنٌ، يسافر المسافر من شرقها إلى غربها، فيبلغها قبل أن يرتد إليه طرفه، وهكذا، بعد أن ضربت عليها العنكبوت بنسجها في ظلمات ثلاث، كان هذا العالم الجديد، ليكون لها وطناً، وإذا بـ «عنكبوت» أخرى تضرب بها المثل في البلاغة والإبداع والموهبة، وتجعل للضوء تطوافاً حولها بعد إذ أرهقها الظلام وأهرقها..
تدخل تجربة المنتديات العنكبوتية الأدبية عامها العاشر تقريباً في فضائنا الأخضر، وهو عمرٌ مديد بحساب الأرقام في العالم الافتراضي الذي تولد فيه الحياة وتموت في لمح البصر أو هو أقرب، إلا أنها ما زالت تخطو خطاها الوليدة نحو نمو إيجابي ناضج، وهنا لا بد من إضاءة ملامح هذا النمو وهو يأخذ طريقه نحو الهبوط على الأرض، ويتجه صوب التوظيفِ المثمر لمكوناتها كمعطى جديد أهداه لنا العصر الحديث على طبق من أيقونات، وتكوينِ قنوات جديدة لنقل المكتنَز الثقافي والأدبي الذي تكوَّن من تراكم الأعمال فيه عبر هذا الوقت الطويل، من خلال مخرجات فاخرة بشرت بها تلك المواقع الأدبية الهادفة، ونفذتها بعمل مؤسسي منظم، وأحياناً بجهد شخصي مخلص، يواكبها المسؤولية وجدية التناول من قبل القائمين عليها.
ورغم ما يثقل هذه المشاريع العنكبوتية من عوائق البدايات إلا أنها نجحت في تقديم نفسها بجودة عالية، وحضور جديد، حتى لم يعد خافياً على المتابع ما يشهده الوسط الثقافي الأرضي من نتاج أدبي راقٍ يأتي نتيجة هذا التحرك المدروس من قبل مواقع أدبية عنكبوتية رائدة، والأمثلة على هذا كثيرة ومتزايدة، يتقدمها التجربة الرائدة للأستاذ جبير المليحان رئيس نادي الشرقية الأدبي من خلال مشروعه القديم الجديد «شبكة القصة العربية» وعمله الدؤوب المثمر. فبعد أن أصبحت «شبكة القصة العربية» مرجعاً أولاً للقصة العربية على الإنترنت، مال غصنها بثماره، وآتى قطافه الأول «قصص من السعودية» كأول مطبوعة ورقية لشبكة القصة العربية، وما زال العمل جارياً لإصدار مطبوعات ورقية أخرى للشبكة. وللأستاذ جبير حول هذا: «إنه جهد تطوعي جماعي بدون هوية غير لغة الضاد، وبدون إيديولوجية غير الصدق، وبدون رسالة غير الإبداع والتجاوز».
وبالمثل، يقدم موقع «لها أون لاين» أوجه نشاط ثقافية مستمرة كالأمسيات الأدبية والإصدارات المتعلقة بها، وتشكل معلماً بارزاً في الاهتمام بأدب المرأة على وجه الخصوص، كما أطلق موقع «موسوعة أدب العالمية» قنوات الرسائل القصيرة على الجوال في بداية عام 2007م، واستقبل المشتركون على هذه القنوات ما يربو على 3000 رسالة قصيرة -حتى الآن- مختارة ومتنوعة بين الشعر المترجم والأسرار الأدبية وأعذب الشعر العربي قديمه وحديثه، والأمثلة غير ذلك كثيرة لمواقع ومشاريع لا يتسع المقام لذكرها. يتوازى هذا كله مع ذيوع فن التدوين وانتشاره كنشاط ثقافي لافت، ما زال هو الآخر يتكون ليشكل رأياً عاماً له اتصاله بوسائل الإعلام الأخرى الورقية تحديداً، ويندرج بدوره في نشاط منظم غير رسمي يعلن فيه عن صالون لاجتماع للمدونين بشكل دوري، ويتم فيه تناول القضايا الثقافية ونقاشها.
كل ذلك يجعل من هذه المشاريع معطى مهماً يتكامل مع النشر الورقي ودورياته المتميزة المعروفة، ويطرح رؤية جديدة لحركة ثقافية متجددة ومتنوعة، كما يعرض خياراً جاداً للنشر الأدبي قادراً على الوصول إلى المتلقي في بيئة معرفية ناضجة، لا سيما وأنها مشاريع فتيّة وحديثة توفر للشباب الأديب الكاتب والقارئ معاً فرصة لتبادل الآداب والمعارف في مساحة قد لا توفِّرها المنابر التقليدية والمؤسسات الثقافية الراهنة.
يصوِّر د. يوسف العليان -المشرف العام على موسوعة أدب العالمية- هذا الحضور المتنامي للشبكات العنكبوتية بقوله: «إنها بداية لغزو الأرض.. بعد أن أقمنا معسكراً في الفضاء».

أضف تعليق

التعليقات