الرحلة معا

غياب أدب الحج

ظل الحج على مر العصور ملهماً للأدباء والشعراء والرحّالة، إلى أن أصبح له مكتبة كبرى ليس من السهل أن يحيط بها الباحث في أدب أو ثقافة الحج. وربما وقع غيري في إشكالية التفريق بين ما هو أدبي وما هو ثقافي إذا تم تناول الحج كمُلهم لكثير ممن كتبوا عن هذه الشعيرة وموسمها ومكانها. وقد نصل في النهاية إلى ما وصلتُ إليه وهو أن الحج وعاء ثقافي هائل يستوعب الأدب بألوانه كما يستوعب تقاليد الحجاج وعادات الشعوب الخاصة به وبشعبياته من أهازيج وأناشيد وأدعية منظومة في قوالب محببة وقريبة إلى النفس.

وإذا تجاوزنا هذه الإشكالية فإن ما يلفت نظري، وربما لفت نظر الكثير من المتابعين، غياب أدب الحج في زماننا هذا على خلاف ما كان يحدث في أزمنة سابقة، حيث كانت الأحبار تسيل في الطريق إلى مكة أو العودة منها. وحيث كانت رحلة حاج مثقف مثل ابن جبير الأندلسي أو ابن بطوطة المغربي أو ناصر خسرو الخراساني، تتحول إلى رائعة من روائعه النثرية واصفاً بدقة بالغة رحلته إلى الحج، ليترك لنا صوراً حية من صور ذاك الزمان الغابر، الذي لولا هذا الأدب الرفيع والدقيق ما بلغنا شيئاً عنه ولاندثرت صورته مع صور عديدة بفعل عوادي الزمن.

ولربما نجد تفسيراً لتراجع أدب الحج المعاصر في مقابل ذلك الأدب التاريخي الرائع؛ بغياب الشوق إلى موسم الحج في زماننا وتراجع اللذة في الطريق إلى أماكنه المقدسة، التي هي شرط من شروط إثارة الأديب أو الشاعر ليكتب نصه النثري أو الشعري. فما هيء لابن جبير من معاناة الطريق ولهفة الشوق وبعد الشقة في رحلته البحرية من الأندلس (578هـ) إلى البقاع المقدسة، لا يهيأ لأحد الآن عبر رحلة في الطائرة لا تتجاوز في أقصى حدودها اثنتي عشرة ساعة. وما ركبه من أشرعة في عرض البحر وبغال وحمير في طول البر حلت محله طائرة أو سيارة مزودة بكل وسائل الراحة. فمن سيستثار ليستل محبرته وهو يحج في حملة توافرت فيها كل مستلزماته من الأطباق الفاخرة إلى المئزر وحذاء دخول الحرم.

أظن أن المعاناة، أو المتعة على الأقل، شرط من شروط استثارة الأدباء والشعراء، وغياب الاثنتين سبب مؤكد في التراجع الواضح لأدب الحج. وإذا كانت مكة المكرمة في أدب الرحلات صورة كبرى وواضحة عن بلدان العالم الإسلامي، نَهَلَ منها الباحثون في الثقافة الإسلامية على مر العصور فإن هؤلاء الباحثين لن يجدوا كتباً معاصرة في هذا الموضوع لا عن مكة ولا عن غيرها من مدن العالم الإسلامي؛ لأن أدب الرحلات نفسه أصيب بالضمور وما عاد يستهوي الكتاب الساعين خلف التوثيق والمستمتعين بالتدوين.

ونجد هذا الغياب، بالمناسبة، حتى على صعيد الصحافة العربية التي تراجع فيها بشكل واضح أدب الرحلات الصحفي، في الوقت الذي تنامى فيه هذا الاهتمام في صحف ومجلات أجنبية تغدق الكثير من ميزانياتها على محررين ومصورين يجوبون الأرض العربية والإسلامية، يوثقون بالكلمة والصورة الكثير من مشاهدها التاريخية وملامح حاضرها، حتى باتت بعض هذه المجلات مرجعاً يعتد به للبحث في شؤون عالمنا.

لكن إذا عدنا إلى الحج فإن أدبه القديم المشهود له بالثراء والتنوع بقي هو الأدب الذي يشار إليه بالبنان، مع أن زميلنا العزيز الأديب حسين بافقيه يرى من إحاطته بمكتبة الحج ومتابعته الدقيقة لها، أن المصريين في العصر الحديث غلبوا غيرهم كماً وكيفاً في الكتابة عن الحج كموسم ومكان أو أمكنة. وهو التقط من جملة مطالعاته عند الشهير محمد أسد ومالك بن نبي ومالكوم إكس وغيرهم من المعاصرين فكرة واحدة تجمعهم عن الحج وهي فكرة الأخوّة الإنسانية التي لا تبدو أكثر سطوعاً في أي موسم مثلها أثناء موسم الحج إلى البيت الحرام. بينما سجل الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- في وصفه لرحلة الحج دهشة القادم من صحراء نجد إلى فضاء الحرم ومكتسباته الحضارية وقناديله المعلقة في المآذن والأسقف.

كذلك لم تخل المكتبة الحديثة عن الحج رغم ندرتها من فكرة الكتاب القائم على التأمل. من ذلك كتاب الدكتور محمد حسين هيكل: في منزل الوحي ، الذي اختلطت فيه المشاهدة العيانية والبحث التاريخي والرؤية العاطفية، ثم كتاب شهير آخر لجمال الغيطاني هو حَمَام الحمى، يوميات الحج ، الذي قام على فكرة التأمل نفسها المشتركة بين كثيرين من المتصدين لأدب الحج وثقافة الاتصال بأماكنه ومناسكه.

وفكرة التأمل هذه هناك من يرى أنها تعيد تأهيل المثقف الحاج، بصورة ما، في زماننا الحديث الشديد الاضطراب .وذلك من جانب أنها تعيده إلى شيء من نفسه التائهة أو مألوفه الديني والاجتماعي المغيب بفعل الحالة الثقافية السائدة، فيكون في حالة امتزاج مع النص الذي يكتبه كحاج على صورة مغايرة لتلك التي تعود أن يكون عليها عند كتابة أي نص أدبي أو شعري آخر. أي أن حالة توازن تحدث عنده أثناء حجه وبعد عودته من الديار المقدسة.

وما دمت قد خرجت كل هذا الخروج عن موضوعي الأصلي وهو أدب الحج، بحثاً عن تحليل مناسب لمتغيرات هذا الأدب في زماننا وانتقاله من فكرة الوصف والرصد في قديمه الكثير إلى فكرة التأمل في جديده القليل، فلربما يكون لدي سبب لدعوة من تصدوا لهذا الأدب، قديمه وحديثه، لأن يمدوننا بما توافر لديهم من الرؤى والنتائج والخلاصات لعلنا نخرج بموضوع متكامل يتحقق فيه شرطا الجدة والرصانة ليمكن تعميم الفائدة حول هذا الموضوع.

أضف تعليق

التعليقات