الثقافة والأدب

السرد عند المحيميد
وصولاً إلى نزهة الدلفين

  • 79a
  • 81a
  • 78a
  • 78b
  • 78c

نزهة الدلفين رواية جديدة للأديب السعودي يوسف المحيميد، تصدر خلال شهر ديسمبر عن دار رياض الريّس في معرض الكتاب العربي في بيروت. القافلة تنشر هنا بعض الصفحات من الرواية تسبقها قراءة الناقد أحمد الواصل لفن السرد عند المحيميد وتطوره من خلال قصصه ورواياته السابقة.
عندما نتأمَّل هذا المقطع السردي: لا أعرف كيف تذكرت فجأة الخادمات الإندونيسيات حين يقدمن لأول مرة من أجل العمل في دول الخليج، وكيف يشعرن بالوحدة القاتلة، وهن يذهبن إلى النوم في غرفهن العلوية في السطوح. لم أعد الآن معتقلاً أو منفياً بل تحولت إلى عامل أو خادم أو سائق بنغالي أو إندونيسي يقيم لدى أسرة إنجليزية . وهو من: النخيل والقرميد- 2004 ليوسف المحيميد، فسيكون مدخلاً مناسباً لاكتشاف بعض مزايا التجربة السردية له، سواء في القصة القصيرة أو الرواية.

فالمزية الأولى: هي تأريخ المرحلة السردية الثانية له، والثانية: تفعيل مفهوم البصيرة السردية ، الذي أطْلِقُه على المرحلة الثالثة من أجيال السرد، في الأدب العربي السعودي. إذ أرى أن الهمَّ الأكبر، كما أنه المستحوذ على العدة السردية لكاتبنا، هو هَمّ الأسلوب اللغوي الشخصي، فهو المعتنى في صراع تتوازى فيه طائلة الشخوص وحراكها إلى جانب نازلة السرد وتقنياته.

تتيح لنا لحظة إمعان بصر في عناوين تجربة المحيميد السردية، عبر ذلك الهم المعد مدخلاً مشروعاً عندما نتقرَّى عنوان أول مجموعة قصصية له: ظهيرة لا مشاة لها – 1989 في التوازي المتوهج بين البصيرة السردية والأسلوبية الشخصية كذلك نراه في التالية: رجفة أثوابهم البيض – 1993 بيد أن تلك الورشة السردية بين نوازع البصر وممكنات السرد تجنح إلى مواطئة أدبية تتمظهر في إفلات السياق السردي -من داخل التجربة لا خارجها- نحو ظهور ملازم أو كشاكيل سردية، توحي بذلك الصراع الذي يحفظ طزاجة الحوافز وتطلعات التجربة إلى آفاق مستقبلية السرد عبر نصوص لا بد أن أحداً حرَّك الكرَّاسة – 1996 ، المُسجِّلة لعناء سردي بالغ تظهره اللغة المشحونة بين تقشفها وتكثيفها معتمدة على المسح البصري كما في شهادة مهمة كتبها عن تجربته (حقول/2 سبتمبر 2005)، وهي الأثناء نفسها الشاهدة تمخضاً سردياً نحو نص الرواية -ليس بمفهومها البسيط- بل نحو استحضار شمولي، ربما عن وعي مترصد حوافزه وتطلعاته كما ذكرنا، إنما يتكئ على عدة سردية نضجت -أو في طريقها إلى ذلك- تحمل تأسيس مفهوم البصيرة السردية والأسلوبية الشخصية، واضعة في بالها ذلك التحول السردي لجيل أدبي مفارق في سياق تجربة أعم، تجربة الأدب العربي السعودي. فالمحيميد يقف على عتبة تحول ليس وحده بل هناك مجايلوه: رجاء عالم وعبده خال، نورة الغامدي وليلى الجهني وآخرون، الذين تتفاوت فيما بينهم درجات العدة السردية في مفاهيمها الأسلوبية ومُقدَّراتها الإبداعية، فحين يسيطر الحدث السردي وزمنيته على خال والغامدي، يتملك الفعل السردي وتقنيته لدى عالم والجهني بالإضافة إلى المحيميد.

اتبعت رواية المحيميد الأولى: لغط موتى – 2003 ، المكتوبة ما بين 1995 و 1996، أسلوب الميتا سرد ، أيْ اتخاذ السرد ذاته موضوعاً، حيث نواجه مع بطل الرواية -أو كاتبها- همومه المؤرقة بين احتمالية عجز كبرى، تتحول إلى الحافز المضمر، في أمرين: الواقع الافتراضي الذي تغرف منه حالة الفعل السردي للشخوص وحراكها إزاء الأمر الثاني في بصيرة السرد وتقنيته.

ربما ذلك ما يتركنا له، من حيرة نقدية، لكن سرعان ما ينزع الفعل السردي لدى المحيميد نفسه إلى جعله ترسباً أولياً في أرضيته السردية، وهذا أول رهان على نفاذ سردي رائع، حين يمضي الفعل السردي في تحقق وفعالية ظاهرة بين طباقية سردية (أي:تعدُّد حكائي متناغم) لحكاية توفيق وطراد، وهما بطلا روايته الثانية: فخاخ الرائحة – 2003 .

وما كانت حكاية ناصر سوى جنين سردي احتيالي جعل من حكاية توفيق فرعاً على الحكاية الأساس لطراد،ثم جاءت حكاية ناصر تنويعاً سردياً خلاقاً أدار الفعل السردي صوب تحققه الأجدى.

لن يترك، المحيميد، تلك الأرضية في ترسبها السردي الأولي عرضة لقوت الذاكرة السردية التي من المحتمل أن تكون حيلة السارد لتبديدها، صوب مأزق اشتباه تكراري، إذا ما تصاعد التنازع بين البصيرة السردية والأسلوبية اللغوية، بل كان خيار المغامرة متاحاً إلى تلبُّس الحيلة الشهرزادية العتيقة، في صيغة مطلب الجدة النجدية الحزينة من بين حفيداتها الثلاث: نورة ومنى أو منيرة الساهي، التي سيعنى بها المحيميد في مساحة سردية مفاجئة عندما يتقمص ضميراً حكائياً مؤنثاً ليعادله سردياً بين شهرزاد المهددة بالقتل والمرأة النجدية الحزينة، فالشهرزادات سوف تتوالى بين منى ونورة ثم منيرة التي تسلمت عنكبوت الحكايات. وتجلى هذا الرمز السردي البارع في الرواية الثالثة: القارورة – 2004 ، فإذا ما كانت الأرضية السردية قويت بفعل ترسبات تقنية الميتا سرد في لغط موتى وطباقيِّة السرد في فخاخ الرائحة كان إغواء البصيرة السردية على أشده لدى المحيميد في قارورته التي سيتمخضها تلك الأثناء، زمن الفعل السردي، كتابته لمشاهداته بين أمكنة عدة كانت متوناً سردية عبر الذاكرة البصرية مباشرة في أزمان متفرقة بين مدن عربية (كالكويت، البصرة – 1980، الدوحة 1987-2002، القاهرة – 1991 وبيروت 1997-2001) أو أوروبية (لندن ثم النرويج 1998-1999). حملها عنوان كتابه: النخيل والقرميد – 2004 الذي يعزِّز من وجود تراكم سردي اتضحت معالمه في مرحلته الأولى بصدور نصوصه السردية عبر كتاب: لا بد أن أحداً حرَّك الكرَّاسة ، ومرحلته الثانية بصدور نصوص مشاهدات سردية عبر كتاب: النخيل والقرميد ، التي تؤالف بين اليوميات والمذكرات في رصد سيري بديع وموحٍ.

إن كل ذلك يفتح التساؤل النقدي المشروع، إذا ما كان يرى سيرورة سردية صوب تحقُّقات أخرى ما بين عدة سردية قائمة -قابلة للنقض دوماً-، وبين ذلك الصراع في توازيه أو تصاعده بفن السرد،سواء لمصلحة البصيرة أو الأسلوبية، وهذا ما نتطلع إلى كشفه عبر أي نص سردي جديد توافينا به التجربة الأدبية عند يوسف المحيميد لاحقاً.

يوسف إبراهيم المحيميد
• إسم الشهرة: يوسف المحيميد
• مواليد الرياض 1964م
• يكتب القصة القصيرة والرواية وقصص الأطفال، منذ مطلع الثمانينيات الميلادية، وعمل في الصحافة لعدة سنوات.
• صدر له:
– ظهيرة لا مشاة لها- قصص- الرياض 1989م.
– 
رجفة أثوابهم البيض- قصص- دار شرقيات- القاهرة 1993م.
– 
لابد أن أحداً حرّك الكراسة- نصوص- دار الجديد- بيروت 1996م.
– لغط موتى- رواية- دار الجمل- كولونيا/ المانيا 2003م.
– فخاخ الرائحة- رواية- دار رياض الريس- بيروت- 2003م.
– 
النخيل والقرميد- مشاهدات من البصرة ونورج- أدب رحلات- دار السويدي-أبو ظبي/المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 2004م.
– 
القارورة- رواية- المركز الثقافي العربي- بيروت/الدار البيضاء 2004م.
– 
أخي يفتِّش عن رامبو- قصص- المركز الثقافي العربي- بيروت/الدار البيضاء 2005م.

نزهة الدلفين
مقتطفات من الرواية..
(1)

كانت يده كالدلفين الأحدب الخجول، الذي يفضِّل المياه الضحلة المفتوحة، ويسبح ببطء وتلذذ، وكلما التفت نحوه السائرُ أماماً كالدليل، تخلَّص الدلفين ذو البطن القرنفلي الفاتح من مياه يدها وقد احمرَّ خجلاً، ملتقطاً أنفاسه المتسارعة، مؤجلاً لهوه ولعبه الرائع.

هل كان دلفينها يحب اللهو واللعب مع الناس، يتسلَّى بقربهم، هل كان دلفينها العائم في الأقنية بين المصاطب الطينية في الخليج يتمسَّح بظهره الطري بكل ما يقترب منه! كان مساءً في أواخر أيلول من عام 1999م وقد عاركت عيناها لأول مرة عيني الشاعر، وأصابته بحمَّى الحبِّ الأبدي، فأظهرت اهتماماً كبيراً به خلافاً للضيوف الآخرين، واقترحت أن تأخذه في المساء إلى المتحف البحري، وفي سيارة الضيوف جلسا معاً في المقعد الخلفي، حيث ألقى يده دون قصد في المساحة بينهما على مرتبة الجلد داخل سيارة الكابريس الكحليِّ، بينما رمت دلفينها لأول مرة قرب يده، كأنما أحدهما صيَّاد يرمي سنَّارته وينتظر، كانت المسافة بين يديهما لا تزيد على مليمترات معدودة، أنفاس الدلافين الساخنة تفضي بشيء سرِّي وسحري، كان التخاطب بينهما صامتاً، فلا يعرف آنذاك إن كانت قصدت أن تجعل يدها على مسافة شهقة من يده أم لا، ولم تعرف هي أيضاً إن كان قد تعلَّقت روحه بعينيها أم لا، كانت اللحظة مشوّشة كثيراً، ولم يجرؤ أي منهما على سحب دلفينه إلى محيطه، كما لم يجرؤ أي منهما أن يدفعها قليلاً باتجاه الآخر! اللحظة آنذاك كانت صعبة، ممتعة ومؤلمة معاً!.

عند مدخل المتحف البحري كان ثمَّة زحام لزائرين أجانب وعرب، فما كان منها وهي تصطحب ضيفاً إلا أن أشارت من وراء المتجمهرين بورقة رسمية في يدها نحو الحارس عند الباب، الأمر الذي جعله يشير بيده أن ادخلا، فكانت اللحظة التي لا تنسى، هكذا سحبت يده عفوياً للمرة الأولى، وانساب دلفينها الطري الساخن الرطب في دلفينه الأكبر حجماً، هكذا دخل دلفينان خلسة في متحف بحري، بل دخلا في عمق البحر، البحر الأزرق الكحليِّ أو بحر العشق الملتبس! للمرة الأولى رأت مدينتها البحرية متألقة هكذا، رأت الكورنيش ساحراً، والعمّال الهنود والبنغاليين كملائكة يطيرون في سكينة، رأت الأشجار كما لو كانت تثمر في الجنَّة، فلم تعد مدينتها مدينة المال والثروات، بل مدينة العاشقين والدلافين، فكان دلفينها ضعيفاً قبالة شبكة صيَّاد جاء من البراري، صيَّاد أحبَّ الصحراء، فأحبه البحر، يا لهذه المفارقة!.

(2)

أمها جاءت من مدينة بهلا، امرأة جميلة إلى حد أن لاحقها أبوها لسنوات، تاركاً تجارته وأمواله مقتنصاً مرورها من أحد شوارع مسقط حيث تأتي لزيارة أقاربها، كانت تمرُّ كل صباح في الساعة ذاتها، من أمام متجره هناك، يقول أولاده الكبار إنها صنعت له سحراً أسود، فهجر بيته وأولاده وزوجته الأولى، صار يلهج باسمها: فاطمة!.

كانت أمي جميلة جداً، قالت آمنة وهي تقاسم خالد اللحياني رغيفاً في المطعم السفلي الصغير في شيراتون القاهرة، ولكن إخوتي جعلوا منها ساحرة كونها من مدينة اشتهرت بالسحرة، ذات جبل اسمه كور، فيه نهير صغير ينساب أسبوعاً للإنس، وينضب أسبوعاً آخر أمام عيون الإنس، لكنه كان ينساب بشكل لا مرئي للجن، قالوا إن أمي سحرت أيضاً أمهم، فصارت تحبها حبَّاً عظيماً، كانوا مأخوذين تماماً، فكيف تحب المرأة ضرَّتها؟ أمي يا خالد طيبة وحنون، ستحبها حين تراها وتتعامل معها.

– لا تخف لن تحملك على جريد السعف وتطير بك!.

ضحكت آمنة بطريقة ساحرة، وهي تغمس قطعة رغيف في طبق الفول.
• ليتك تحملينني أنت على الجريد ونطير!.
– سأسحرك!.
• أف! ألم تفعلي بعد؟.
وضحكا معاً، بينما الجرسون السمين يدور حولهما:
– تعرف خالد؟ أتمنى أن آخذك تحت شجرة كبيرة معروفة في سوق بهلا القديم، وأزايد عليك مع السحرة!.
• خلاص كفاية!.
ثم أضاف بعينين ذاهلتين:
• أنا مسحور بك، فقد جلست تحت شجرة الدنيا، وزايدت معك نساء ساحرات كثيرات، فأخذتيني!.

صباحهما الأخير كان غير طبيعي، بدأ ناعماً وطريّاً، وانتهى في غرفة تشبه المركب الشراعي، حيث تحولت الدلافين إلى طيور سحرية ضخمة تطير مصحوبة بالصخب والأنين في سماء الغرفة.

أبي كان ثريّاً، لم أره منذ سنوات بعيدة، غاب عنا ثلاثة أيام متواصلة، وفي اليوم الرابع هاتفت أمي ضرَّتها، فأكدت الأخرى أنها كذلك لم تره ولا تعرف له أثراً، قالوا إن أمي حوَّلته إلى طائر في قفص عندنا في صالة البيت، في المساء تعيده إلى حالته الطبيعية(…)، وفي الصباح يوقظ الطائر الأصفر الصغير البيت وهو يغرِّد بلا كلل. حين كبرتُ عرفت أن أبي هاجر إلى شرق آسيا، لا أعرف إن كان يركض خلف تجارته أم خلف نسائه!.

تركنا نحن أربع بنات وولداً، كنت الكبرى التي تحوَّلت إلى أب وأم وعائل، كنت أشعر بالحزن قبل أن أهجر الشعر، لا أسمِّي ما أكتبه شعراً، هو مجرد خواطر أكتبها في ساعات السأم والملل والحزن، كنت أكتب ولا أفكِّر بالنشر، يعني أتسلّى ببساطة، ولكن الصحافة أصبحت ميدان دراستي وعملي، فقد أحببت الصحافة الحرَّة الجريئة، وكان بمقدوري أن أكون شاعرة مهمة بأن أستغل الصحيفة التي أعمل بها، وكذلك جمالي الذي يلفت انتباه الرجال، من رئيس التحرير وحتى أصغر الصحفيين، إضافة إلى أن الشعر النسائي في الإمارات قليل ونادر، لكنني أحترم الشعر وقداسته وكذلك أحترم نفسي!.

(3)

كانت يدها وقد قبضت على يده لثوانٍ وقادته إلى البحر، أو المتحف البحري، قد صنعت تاريخاً سرِّياً بينهما، بعد أن تجاوزت به المدخل المزدحم بالسيَّاح الأجانب والعرب، تراخت أصابعها القرنفلية الساخنة، وانسحبت واحداً واحداً، الإبهام أولاً، ثم السبابة والوسطى حتى آخر زعنفة من الدلفين! كي تشير إلى حوض يخص سمكة الشعرى الناعمة، وتتحدث معه عن خصائصها ووفرتها في الخليج العربي. لم يكن حاضراً معها في شرحها بل لم يكد بعد يتخلص من الصخب العارم في شرايينه أول ما قبضت على يده، لكنه قال لنفسه، قد تكون حركة طبيعية تلقائية، ولا يجب تحميلها أكثر مما تحتمل.

بعد شهر أو أكثر بدأت الحياة تضج في هاتفه المحمول، إذ صار كل ليل يضطرب مرتعشاً كسمكة خرجت من الماء، كانت الكلمات تحمل دائماً رائحة البحر والرمل:

رسائل واردة1: خالد..هل كتبت عن المتحف البحري، والأسماك الغريبة!.
رسائل واردة1: ليس بعد، لكن التفاصيل داخل القلب!.
رسائل واردة1: بجد؟ أما زلت تذكر جيداً تلك اللحظات البعيدة؟.
رسائل واردة1: زحام السيّاح والوجوه تمطر في قلبي!.
رسائل واردة1: حين جذبتك من يدك كانت لحظة لا تنسى!.
رسائل واردة1: يدك كانت دلفيناً بحرياً لعوباً!.
رسائل واردة1: معقووول؟ هل كنت تشعر مثلي بذلك؟ ولم تقل شيئاً!.
رسائل واردة1: أحببت طراوة دلفينك ولهوه، شكراً زحمة السيّاح!.
رسائل واردة1: في التاكسي ألقيت دلفيني بجوارك، وكنت تمنيت..!.
رسائل واردة1: ياااالئيمة..هل كنت تقصدين بتلك الحركة؟ ظننتها عفوية!.
رسائل واردة1: هل يمكن أن تهتم بك امرأة عفوياً وحدك بين الضيوف؟.
(…)

كانت اللحظة الأولى لدخوله في غرفة التنسيق للسؤال عن غرفته، حيث ثلاث نساء يجلسن على ثلاثة مكاتب متفرقة، رحبت به الكبرى بابتسامة، وأمرت الصغرى أن تهتم بموضوع الغرفة، رفعت الصغرى آمنة المشيري عينيها الساحرتين نحوه لأول مرة، وشهرت سيوف جفنيها، إذ قالت بخجل وسخاء: نخدمه بعيوننا! هاهنا ذاب قلبه الهشّ، وأنساق خلف سحرها الغامض.

وفي الصباح خفق هاتف غرفته، فكان صوتها الكراوني يقتات سويداء قلبه، وهي تسأله عما إذا كان تناول فطوره، وفي زاوية قصيَّة من مطعم الفندق رأى ملاكاً يجلس أمامه، ويأكل البيض مخفوقاً بأسنان الشوكة، بينما هو يحكي عن كل شيء، ويلتهم حبّات الزيتون الخضراء، كان هاتفها المحمول لا يكف عن الغناء، وهي كل مرة تضحك حين تطالع الرقم، فلا يجرؤ على سؤالها، لكنها ردَّت أخيراً وهي ترخي سحر ضحكتها، واصفة للمتحدثة على الهاتف مكان جلستنا المخبوءة في عمق مطعم الواحة في ركن البهو.

أختها من الأب كانت بيضاء، لكنها تفتقد إلى السحر والذكاء الحاد، قالت لي آمنة إنها قريبة منها جداً، أسرارهما مشتركة، هكذا فهمت الإشارات والضحكات بينهما ذاك الصباح البعيد، وقت أن حاولت آمنة أن تصرفها عن خدر جلستنا الصباحية، بينما الأخت من الأب تقاتل لكي تبقى معنا، كأنما تحدثتا طوال الليل وعلى ضوء مصباح السرير الخافت عن شاعر شفيف، يحب البحر والرقص والغناء والقصائد، كأنما دبرتا هذا اللقاء الصباحي، كأنما غافلت آمنة أختها من الأب، وتسللت من الفراش دون أن تحدث صوتاً، فاستيقظت الأخت مفزوعة وقد انتشر الصبح وطارت سندريلا تبحث عن أميرها المفقود!

آه للصباح الأول، وللنظرة الأولى، وللهاتف الأول، وللبسمة الأولى، وللشوق الأول، وللخفقة الأولى، وللتواطؤ الأول، وللمسة الأولى، وللحضن الأول، وللقبلة الأولى. كل الخطوات الأولى المنتظرة في العشق لها طعم التوت ورائحة الجوافة، المباغتات والكمائن الحلوة تغسل الملل والسأم جيداً، ولكن الخطوة الأخيرة تُشعرُ المحبّ بالفراغ الأبدي، وكأنما عاد فجأة إلى ما قبل اكتشاف محبوبته.

أضف تعليق

التعليقات