الهيبة الأسرية مسألة لا بد وأن تقفز إلى أذهان كل الأهالي بين الحين والآخر، خاصة عندما يتعثر الحوار بينهم وبين أبنائهم، أو عندما يلحظون ميلاً عند الأبناء إلى الخروج عن طاعتهم أو عن ما اختّطُوه لهم.
فكيف تتكون الهيبة الأسرية وكيف تنظم؟ هذا ما يحاول حسين محيي الدين سباهي أن يجيب عنه متناولاً الأنماط والنماذج الخاطئة من الهيبة الأسرية.
يميل الآباء والأمهات الذين لا يطيعهم أبناؤهم إلى التفكير بأن الهيبة الأسرية هبة وليست مكتسبة، فإذا لم تكن هذه النعمة موجودة فلا يمكن إحداثها، ويبقى هؤلاء يبحثون عن النصيحة والموعظة لدى أولئك الذين منَّ الله عليهم بتلك النعمة.
وفي الحقيقة، يخطئ أولئك الآباء والأمهات. فالهيبة التربوية للأسرة يمكن تشكيلها وتنظيمها بشكل فعَّال ومن دون تعقيد في كل أسرة. ولكن الذي يحصل في كثير من الأحيان أن محاولات تنظيم الهيبة التربوية للأسرة تقوم على أسس كاذبة أو واهية أو خادعة. فعلى سبيل المثال، يسعى الأهل كي يصبح أبناؤهم مطيعين لهم، ولا يضعون غير هذا الهدف لنشاطهم التربوي مع أولادهم وهذا هو الخطأ بعينه. فالهيبة الأسرية على شكل طاعة عمياء ليست هدفاً، بل ينبغي أن يكون الهدف هو التربية السليمة من كل الجوانب.
ولذا، نتناول هنا بعض النماذج السيئة للهيبة التربوية الأسرية، عسانا نتمكن من خلال نقدها تشكيل صورة حقيقية للهيبة الأسرية السليمة.
1 – هيبة القمع (الإرهاب)
وهي أخطر أنواع الهيبة التربوية وأكثرها ضرراً على مجمل التربية ويتصف بها على الأغلب الآباء أكثر من الأمهات، خصوصاً إذا كان الأب في تعامله مع أسرته دائم الصراخ، يزمجر كالرعد على كل شاردة و واردة، وعلى كل تصرف من الأبناء يلوح باستخدام العصا، وعلى كل ذنب اقترفه الأبناء يفرض العقوبة الجسدية والمادية القاسية… فالأب هو صاحب الهيبة القمعية الإرهابية التي تجعل الأسرة الأم والأبناء دائماً في أجواء مشحونة بالقلق والخوف. إن ضرر هذه الهيبة لا ينحصر في مصدر هلع ورعب للأطفال بل أيضاً في إسقاطه دور الأم التربوي، إذ تتحول في أغلب الأحيان إلى طفل وتتعرض للأذى عندما تدافع عن أولادها وتحميهم، أو كما يحدث على الأغلب تتحول الأم إلى التغطية والتستر على أخطاء أولادها وتصرفاتهم مما يسقط هيبتها الشخصية لدى أطفالها من ناحية، ويزيد من تردي الحال التربوية في مثل هذه الأسرة.
إن هذا النمط يغرس في أذهان الأطفال سلبيات كثيرة أهمها الخوف الدائم من المستوى الأعلى. وبالتالي، يتعود الأطفال على الكذب ويتربون على الجبن وعدم القدرة على مواجهة أخطائهم، كما يربي في سلوكهم البلادة وعدم التقدير السليم للمواقف والأحداث. ومن أولئك الأطفال يتسرب إلى المجتمع الفاشلون والهيَّابون للمشكلات الاجتماعية المختلفة الذين يبقون طيلة حياتهم تحت تأثير القمع والإرهاب الذي مورس عليهم أثناء طفولتهم. ويمكن أن يُلحظ هذا النمط في سلوك أولئك الأباء غير المثقفين والذين لا يملكون أية قاعدة تربوية نظرية.
2 – هيبة الفارق التعالي
يقتنع كثير من الآباء والأمهات وبشكل جازم بأنه لكي يكون الأطفال أكثر طاعة وسمعاً ينبغي على الأهل أن يكونوا أقل ديمقراطية في الحديث مع أطفالهم وأكثر بعداً عن مشكلاتهم وحياتهم اليومية، وفي حال الضرورة لتدخلهم يكون ذلك التدخل على شكل أوامر وتعليمات على صيغة العلاقة بين الرئيس والمرؤوسين.
ويصادف هذا النمط في الطبقة المثقفة والأرستقراطية التي يملك فيها الأب مكتباً خاصاً في المنزل يعتبر بمثابة حرم مقدس لا يجوز للأبناء الاقتراب منه ويطل هو نفسه من هناك كأنه قديس أو ملاك. يتناول ذلك الأب على الغالب طعامه بشكل منفرد بعيداً عن أطفاله ويستريح بعيداً عن أسرته وأطفاله، وتتم علاقته مع الأولاد عن طريق الأم وعلى الأغلب عن طريق الخدم والمربين.
يمكن لأمهات من هذا النمط أن يتميزن بنمط حياة خاصة لا دخل للأطفال فيها، حيث يكون للأم اهتمامها وأفكارها وعملها وأصدقاؤها ويبقى الأطفال على الأغلب في رعاية الجدة أو المربيات، وهذا النمط لا يمكن أن يكون ذا أثر تربوي في حياة الأطفال الذين ينشأون تحت تأثير العوامل التربوية الأخرى (المدرسة – النادي – العمل…).
3 – هيبة التفاخر المباهاة
وهو نوع من أنماط هيبة الفارق التعالي ويعتبر أكثر ضرراً وخطورة على العملية التربوية الأسرية. فمن المعروف أن كل فرد له دوره وواجباته تجاه الأسرة والمجتمع عموماً، لكن أفراد هذا النمط يعتبرون أنفسهم الأكثر أهمية في هذا المجتمع، ويحاولون إبراز ذلك في كل شاردة وواردة في سلوكهم أمام أطفالهم والآخرين من حولهم.
يتبجح هؤلاء في المنزل بأعمالهم وأشغالهم ومردودها على الأسرة والمجتمع. وعلى الأغلب لا يستطيعون ذلك في عملهم لأن حجم دورهم هناك معروف للجميع ولا حديث لهم إلا التباهي بإمكاناتهم ومنجزاتهم ويتعاملون مع الآخرين على أنهم في المستويات الأدنى منهم بكثير.
ويحدث أن يؤخذ الأطفال في الأسرة بنمط والدهم ويبدأون بالتباهي والمفاخرة بوالدهم مع اعتزاز بأنفسهم أمام أصدقائهم.. ولكن نتيجة هذا التباهي ستكون خيبة ومن ثم تمرداً على الهيبة الأسرية عندما يكتشف الطفل لاحقاً خلال نموه أن الصورة التي شكلها عن والديه لم تكن دقيقة تماماً.
4 – هيبة الوعظ الفوقي والمكابرة
وفي هذه الحال يعير الآباء مزيداً من الاهتمام للأبناء ويصغون كثيراً لأطفالهم، وهم بذلك يعتقدون أن على الأطفال أن يسمعوا كل كلمة من الأهل مع الانحناءة، وكأن كلمات الأهل مفاهيم مقدسة.
وغالباً ما تتسم أوامر وتعليمات الأهل بالصوت الرقيق الهادئ الواعظ، وبمجرد إعطائها ينبغي أن تتحول إلى قوانين، مثل هؤلاء الآباء يخافون كثيراً من مجرد تفكير أولادهم بأن والدهم لا يملك الإرادة الصلبة ولذلك يتخذ قراره من دون تبرير، فمثلاً يقول الأب: غداً سيهطل المطر لذلك لا يجوز المشوار للأطفال ، وحتى لو لم يهطل المطر في الغد، فإن القرار قد اتخذ ويمنع المشوار نهائياً. ويصادف أحياناً أن يكون مثل هؤلاء الآباء قد اتخذوا مواقف مسبقة من قضية ما لأسبـاب مختلفة، لكنهم يكتشفون لاحقاً أن تلك المواقف ليست في محلها ولكنهم لا يجدون حاجة أو مبرراً لتعديلها فالقرار اتخذ وهذا ما يجب أن يتم ويتحقق من أجل السمعة التربوية للأهل .
يجب على مثل أولئك الآباء ملء وقتهم بالانشغال بقضايا أسرهم وسلوك أطفالهم ومراقبة حركاتهم وتصرفاتهم، ليتحولوا بالتالي إلى صياغة الأوامر والتعليمات الجديدة والمتبدلة في كل ساعة. أما حياة الأطفال واهتماماتهم وحتى نموهم الجسدي والعقلي، فلا يحسب له الأهل حساباً حيث يبقى الأطفال أطفالاً في نظر الأهل يحتاجون دائماً للقهر والزجر والتوجيه.
5 – هيبة الإلحاح السلبي
في هذه الحال يُفعم الآباء حياة الطفولة بالنصائح الحرفية والمواعظ التعليمية المدرسية، فبدلاً من أن يوجه الأب لطفله بعض الكلمات التلميحية أو حتى في صيغة مزحة بسيطة، يُجلس الأب طفله أمامه ويبدأ معه حديثاً مقرّعاً إياه بالمزيد من الكلمات الواعظة والتسفيه وأحياناً بتوجيه بعض النصائح.
مثل هؤلاء يقتنعون بأنه بالتوبيخ والتقريع تتلخص الموهبة التربوية. وفي مثل هذه الأسر تكون السعادة قليلة، ولا يمكن أن تلحـظ الابتسامة على أفـواه أفرادها في الوقـت الـذي يحـاول فيه الآباء بكل قواهم أن يظهروا طيبة التعامل مع أطفالهم وأن يكونوا في نظرهم كباراً وواعين. ولكنهم ينسون أن الأطفال ليسوا بالغين وأن لهم حياتهم الطفولية، وأن هذه الحياة يجب أن تُحترم وأن يعيشها الأطفال كما ينبغي وليس كما يريد الآباء، فالأبناء عادة يعيشون في أجواء أكثر حساسية وانفعالية من البالغين. إنهم أقل قدرة من الكبار على النقاش والإقناع بصحة سلوكهم وتصرفاتهم، وطريقة التفكير لديهم ينبغي أن تمر بمراحل متدرجة وببطء حتى يتم استيعاب الفكرة المطروحة، ولذلك نرى على الأغلب أن إلحاح الأهل يمر من دون أن يترك أثراً في أذهان أطفالهم ووعيهم. وبالتالي، فإن غيرة الأهل الفائقة لا تلقى عند الأطفال الاستجابة المتوقعة.
6 – هيبة الحب للأهل
تعتبر الهيبة الخاصة بحب الأهل من أكثر الأنماط خداعاً وانتشاراً في التربية الأسرية، فكثير من الأهل يعتقدون أنه لكي يسمع الأبناء الآباء ويطيعوهم، فإن على الأهل أن يبرزوا على الدوام الحب الأبوي لأبنائهم الكلمات اللطيفة الناعمة – النصح الأبوي – الملاطفة… ، وإذا كان الطفل لا يسمع أو لا يطيع والديه، فإن الأهل على الأغلب يُسمعونه ما معناه أنت لا تحب بابا أو ماما . وعلى الأغلب لا يرتاح الأهل وتبدو التعابير على وجوههم بمجرد النظر إلى سلوك أطفالهم، في مثل هذه الأسر يتفاخر الأهل خصوصاً أمام أطفال الأصدقاء والجيران بالقول: إن طفلي حباب جـداً وهو يحبني ويطيعني كثيراً .
في مثل هذه الأسر تطفو المشاعر الناعمة الخادعة، حيث يتم التستر على المشاعر الحقيقية ويمر بالقرب من اهتمام الطفل كثير من الأمور التي ينبغي على الطفل أن يعمل تجاهها بخلاف قناعته ولكن إرضاءً للأهل وحباً لهم.
هنا تنمو الأنانية الأسرية الأب والأم ، ولا يتولد في الحقيقة ذلك الحب الذي يرغبه الأهل في سلوك الأبناء، ويكتشف هؤلاء الأبناء إلى أي مدى يمكن الكذب على الأهل ومخادعتهم بالألفاظ الجميلة والتعابير الملساء.
يكسب الأطفال في هذه الأسر منذ سن الطفولة الباكرة طريقة كسب وربح الآخرين. ولكنهم يتعلمون أيضاً أن يكون الحب هشاً وكاذباً ومصلحياً ونفعياً.
أحياناً يصادف أن تنمو في مثل هذه الأسر أهمية حب الأهل وتسقط بالتالي قيم حب الآخرين واحترامهم الذين يعاملون كغرباء أو أعداء، ويفقد أطفال مثل هذه الأسر الصداقة الحقيقية والروح الرفاقية ولا ينم تعاملهم مع الآخرين لا عن ذوق ولا عن أدب اجتماعيين.
7 – هيبة الطيبة البساطة
إنه نوع من السمعة والهيبة التربوية للأسرة التي لا تنبع من قناعة، ففي هذه الحال تنظم طاعة الأطفال من خلال حب الأهل لهم، والذي لا يتصف بالأمور المعتادة من تقبيل وملاطفة وتدليل… وإنما يتصف بأن الأهل ينظرون إلى طفلهم على أنه ملاك مسموح له بكل شيء، ولا شيء مأسوف عليه أمام الطفل، ومن أجل الطفل، وبالتالي يبدو الأهل في عيون الأطفال طيبين جداً وبالتالي فإنهم رائعون.
في مثل هذه الأسر يخاف الأهل ويتجنبون أي خلاف أو نقاش عائلي بشأن الأطفال وأنهم يقدسون عالم الطفل وهم جاهزون للتضحية بكل شيء في سبيل أن تكون الأمور على ما يرام وخصوصاً أمام الأطفال. وهنا الطامة الكبرى، حيث يتحول الأطفال إلى سادة آمرين موجهين لأهلهم، الأمر الذي يفسح المجال أمام أولئك الأطفال لفرض كل رغباتهم وتحقيقها.
وفي أحيان قليلة يسمح الأهل لأنفسهم ببعض المعارضة، ولكن في معظمـها تأتي في أوقات متأخرة وبعدما يكونون قد أصبحوا بالفعل على الهامش ولا حول لهم ولا قوة.
8 – هيبة الصداقة
أحياناً وحتى قبل أن يولد الأطفال، نجد بعض الأهل يعلنون ويتعاقدون فيما بينهم بأن يعاملوا أبناءهم كأصدقاء، وبشكل عام فالأمر جيد. ولكن مع ذلك يبقى الأب والأم في نظر الأبناء أولئك العجائز غير المقبولين في الصداقة. وغالباً ما تصل هذه الصداقة إلى صيغة لا ينسى فيها الأبناء أنهم مستعدون لكي يكونوا أصدقاء فعليين وليسوا متلقين بشكل دائم لنصائح الكبار، بل يعتقد الأبناء في أجواء الصداقة الحقيقية أنهم قادرون على إسداء النصائح لأهاليهم. ولكن الأهالي غالباً ما يواجهون صعوبة في تقبل أية نصيحة من أولادهم.
وتظهر مثل هذه الحالات في الأسر التي يصبح أبناؤها أعلى من أهلهم من الناحية العلمية والثقافية والاجتماعية والسلطوية. ويمكن أن يلحظ هنا إنكار الصداقة التي كانت قائمة. وعلى العموم، فإن هذا الأمر يتوقف على الاحترام المتبادل ما بين الطرفين.
9 – هيبة المقايضة الثمن
من أسوأ أنواع الهيبة التربوية للأسرة أن يكون السمع والطاعة رهناً بالهدايا أو الوعود المادية أو المعنوية. إذ لا يخجل بعض الآباء من مداعبة أطفالهم بالقول: إذا سمعت مني كذا وكذا فسأشتري لك كذا وكذا… قطعاً لا يجوز أن نعدم في الأسرة الثواب والعقاب الثناء – الحرمان ، ولكن ليس بطريقة المساومة على السمع والطاعة في الأسرة، وإنما على حسن العلاقة مع الأهل والصدق والاحترام والنجاح.
فمثلاً يمكن الثناء على التفوق الدراسي أو تنفيذ عمل ناجح، ولكن لا يجوز بأي شكل إعلان الجائزة أو الهدية سلفاً، وإنما بعد تحقيق النجاح أو التفوق، وإلا تعوّد الأطفال على السلوك المشروط بالثواب والعقاب المناسب.