لن أستطيع نسيان تلك اللحظة التي وُلدت فيها قصيدتي من دون وعي مني ولا إرادة أو قصد. ولدت وتجلت في الصف وعلى مقعد الدراسة.
هكذا أحياناً كثيرة تولد نصوصنا قبلنا.. بل تولد مواهبنا في الغيب أجنَّة ودود قز يلتف بحرير أحاسيسنا دون إدراكنا. أتذكر ههنا مقولة مهمة جداً للمفكر المغربي عبدالعزيز بو مسهولي: «إن تجربة الحقيقة هي تلك التي تستعيد أساسها في الحق. إن الحقيقة قد تستحيل على المعرفة، ولكنها لا تستحيل على تجربة العيش، إنها محايثة للوجود المعيش؛ إن كل تجربة للحقيقة تعبير عن تناهٍ أصيل يفسح المجال لاستئناف تجربة الحياة». أقصد من ذلك ما حدث لي مع قصيدتي «سبورتي البعيدة» تلك، تخلّقت من قبل أن تتخلّق شاعرتي، حيث كبرت قصيدتي قبلي، ثم حين أكملتُ حروف الأبجدية بدأتْ تلتمع في رأسي كهلال موجع..
من هنا سأقص عليكم حكاية قصيدتي «سبورتي البعيدة» التي شردت بي. فحين كنت في الصف الأول الثانوي وفي حصة معلِّمة الأحياء التي كانت تتحلَّى بعينين حادتين جداً، ليستا كعيني شيهانة أو غزالة أو قطة، بل كانتا كعيني ضبع ربما أو فأر، وهي تدور كل صباح حول مقاعدنا في الصف وتحاول متابعتنا حتى في دقائق استراحتنا. وكانت هي الدقائق التي التمعت فيها قصيدتي تلك في رأسي، فقد أخذتني معها خارج صوت المعلِّمة والمقاعد الدراسية والصف وباحة المدرسة، وصعدت بي إلى سماء أخرى تجلت فيها روحي بحسي، آنذاك فررت إلى أنثى تسمى القصيدة هي أشبه بملاك.
هذه القصيدة وهي تنمو وتنبت أجنحتها في قلبي الصغير لتطير أو لتقر في عشه وتتكاثر، على أغصان نبضي.. انقضّت عليها يد معلمتي بمخالب لها لم أكن ألحظها من قبل. مخالب غريبة بذلك اللون المغموس في أطرافها. كانت دموية طويلة وحمراء قانية.. خبطت براحة كفها فوق دفتري الصغير الذي مددت يديّ عليه وكانت عيناي تحلقان خارج سرب الصف بشرود مذهل لم أكن على إدراك به في تلك اللحظة. إذاً كانت لحظة تكوّن جنين قصيدتي، التي شردت بي ولذّ لي السفر معها خارج الكون المدرسي المحدود.. حيث بسطت لي سماءً من خيال وكلمات.
هل تعلمون أنني كنت كتبت قصيدتي «سبورتي البعيدة» في أعماقي وفي رأسي قبل ثلاثة عشر عاماً من لفظها واقعياً على الورق؟. وحين كتبتها على الورق أنهيت سكبها وكتابتها في عشرين دقيقة تقريباً مرة واحدة.
ما أردت أن أشير إليه هو أن بعض القصائد تعيش فينا طويلاً، وحين تخرج من قبو الأعماق تخرج دفعة واحدة كما هي حال قصيدتي (سبورتي البعيدة). ربما كان للموقف العنيف الذي اتخذته تلك المعلمة من حالة شرودي الإبداعي، وعدم تقديرها أو لطافتها وحنوها في تلك اللحظة لسهوي غير المفتعل وهدوء إلهامي؛ تأثيراً سلبياً على قصيدتي حيث تعسرت ولادتها وتأخر خروجها ثلاثة عشر عاماً.
لكنها ولدت وفي وقت قياسي. ولدت فتاة ناضجة شاعرية تمردت على تلك اللحظة التي سرقت منها شرودها وانتقمت بقصيدة لها سبورتها الشخصية البعيدة من خيال وسماء ومدى.
سبورتي البعيدة
لم أعد التلميذة الساكنة في كرسيّها
وما زلتُ أفرّ
مِنْ كلّ دفتر يُشبه دفتر المدرسة.
قبل أن ألبسَ العباءة ،
نسجتُ روحي عباءةً لدفتري
فيه خبّأتُ بذورها
لا أدري بعدُ
لماذا تـنبت في الصّفّ؟!.
قصيدتي
تشرد بعينيّ
في حضرة الدرس
تتسلّق صوت المعلّمة
والجدران
والسقف؛
إلى سبورتها البعيدة
عن سبورتنا.
عيناي
تشرقان في خيمة صفِّنا
مصباحاهما قصيدتي..
كم مرّة تطفئهما،
كلّما…
معلّمتي الغاضبةُ
مخالبُ تهبطُ
على دفتري.
عيناي دهشةٌ تذوي،
إذ تطردني معلّمتي
قصيدةً
دمي
يتسرّبُ
باكياً
من باب الصفّ.
هدى الدغفق
شاعرة وكاتبة سعودية، صدرت لها مجموعات شعرية، بينها: «الظل إلى أعلى»، و«ريشة لا تطير»، و«بحيرة وجهي»، و«حقل فراش»، وتُرجمت بعض قصائدها إلى الإنجليزية والإسبانية.