الثقافة والأدب

المئذنة..
من تطور فن بنائها

  • 66a
  • 68a
  • 68b
  • 69a
  • 69c
  • 69d
  • 71a
  • 72a
  • 72b
  • 73a
  • 73b
  • 74a

ظهرت أولاً ببساطة لتكون مكاناً مرتفعاً يقف عليه المؤذِّن ويساعد على إيصال صوته إلى أبعد مسافة ممكنة. ومن ثم راحت تتطوَّر هندسياً وجمالياً حتى استقرت كرمز يتجاوز في ديمومته ودلالته الوظيفة الأولية.
وكما هو الحال عندما نرى مئذنة شامخة في سماء مدينة ما فنعرف فوراً أننا في مدينة إسلامية أو في مكان يقطنه مسلمون، فإننا عندما نرى صورتها في اللوحات التشكيلية نعرف فوراً هوية العمل الفني، وأكثر من ذلك، الموقع الذي يمثِّله هذا العمل في معظم الأحيان.ولفهم هذا الحضور الطاغي للمآذن في فن اللوحة الشرقية أو الاستشراقية، ووضوح دلالاتها الجمالية، لا بد من استطلاع أبرز مراحل التطور الهندسي والجمالي التي عرفها فن بناء المآذن على مر الأزمنة وفي مختلف أصقاع العالم الإسلامي.

تاريخ المئذنة من الوظيفة إلى الرمز
على خلاف غيرها من المعالم المعمارية في التاريخ الإسلامي، تقف المئذنة واضحة الانتماء والوظيفة. فهي رمز الإسلام كما هو عنوان كتاب البروفيسور جوناثان بلوم عن تاريخ المئذنة. لكن هذا الرمز ليس ذا شكل واحد موحِّد. فعبر التاريخ الإسلامي وامتداداته الجغرافية تحوَّل الشكل المعماري للمئذنة وتغيَّر وتنوَّع.

هناك خلاف حول بداية الشكل المعماري للمئذنة، ففي بدايات الإسلام، كما هو معروف، كان بلال مؤذِّن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، يصعد إلى سطح المسجد الجامع ليؤذِّن، ولم يكن هناك أي شكل معماري محدَّد للقيام بهذا الواجب.

وبحسب المقريزي المؤرِّخ القاهري الذي عاش في القرن الثامن والتاسع الهجريين، فإن معاوية بن أبي سفيان أمر عمرو بن العاص أن يشيِّد أربع صوامع على سطح جامع في الفسطاط حتى يؤدي المؤذنون واجبهم. فإذا صح هذا الخبر، فيكون ذلك باكورة فكرة تشييد أربع مآذن على زوايا الجامع كما ظهر لاحقاً في العمارة الإسلامية.

أما في جامع دمشق، فيخبرنا الرحَّالة ابن الفقيه أن المئذنة هناك كانت في البدء برجاً رومياً، أبقاه الوليد حين بُني الجامع. ولكن لا صوامع جامع عمرو في الفسطاط ولا برج جامع دمشق وصلت إلينا. وهكذا فإن أقدم المآذن التي بقيت من العمارة الإسلامية المبكرة هي مآذن شيدت خلال الفترة العباسية، وبخاصة خلال القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري).

المآذن العباسية
حين شيَّد الخليفة العباسي المتوكل جامعه الواسع في سامراء بين عامي 848، و 852م (234-237هـ) بنى خارجه مئذنة شاهقة ترتفع ثلاثة وخمسين متراً, وذات شكل مميَّز يتكون من جسد صلب مبني من الطوب بشكل شبه مخروطي ويلتف حوله سلم بدرجات توصل إلى أعلى المئذنة التي تعرف الآن في العراق بـ«الملوية». وهي الآن تقف خارج الجامع، وليس من المعروف ما إذا كانت أساساً خارج الجامع أم إن بعض الصلات المعمارية وصلتها بمحيط الجامع. ورغم بساطة شكلها الهندسي فهي أثر معماري فريد في تصميمه لبساطة تصميمها وأناقتها. وليس بعيداً عن جامع المتوكل، بنى أبو دلاف جامعاً مشابهاً ومئذنة مشابهة ولكن كليهما أصغر مساحة وحجماً.

ولا تنتهي قصة الملوية في سامراء. إذ إن أحمد ابن طولون، الوالي العباسي على فسطاط مصر، بنى جامعاً في سنوات 876 – 879م (263-265هـ)، وألحق به مئذنة متواضعة الارتفاع مقارنة مع الملوية. لكنها تحفظ نفس الشكل المخروطي والسلم الحلزوني حولها. وربما كان ذلك بقرار واعٍ ليربط جامعه بالمثال الخليفي في العراق.

والمئذنة الثالثة في الفترة العباسية المبكرة هي مئذنة جامع «سيدي عقبة» في القيروان، التي يشكِّل تصميمها أساساً لتطور المئذنة في المغرب والأندلس. تقع مئذنة جامع قيروان إلى الجهة المقابلة لجدار القبلة، ولكنها جزء من جدار محيط برواق الجامع وصحنه. وهي ترتفع فوق المدخل الرئيس للجامع. أما شكل قاعدتها فهو مربَّع وكذلك جوانب بدنها. وهكذا فهي تختلف عن النموذج العباسي. ولذلك أسباب عدة منها ما يعود إلى مادة بنائها وهي الحجر. وتتكوَّن هذه المئذنة من طبقات ثلاث أعلاها وأوسعها هي الطبقة السفلى وتعلو الطبقة العليا قبة صغيرة مضلَّعة البدن.

المآذن الأولى شرقاً
أما شرقاً وخلال الانتشار المبكر للإسلام، فإن مئذنة نايين في إيران تشكِّل نموذجاً آخر على طريق تصميم المآذن. فهذه تبدأ بقاعة مربعة ثم تأتي مرحلة أعلى مثمنة الأضلع وتنتهي بمرحلة ثالثة أسطوانية الشكل. وكلا المئذنتين في القيروان ونايين من أوائل المآذن التي تحتوى على سلم داخل البناء بخلاف الملوية ومئذنة ابن طولون.

أدت هذه التجارب في شرق العالم الإسلامي إلى بناء أُولى المآذن ذات البدن شبه المخروطي من قاعدته إلى أعلاه. وتشكِّل مئذنتا دمغان في إيران وبخارى في آسيا الوسطى مثلين بارزين على هذا التصميم الجديد. فكلاهما مبني من الطوب، ولكن ظاهر البدن مزيَّن بأشكال هندسية مستقيمة الأضلاع ومتعددة الأشكال. وفي أماكن مختارة، تتوسط التكرار الهندسي نصوص قرآنية كتبت بالخط الكوفي. وتجدر الملاحظة هنا أن هذه التكوينات الهندسية هي نتيجة طريقة وضع وحدات الطوب. فيمكن مثلاً تقديم الطوب إلى الخارج أو سحبه إلى الداخل وبهذا التنويع يحصل الشكل التزييني. وهذا أسلوب عرفت به مناطق إيران الشمالية وبلاد ما وراء نهر جيحون في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين.

وفي النصف الثاني من القرن الثاني عشر بنيت إحدى روائع العمارة الإسلامية في منطقة جام في أفغانستان وهي تسمى أيضاً «منار غياث الدين». وهذه المئذنة هي من محميات منظمة الأونيسكو التراثية، وتقف الآن وحيدة في وادٍ على ضفة نهر «هاري رد». لكن الحفريات الأثرية أفادت بأن هذه المئذنة كانت جزءاً من مبنى أوسع يتوسطه صحن.

يتكون بدن المئذنة من مرحلتين بشكل شبه مخروطي وتعلوه قبة. وقد بني بدن المئذنة من الطوب المطبوخ، مما أسهم في بقائها رغم عوامل الطقس على مدى القرون الماضية. ولكن إحدى مميزات هذه المئذنة هي في استعمال الألوان في تزيينها. فالكتابة الكوفية هي بلون الفيروز، وهذا الاستعمال هو من بدايات استعمال الطوب المطبوخ بغلاف فيروزي في العمارة الإسلامية الشرقية.

مآذن مستقلة عن الجوامع
والواقع أن هذه المئذنة هي واحدة من حوالي ستين مئذنة وبرجاً بنيت بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر الميلاديين في آسيا الوسطى وإيران وأفغانستان. وعدد من هذه المآذن والأبراج لا يرتبط ببناء محاذٍ. ويعتقد الباحثون المعاصرون أن هذه المآذن إنما هي تعبير عن انتصار واتساع الإسلام في تلك المناطق، وليست ذات وظيفة أخرى كما هي المآذن التى تتصل يمسجد جامع. وبصرف النظر عن وظيفتها، فإن مئذنة جام تعد من روائع الهندسة العالمية حيث إن صورها تنشر في معظم دوريات الجمعيات المعمارية الأكاديمية لتناسق تصميمها والتهذيب البالغ في انتقال بدنها من القاعدة المثمنة الأضلع إلى الأسطوانة وثم المخروط، وكذلك لبلاغة العناصر الهندسية المستعملة وتقنية التقديم والتأخير في وضع وحدات الطوب المتماثلة والتي تنتج غنى زخرفياً، وأيضاً لاستعمال الطوب الملوَّن المطبوخ في شريط الكتابة.

ومن هذه المجموعة أيضاً مئذنة «قطب منار» في دلهي في الهند، والتي شيِّدت على الأرجح في بداية القرن الثالث عشر الميلادي وهي ترتفع إلى علو ثلاثة وسبعين متراً. وقد سميت كذلك على اسم بانيها قطب الدين، أحد ملوك الغوريين الذين غزوا الهند بعد أفغانستان. تتألف المئذنة من خمس مراحل، وقد بنيت بالحجر. وشكل كل مرحلة هو ما بين الأسطوانة والمخروط، وتقصر كل مرحلة عن التي تحتها.

مآذن الفاطميين تمهَّد للمآذن المملوكية
ونعود الآن إلى الجزء الأوسط من العالم الإسلامي وإلى مدينة القاهرة. فبعد أن بنى الفاطميون مدينة القاهرة، كان أول مسجد جامع هو جامع الأزهر الذي بني بين عامي 969 و974 ميلادية. وكان لهذا الجامع مئذنة فوق مدخله الغربي. لكن هذه المئذنة أزيلت، ومن المستحيل تحديد شكلها. ولكن من الفترة الفاطمية نفسها يمكن تكوين فكرة عن مآذن الفاطميين بالنظر إلى مئذنتي جامع الحاكم الذي بُني في نهاية القرن العاشر الميلادي.

تتميَّز مئذنتا الحاكم بقاعدة مربعة ضخمة تشبه البرج، ثم ترتفع فوقها مئذنة بقطر أقصر بكثير من عرض القاعدة، وترتفع المئذنة بشكل متعدد الأضلاع وتتكون من قاعدة ثانية، ثم وصلة عالية وثلاث مراحل قصيرة جداً ثم «مبخرة». وإذا ما استبعد المشاهد النظر إلى القاعدة الكبرى فإن المئذنة بحد ذاتها تبدو متواضعة إذا ما قورنت بمآذن المناطق الإسلامية الشرقية. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن مآذن الفاطميين كانت للأذان في مدينة صغيرة تنحصر ضمن السور الدفاعي ما بين باب النصر وباب زويلة جنوباً.

«سوق الغازي» وظهور المقرنصات
ونعود إلى العراق وبغداد تحديداً لمعاينة مئذنة ذات تجديد مصيري في تاريخ تصميم المآذن الإسلامية. إنها مئذنة «سوق الغازي» التي يعتقد أنها بنيت في القرن الثاني عشر الميلادي. فالمرحلة الثانية من هذه المئذنة تتكون من مقرنصات تشكل مرحلة انتقالية من المرحلة السفلى إلى المرحلة الأعلى والأصغر.

إن وحدات المقرنص هي كالمئذنة، عنصر من عناصر العمارة الإسلامية. وهما عنصران معماريان يميزان هذه العمارة عن غيرها من فنون العمارة العالمية. وتتعدَّد النظريات حول زمان ومكان نشأة هذا التكوين الهندسي الفريد. لكنه من الثابت أنه استخدم بشكل واسع في أرجاء الدولة الإسلامية بدءاً من القرن الثاني عشر الميلادي. وفي مئذنة «سوق الغازي» نرى إحدى أبكر الأمثلة على استعماله ليس فقط كعنصر تزييني، بل ذا دور بنائي. إذ تشكل المقرنصات أساساً لاتساع الشكل المستدير للمرحلة الانتقالية في هذه المئذنة بحيث تنتهي إلى مكان متسع لوقوف المؤذِّن.

فيما كان المعماريون في شرق وغرب الخلافات الإسلامية يطوِّرون المئذنة المفردة بتقنيات وتصاميم تزيد من أناقة ارتفاعها حسب المواد المتوافرة لهم، وفي حين توزَّعت التصاميم بين مستدير ومتعدد الأضلاع شرقاً ومربع القاعدة غرباً، برز تصميم جديد في بلاد الأناضول تحت سيطرة السلاجقة. وهو أن مدخل البناء إن كان جامعاً أم مدرسة ازدان بمئذنتين فوق جانبي المدخل كما يظهر في تجلياته الأولى في مدرسة أرضروم. ومدرسة غوك في سيواس. والشخصية المميزة لهاتين المئذنتين المتمثلة في الشكل المخروطي للجزء الأعلى من المئذنة ستصبح لاحقاً شكلاً مميزاً لمآذن بلاد الأناضول خلال فترتي السلاجقة ومن ثم العثمانيين.

الذروة.. مآذن المماليك
منذ منتصف القرن الرابع عشر شهد تصميم المآذن في العالم الإسلامي تغيرات مهمة. ففي هذا القرن تطوَّر تصميم المئذنة القاهرية، وازداد عدد المآذن بازدياد عدد المنشآت الدينية.

فقد شهدت هذه الفترة كثافة عمرانية، وتبارى الأمراء المماليك ببناء الجوامع والمدارس والخانقوات التي ازدان كل منها بمئذنة أو أكثر. في مطلع القرن استفاد مصممو المآذن من النمط الفاطمي المربع القاعدة. واستفادوا من النمط المغربي المزيَّن البدن. وهكذا فإن مئذنة مدرسة السلطان الناصر محمد التي ارتفعت فوق مدخل المدرسة هي ذات قاعدة مربعة وتتشكل من مراحل زُيِّن بدنها بالجص المحفور بزخارف نباتية وهندسية ومقرنصات.

وفي ثلاثينيات القرن نفسه ظهر نموذج آخر من المآذن في القاهرة وهي مآذن بنيت بالحجر. وإحدى أولى هذه المآذن مئذنة جامع المارديني، التي اشتهرت أيضاً لأنها من المآذن القليلة التي شيدت في القاهرة ونعرف اسم المعمار الذي بناها. فأفادنا المقريزي أن المعمار ابن السيوفي هو باني هذه المئذنة بالإضافة إلى مئذنة مدرسة الأمير آقبغا عبدالواحد الملاصقة للمدخل الغربي لجامع الأزهر.

يتجه تصميم هذه المئذنة نحو الأناقة أكثر من تصاميم المآذن القاهرية السابقة. فقاعدتها مربعة، لكنها قصيرة جداً بحيث تكاد لا ترى، وتنتظم فوقها مباشرة مساحات مثلثة متعاكسة لتشكِّل منطقة انتقالية إلى قاعدة مثمنة الأضلاع. وتليها ثلاث مراحل تتناقص ارتفاعاتها بنسب بسيطة مما يعطي المئذنة رونقاً مرتفعاً ومتجانس الجوانب. ثم تأتي بعد ذلك مرحلة فيها ثمانية أعمدة أسطوانية مفتوحة الوسط، وتعلوها قبة حجرية ذات خصر مضمور. ومما يزيد هذه الأناقة والتجانس هو استعمال تشكيلات المقرنصات في المناطق الانتقالية بين مراحل بدن المئذنة بطريقة تقود عين المشاهد إلى أعلى.

كان لهذه المئذنة تأثير واضح على تصاميم المآذن القاهرية في المراحل المعمارية اللاحقة. وصولاً إلى العصر العثماني، وحتى ما بعد الفترة العثمانية. وفي كثير من الأحيان نراها في المآذن المعاصرة.

لم يكتف المعماريون المماليك بالتصميم الحجمي المتناسق للمآذن،فقد أضافوا الزخارف إلى بدن المئذنة. وتنوَّعت هذه الزخارف من استعمال الأبلق، وهو نظام لوني لتواتر صفوف الحجارة الحمراء والسوداء، انتشر استعماله خلال الفترة المملوكية وما بعدها في مصر وبلاد الشام. وفي تزيين إبدان المآذن، نوَّع المعمار المملوكي أشكال ترتيب الأبلق. فنراها على شكل مثلثات متوازية كما هي الحال في مئذنة مدرسة صرغتمش، إلى استعمال الحجر المنقوش بأوراق نباتية مؤسلبة كما هو الحال في مئذنتي شيخون في شارع الصليبة تحت قلعة القاهرة.

وفي مرحلة المماليك الشراكسة أضاف المعماريون المصريون إلى هذا النموذج من المآذن، المآذن ذات الرأسين كما هي الحال في مئذنة قايتباي، ومئذنة مدرسة السلطان الغوري. لكن رأسي هذه الأخيرة اندثرا.

وتتميِّز المآذن المملوكية في فترة الشراكسة بالتزيينات المبالغ فيها لبدن المئذنة. حتى أن العناصر الزخرفية الهندسية أصبحت أكثر نتوءاً وأكبر حجماً كما هي الحال في مئذنتي السلطان المؤيد شيخ اللتين ترتفعان فوق برجي باب زويلة، أو ما لحقهما من مآذن مملوكية كمآذن السلطان إينال وجامع الأمير حسين وجامع البهلوان.

العثمانيون يجمعون التجارب
إن تجارب تشييد المآذن في إيران وأفغانستان وبلاد الأناضول خلال فترة حكم السلاجقة لهذه المناطق أدخل نوعاً من التقارب الأسلوبي. حيث إن البدن الأسطواني أو شبه المخروطي طغى على تصميمات هذه المآذن. ومع تقدم العثمانيين في بلاد الأناضول غرباً توضَّح أسلوب جديد في تصميم المئذنة انتهى إلى ما نعرفه عن مآذن العثمانيين في بلاد الأناضول ومدينة أسطنبول خاصة، كذلك انتشر هذا الشكل في معظم الأماكن التي حكمها العثمانيون.

تجدر الإشارة هنا إلى أنه عندما غزا العثمانييون مدينة القسطنطينية، كان من أوائل نشاطهم المعماري زيادة أربع مآذن على محيط كاتدرائية الآيا صوفيا. وعمل المعماريون الأتراك لاحقاً على تطوير أساليب معمارية لرفع القباب بطريقة تحفظ ثباتها، وتخفِّف في الوقت نفسه أحجام الدعامات الخارجية التي كانت كبيرة جداً في آيا صوفيا، مما أعطى الجوامع التي بنيت قببها على النسق البيزنطي أناقة في الداخل والخارج.

هذه الحلول الهندسية ربما دفعت المعماريين الأتراك إلى تصميم المآذن العثمانية التي تتسم بصغر قطر البدن الأسطواني وارتفاع المئذنة الشاهق حتى غالباً ما سميت بالمآذن الإبر، أو قلم الرصاص. والتشبيه الأخير يعود إلى أن رأس المأذنة العثمانية غالباً ما يزدان بمخروط.

ورغم أن الغالبية من المساجد العثمانية الجامعة ازدانت بمئذنة واحدة، إلا أن مساجد المدن الكبرى، وخاصة مدينة أسطنبول، شملت أربع مآذن على زوايا محيط الجامع. كما هو الحال في جامع السليمانية وجامع السلطان أحمد المشهور باسم الجامع الأزرق. وهذه المآذن قليلة القطر ومرتفعة. وهي تعطي للمدينة شخصيتها المميِّزة كما أعطت المآذن المملوكية المثمنة الأضلاع شخصية مدينة القاهرة. ومعظم المآذن العثمانية تتألف من أربعة مراحل تفصل بينها شرفات صغيرة مستديرة، وتركن كل شرفة فوق منطقة انتقالية من المقرنصات.

الجدير بالذكر أنه على الرغم من أن المآذن العثمانية تقف كل منها منفردة وغير متصلة ببناء الجامع بشكل مرئي، إلاَّ أن عناصر شخصيتها المميَّزة هي تجاورها مع القباب.

ولتأكيد العثمانيين على رمزية مآذنهم، فإنهم شيدوا أيضاً ست مآذن في محيط الكعبة في مكة المكرمة وهكذا زادوا في بهاء المكان. وقد انتشرت في الفترة العثمانية الرسوم التي تمثل الكعبة المشرفة ومآذنها الست. وهي موزعة على زوايا المحيط الأربع، إضافة إلى اثنتين عند جانبي مدخل الحرم.

من أقاصي الشرق إلى المغرب
وبموازاة التجديد العثماني، ظلَّت المناطق الإسلامية المختلفة تشيِّد أنماطاً من المآذن المستمدة من تراثها المحلي حيناً، والمطورة حيناً آخر.

فخلال حكم التيموريين لإيران وأفغانستان شهدت العمارة الإسلامية تطورين بارزين: الأول تشييد المداخل الضخمة وعلى جانبيها مئذنتان، في استيحاء واضح للنموذج الذي ظهر أيام السلاجقة، أما التطور الثاني فهو في استعمال الطوب الملوَّن بشكل كثيف لتزيين المآذن.

أما مآذن المغول في الهند فقد تأثرت في تصميمها بالمآذن التيمورية، غير أنها بنيت من الحجر وليس من الطوب. ومن أبلغ أمثلة المآذن الهندية هي المآذن الأربع على زوايا «تاج محل».. وهنا تجدر الإشارة إلى أن دور هذه المآذن هو رمزي وجمالي، لأن مبنى «تاج محل» هوضريح وليس مكاناً للصلاة ، وبالتالي إذا ما نودي إلى الصلاة من مآذنه، فإن الناس سيتوجهون إلى مسجد جامع للصلاة، وليس إليه.

أما في المغرب، فقط ظلَّت المآذن تستعيد مقاييسها الفنية المعروفة في تلك المنطقة وهي مربعة القاعدة والبدن ومزخرفة بأشكال هندسية تستعيد الأقواس المعروفة منذ أيام المرينيين في المغرب والناصريين في الأندلس.

وفي الشرق الأقصى، تأثرت المآذن الإندونيسية بعمارة جنوب شرق آسيا التقليدية لجهة حلول المسائل الهندسية خلال التشييد، ولجهة الزخرفة الجمالية أيضاً.

المآذن المعاصرة واستيحاء القديم
أما كيف تشيَّد المآذن المعاصرة فذلك أمر يناسق العصر. إذ إن هناك تعددية في التصاميم المنقولة والمستنبطة. فالكثير من المآذن المعاصرة هي نسخ عن مآذن تاريخية. وأكثر المآذن شعبية في هذا المجال هي المآذن الملوكية والعثمانية.

ولكن هناك محاولات جدية لتشييد مآذن بأسلوب حديث ودون أن تفقد المئذنة خصوصيتها الرمزية.والواقع أن الوظيفة الأساسية للمئذنة في أيامنا هي في رمزيتها وجماليتها ضمن البناء الديني، ذلك أنه بتطور التقنيات الإلكترونية التي تكبِّر الصوت، لم تعد هناك حاجة إلى المكان المرتفع ليقف عليه المؤذِّن ليؤدي واجبه. ولكن يبقى من الصعب تخيل جامع الآن بدون مئذنة.

المئذنة في الفن التشكيلي
شكَّلت العمارة الإسلامية موضوعاً تشكيلياً على جانب واضح من الأهمية. فهذا الموضوع، إضافة إلى مدلولاته الفنية، يحمل في طياته إشارات توثيقية، هذا إذا أخذنا في الاعتبار ما تم إنجازه من أعمال فنية خلال القرون الماضية، في زمن لم تكن آلة التصوير الفوتوغرافي قد ظهرت بعد، أو كانت في مراحل تطورها الأولى.

ورغم أن الهندسة الداخلية للمسجد كانت تتضمَّن الكثير من الأجزاء والتفاصيل ذات البعد الجمالي، المرتكز في حيز واسع منه على النواحي الزخرفية، التي تطورت في الفن الإسلامي نحو ما يشبه التجريد الهندسي على حساب التمثيل التشخيصي، نقول إنه رغم كل ما ذكر، فإن المظهر الخارجي للمسجد استحوذ أيضاً، وربما في درجة أكبر، اهتمام الرسامين. وغني عن القول إن المئذنة أو المآذن التي يترافق حضورها حكماً مع حضور المسجد، كانت تفصيلاً معمارياً ذا أهمية وحضور في اللوحة لا يمكن إغفالهما.

طبعاً، كانت هناك المنمنمات الإسلامية أولاً التي ازدهرت وبشكل خاص في الهند وبلاد فارس. إذ حوى الكثير من هذه المنمنمات مشاهد مآذن مختلفة في خلفية الموضوع للدلالة على موقع المشهد المرسوم، أو على هوية الشخصية التي تمثِّلها. فمعظم المنمنمات التي تمثِّل حاكم دلهي شاه جاهان، على سبيل المثال، حوت خلف صورة وجهه، مشهد مآذن «تاج محل»، الضريح الذي بناه لزوجته.

ولكن صورة المئذنة في الفن التشكيلي الحديث والمعاصر تعود بجذورها إلى القرن التاسع عشر، ولا يمكن في هذا المجال إغفال دور المستشرقين، ليس فقط لأنهم شكَّلوا جيل الروَّاد في هذا المجال، بل أيضاً لأن أعمالهم لا تزال تمثِّل ذروة حضور المئذنة في الفن التشكيلي.

المستشرقون المأخوذون بالمآذن
كان الشرق، ولا يزال، نقطة جذب للأوروبيين وغيرهم على مختلف جنسياتهم، وذلك لأهداف قد لا تمت إلى السياسة بصلة، إذ ترسخ في أذهان شعوبنا أن نوايا الأوروبيين قد تكون استعمارية بالدرجة الأولى. هذا الاقتناع، على صحته النسبية، لا يخفي أن فئة أخرى منهم كانت تقف وراء اهتمامها ببلادنا دوافع أنتروبولوجية وتاريخية وثقافية، وفنية أيضاً. لقد قُدِّر للأوروبيين دخول عصر الآلة منذ العقود الأولى للقرن الثامن عشر، مما أدى إلى أن تتخذ أنظمتهم الاجتماعية وأيديولوجيـــــاتهم الفكــــرية منحى مادياً بدأ بالظهور في تلك الفترة وما زال يتطوَّر حتى يومنا هذا. وعليه فقد تولدّت لدى جماعات كبيرة من المثقفين الأوروبيين، ومن ضمنهم الرسامين، رغبة في زيارة أماكن أخرى من العالم، والشرق في مقدمتها، كانت لا تزال تحتفظ بروحانية معينة أُطلقت عليها تسمية «روحانية الشرق».

قدم الرسامون من كل صوب، وتنقلوا بين الأماكن التي تضمَّنت بقايا ومخلفات حضارية، ناقصة أو كاملة، قياساً إلى حالتها الأصلية. تركت جولات هؤلاء في نفوسهم انطباعات شتى، انعكس معظمها رسوماً على الورق أو على القماش، يفيض عدد كبير منها بذلك المناخ الروحي، الذي كان سبباً في قدومهم كرحَّالة يسعون وراء الاكتشاف وأنماط العيش البعيدة وقتئذ عن النمط المادي.

رسم امابل – لويس كرابليه شوارع القاهرة وأسواقها. وكانت المئذنة حاضرة في الكثير من تلك الرسوم، وتموضعت، في أغلب الأحيان، على خلفية اللوحة. والناظر إلى تلك الرسوم سيلاحظ مكانة هذا التفصيل المعماري، ونعني المئذنة، تأليفياً ولونياً، رغم وقوعه في الأفق البعيد تارة، أو أقرب إلى مقدمة اللوحة تارة أخرى. فهيكل المئذنة المنتصب عمودياً يقفل اللوحة، وشكل هذا يتعاكس مع بقية أجزاء اللوحة ومحتوياتها المنبسطة على نحو أفقي، فيصير هذا الهيكل تفصيلاً بديهياً لا يستقيم بناء العمل التشكيلي دونه.

أما إميل هنري فقد وجد في مدينة إسطنبول مادة خصبة لجملة من الأعمال المائية التي نفذها هناك، والتي نرى فيها مجموعات من المآذن تشق الفضاء الذي طغى عليه اللون الأصفر. وكأن الفنان شاء اختيار وقت مغيب الشمس، أو شروقها، لما يوّفره هذا الوقت من صفاء يعطي ألواناً خفيفة.

ولابد من ملاحظة أن أعمال عدد كبير من الرسامين قد نفِّذت بتقنية «الأكواريل» (الألوان المائية). هذه التقنية تتناسب تماماً مع تلك الفئة من الفن، أو من الرسوم التي تسمى «رسوم الرحلات»، ولا يحتاج الفنان هنا للكثير من التجهيزات من أجل تنفيذ رسومه، إذ يكفيه دفتر خاص بالأكواريل من الحجم المتوسط أو الصغير مع علبة الألوان الصغيرة أيضاً. لكن أعمالاً أخرى لأوغست ماير مثلاً أو لفنانين آخرين جرى تنفيذها بالألوان الزيتية، تطلبت جهداً أكبر ووقتاً أوفر، لكنها جاءت على مستوى عالٍ من الدقة والأمانة في تبيان تفاصيل عمارة المساجد، ومن ضمنها ما يتبع لها من مآذن في طبيعة الحال.

أما الفنان الذي ترك أشهر مجموعة أعمال في هذا المجال، والتي تُزين نسخها جدران المنازل والفنادق والمكاتب في بلادنا، فهو بلا شك دافيد روبرتس، الفنان والرحّالة الإنجليزي المعروف الذي زار بلاد شرق المتوسط عام 1839م وجال فيها مجتازاً لبنان وفلسطين والأردن ومصر، متوقفاً في مدن ومناطق عدة ذات مكانة تاريخية وحضارية.

نفّذ روبرتس الكثير من الرسوم، ولم يكتفِ برسم المكان نفسه من زاوية واحدة، بل تعمَّد الإحاطة به من زوايا مختلفة سعياً لإعطاء الصرح التاريخي حقه. ثم قام الفنان بعدها بطباعة هذه الرسوم، بعد إعادة صياغتها، بطريقة الليتوغرافيا لتخرج بقيمة فنية رفيعة المستوى. وقد برزت المآذن في عدد كبير من أعماله، وكان وجودها يضفي على اللوحة نكهة خاصة، خصوصاً تلك التي نراها في الأعمال المكرّسة لمدينتي القدس والقاهرة.

وبخلاف المشاهد الداخلية المختلفة الحقيقية أو المتخيلة التي رسمها المستشرقون، حيث لعب المزاج الشخصي (وأحياناً الخيال الأدبي) دوراً في الانحراف عن الحقيقة، فإن مشاهد المدن الخارجية المزدانة بالمآذن، جاءت في معظمها على قدر مدهش من الواقعية والأمانة للأصل. وكأن الفنان يعترف بعجز في خياله عن تجاوز الجمال المتمثل في هذه المآذن أو «تجميل» أي شيء فيها.

إن الباحث في أعمال المستشرقين، ممن وردت أسماؤهم أو الذين لم تسنح الفرصة لذكرهم نظراً لضيق المجال، سيرى أن رحلاتهم والرسوم التي نتجت عنها، تعود في معظمها إلى القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ولكن الاتجاهات الحديثة في الفن التشكيلي ألغت من ضمن ما ألغت في معظم الأحيان مشابهة الواقع، وتراجع المشهد المديني الخارجي كموضوع مهم في اللوحة. ومع ذلك ظلت المئذنة تبرز في بعض الأعمال العالمية كبصمة حضارية واضحة الخطاب.

ففي السبعينيات من القرن الماضي، رسم الفنان الفرنسي ماثيو لوحة تجريدية بعنوان «أسطنبول». ووفق أسلوب هذا الفنان، اقتصرت اللوحة على بعض الخطوط العفوية ومن ضمنها بعض أنصاف الدوائر، تعلوها بعض الخطوط العمودية.. إنها القباب والمآذن التي تشكِّل أبرز معالم هذه المدينة. ورغم تجريدية اللوحة، كان خطابها واضحاً حتى أن إحدى شركات الطيران استخدمتها ملصقاً دعائياً للسياحة في تركيا.

أما اللوحة التشكيلية في بلادنا، وإن تأخرت قليلاً عن اللوحة الأوروبية لبعض الوقت في هذا المجال، فذلك لأن الفن التشكيلي كان في القرن التاسع عشر يخطو خطواته الأولى. وما أن حل القرن العشرون، ونشط هذا الفن في بلادنا، حتى أصبحت للعمارة الإسلامية أصداءً واسعة في أعمال فنانينا، لكنها جاءت مختلفة عن أعمال المستشرقين، ليس من حيث النوعية والمستوى الفني، بل من حيث التقنيات والعلاقات اللونية، إذ إن تلك الأعمال عكست علاقة خاصة مع الأمكنة، لعب فيها الانتماء والهوية دوراً لا يمكن تجاهله. فلم يعد معمار المئذنة هو الأساس كما كان الحال في معظم لوحات المستشرقين، بل أصبح مجرد ظهورها ولو بشكل متخيَّل، خطاباً بحد ذاته يوضِّح حقيقة الانتماء ببساطة وبلاغة أكثر من أي خطاب آخر.

أضف تعليق

التعليقات