الرحلة معا

غياب المجلة السياسية العربية

انتابني منذ فترة سؤال ملح عن أسباب غياب المجلة السياسية العربية. في وقت من الأوقات، ربما في نهايات السبعينيات ومطالع الثمانينيات، كان هناك عدد لا بأس
به من المجلات السياسية العربية، التي كنا ننتظر 
بعضها بترقب ملحوظ لتنقل لنا بأقلام كتّابها الكبار صوراً من المشهد السياسي العربي، الذي كان، فيما أعتقد، أقل اكتظاظاً بالبؤر الحمراء المثيرة لشهية الكاتب السياسي.

إذا كنتم تذكرون فقد كانت هناك في رأس القائمة مجلة الحوادث وكانت هناك الصيّاد والمستقبل والأسبوع العربي. وكانت هناك مجلة فاجأنا ظهورها بسرعة واختفاؤها بنفس السرعة هي مجلة اليوم السابع، التي رأس تحريرها آنذاك الكاتب الفلسطيني بلال الحسن، الذي لا يزال يظهر لماماً في بعض اليوميات العربية المهاجرة، كما يظهر غيره ممن دارت بهم الأيام فاتكأوا على كتف تلك المدينة الغربية أو تلك.

اليوم لم يعد هناك شيء من هذا القبيل. لا مجلة سياسية عربية ولا كاتب يطل علينا بخبرته وغليونه من فوق تراكم أو ركام سياسي عربي، وكأن ما حدث هو انتفاضة ضمير صحفي سرعان ما خبت وعادت إلى حال من الانطفاء نعيشها توابعها اليوم. فهذه المجلات بنفس مسمياتها لا تزال تصدر من أماكنها السابقة، المهاجرة والمقيمة منها، لكنها لم تعد تجذبنا كما كانت ولم تعد مصدراً للانفراد الصحفي السياسي كما فعلت الشراع ذات يوم. كما لم تعد ترصد أو تحلل بعين شفيق الحوت ونبيل خوري وأحمد بهاء الدين وأحمد عباس صالح وعوني بشير. أصبحت هذه المجلات تشبه بعضها في استسهال المادة الصحفية السياسية وعدم العناية بمصادرها وأقلامها.

وحين يجري تفسير هذا التراجع الآن تطرح أسباب عديدة من بينها أن الفضائيات العربية وشبكة الإنترنت دفعت هذه المجلات إلى الظل بعد أن استحوذت هي على كل الضوء السياسي عبر كل المعمورة العربية، بل والعالم أجمع. وإذا أجلنا مناقشة هذا السبب قليلاً فإن الأخوة المعنيين في الشأن الصحفي السياسي في السودان على سبيل المثال، وهو بالمناسبة سوق عربية رائجة للصحافة السياسية، عطلوا بعض صحفهم أو دمجوها بأخرى اتقاء لمشكلة تحول القارئ إلى مصادر أو صحافة أخرى، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع مداخيل الإعلان والمبيعات ومن ثم تبحث هذه الصحف أو المجلات السياسية عن مشتر لتراخيصها أو أقفال لأبوابها.

وبينما عزا السودانيون مشكلة تراجع الصحافة السياسية لديهم إلى الضائقة الاقتصادية في بلادهم رأى محللون مصريون أن هذا السبب إذا قبلنا به بالنسبة لسوق الصحافة السياسية السودانية لا يعد كافياً أو صحيحاً لو جرى تطبيقه في أسواق أخرى مثل السوق المصرية والمغاربية والخليجية وكذلك المهاجرة التي كانت دوماً، من باريس أو لندن بالذات، ذات إمكانات مادية عالية بفضل مداخيل الإعلان وغيرها من المداخيل.

وبالتالي إذا استبعدنا السبب الاقتصادي من عملية تفسير تراجع الصحيفة أو المجلة السياسية العربية فإنه يبقى هناك مجموعة أسباب محتملة لكل منها نصيبه في هذا التفسير. من هذه الأسباب القيود على الحرية الصحفية ومراوحة العمل السياسي العربي في مكانه أو تغير السياسات والأحداث مع ثبات الآليات والاستراتيجيات لدى الأنظمة السياسية العربية ثم هناك السبب المطروح سلفاً وهو أضواء الفضائيات ودهاليز شبكة الإنترنت. وهناك أخيراً، ربما نتيجة لكل ذلك، اتخاذ القارئ العربي قراراً بتغيير اهتماماته الصحفية بحيث لم تعد هذه الاهتمامات سياسية بل تحولت إلى اهتمامات رياضية وفنية ونوعاً ما اقتصادية، مما أصاب الصحافة السياسية وبالتالي المجلة العربية السياسية في مقتل.

وإذا أردنا مناقشة هذه الأسباب فإنني سأبدأ بالقيود على حرية الصحافة، الأمرالذي لا أعده مبرراً كافياً لتفسير تراجع المجلة السياسية العربية، بل على العكس أرى أن نوافذ هذه الحرية زادت. وزيادتها هذه لم تتم بقرارات حكومية وإنما بفعل التحولات الدولية والإقليمية والمحلية التي فرضت حضورها على الخارطة السياسية العربية في السنوات العشر الأخيرة. وكان الأجدر هو أن تفرز آفاق الحرية الصحفية الرحبة، ليس في المهجر فقط وإنما أيضاً في البلدان العربية، مزيداً من المجلات السياسية من الوزن الثقيل، بينما ما حدث هو العكس فقد تقدمت الحرية الصحفية وتراجعت المجلات العربية السياسية.

أما إذا تناولنا السبب الآخر المطروح وهو برامج الفضائيات الحوارية ومواقع شبكة الإنترنت فإنني سأقبل بهذا السبب لتفسير التراجع جزئياً، حيث لا يزال هناك مجال للتحفظ على هذا السبب إذا ما عرفنا أن المجلة السياسية الأجنبية لم تتراجع وإن كان هناك من يرى أنها فقدت شيئاً من حضورها وبريقها في زحمة أضواء الفضائيات وبضائع الإنترنت. لكن هذه المجلات، المعروفة منها بالذات، لا تزال تقف على قدميها ولديها تبدلات ملموسة في ملاحقة الأحداث السياسية والمحتوى وطريقة تقديمه لتظل قادرة على المنافسة في سوق الصحافة السياسية. ويخطر ببالي الآن أن يكون من بين موضوعات القافلة في عدد قادم قراءة علمية لمستوى تراجع المجلة السياسية العربية مقابل مثيلتها الأجنبية وتقديم الأسباب الحقيقة لضعف الأولى وتراجعها وقوة الثانية وثبات أقدامها في أسواقها المحلية والسوق الصحافية الدولية.

ولكي أختم هذا الموضوع، حيث ضاقت على المساحة المخصصة له، أضع في تصرف الخبير أو مجموعة الخبراء الذين سنستضيفهم لكتابة هذا الموضوع رأيي الخاص ليأخذوا به أو يستبعدوه أو يختبروه إذا شاءوا. فأنا أجد أن مراوحة العمل السياسي في مكانه وعدم إحراز نتائج إيجابية في المشكلات الرئيسة العربية جعل القارئ يمل مما تنقله الصحف يومياًً والمجلات أسبوعياً. وبينما ظلت اليوميات تحاول وتحاول اختارت الأسبوعيات الظل والعافية، بل إن بعضها انتحر أو مات موتة طبيعية ليظل عالمنا العربي بلا أسبوعية سياسية مرموقة بعد أن كان لدينا، بغض النظر عن تحفظاتنا تجاه تياراتها السياسية، خمس أو ست مجلات تستأهل الترقب وتستحق القراءة.

أضف تعليق

التعليقات