أريدُ أن أسترْجِعَ العُمْرَ الذي
خَبّأتُهُ في داخِلِ المرايا …
د. سعاد الصباح
مرآتي
يا مرآتي الجميلة
التاريخ على صفحة المرآة
إن أقدم مرآة وصلت إلينا كانت من مصر الفرعونية وتعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وهي محفوظة اليوم في متحف القاهرة. والغريب أن تاريخ صنع هذه المرآة يتزامن مع ولادة أسطورة نرسيس. فهل هي صدفة أن تولد المرآة مع ولادة فردية الإنسان واهتمامه بنفسه فور خروجه من عتمة ما قبل التاريخ؟ ألا يصح القول هنا أن نظرة نرسيس إلى المياه – المرآة كانت أول فعل اكتشاف الإنسان لنفسه؟
المصريون، الإغريق، الفينيقيون، الأتروسكيون، الرومان.. استعملوا المرايا كأدوات منزلية وللزينة. لكن مرايا الماضي كانت تختلف عن تلك التي نستخدمها اليوم. فقد كانت صغيرة الحجم تصنع يدوياً على شكل أسطوانات أو أقراص محدّبة قليلاً. وكانت إحدى صفحتي القرص تصقل صقلاً شديداً كي تعكس الصورة بشكل طبيعي وواضح. كما أن ثمنها كان باهظاً؛ لأنها كانت تصنع من المعادن الثمينة كالبرونز والفضة والذهب. ولم تظهر المرايا كبيرة الحجم التي تظهر الجسم كاملاً إلا في القرن الأول بعد الميلاد. أما استخدام الزجاج المطلي بالصهارة المعدنية فلم يبدأ إلا في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي.
وظلّت المرايا معروفة على هذا النحو إلى ما بعد العصور الوسطى. ففي القرن السادس عشر طرأ تطوّر ملحوظ على صناعة المرايا، وما إن أطلَّ عصر النهضة حتى كان لمدينة نورنبرغ والبندقية صيتٌ ذائعٌ في إنتاج المرايا، وامتازت تلك المرايا المصنوعة في جزيرة مورانو Murano قرب البندقية بجودتها العالية.
وعلى الرغم من القيود التي فرضها قُضاة البندقية على العاملين في صناعة المرايا، إلا أن هؤلاء لم يتأخّروا، بفعل الإغراءات المادية، عن حمل أسرار هذه المهنة ونشرها في مدن أخرى في أوروبا مثل لندن وباريس. وكانت المرايا في ذاك الحين لا تزال باهظة الأثمان، ومن معالم الثراء والأبهة والمكانة الاجتماعية العالية. ولذا، فليس عجباً أن يكون لقصر فرساي في فرنسا ذلك الإبهار الصارخ بعدما تزينت أكبر قاعاته بعدد كبير من المرايا العملاقة المواجهة للنوافذ الكبيرة.
وعلى الرغم من أن سقف القاعة مزين برسوم رائعة لأستاذ الكلاسيكية الفرنسية لوبرون، فإن المرايا هي التي أعطت اسمها لهذه القاعة. وفي قاعة المرايا هذه أعلنت الوحدة الألمانية عام 1870م، بعد هزيمة فرنسا في حربها مع بروسيا، وفي القاعة نفسها أعلنت نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918م، كي تثأر فرنسا من هزيمتها القديمة.
وارتبط تطور استخدام المرايا بتطور صناعتها. فحتى القرن التاسع عشر كانت ألواح الزجاج تُغطى من الخلف، بصحيفة رقيقة من المعدن العاكس، وهو عبارة عن مزيج من الزئيق والقصدير. وفي العام 1835م، كان جوستس فون ليبغ أول من بدأ عملية طلاء لوح الزجاج بفضة معدنية. وبهذه الخطوة الرائدة، فتح المجال أمام التقنيات الحديثة في صنع المرايا: وضع طبقة رقيقة من الألومنيوم أو الفضة على السطح الخلفي للوح الزجاجي. على عكس المرايا التي تُستخدم في المنظارات والأدوات البصرية الأخرى، حيث السطح الأمامي للوح الزجاجي هو الذي يُطلى بالفضة أو الألومنيوم.
وقد سمحت التقنيات الحديثة قليلة التكاليف باستخدام المرايا بشكل واسع بدءاً من القرن التاسع عشر، ولم يعد استخدامها محصوراً بقطع الأثاث المنزلي كخزائن الملابس، وبوفيهات غرف الطعام، بل أصبحت تستخدم في مجالات لا حصر لها، بدءاً بغرف النوم، وصولاً إلى السيارات في الشوارع.
مرآتي … يا مرآتي الجميلة
المرآة رفيقة المرأة، في البيت وفي السيارة وفي حقيبة اليد، بل في كل مكان ترى فيه المرأة وجهها حتى ولو كان سطحاً صقيلاً.
تطول وقفتها قبالة المرآة. تنظر إلى جمالها ومحاسنها.. تسرّح شعرها.. تتأمل هندامها وزينتها، وقد قيل في بعض الأمثال: المرآة روح المرأة كما السيف روح المحارب.
وإذا ما كانت المرآة تعكس مظهر المرأة الخارجي، فهل هي تعكس أيضاً شخصيتها الداخلية؟! لنر.. وسنجد أنفسنا نُقرّ بصحّة جوانب عديدة من هذه الاعتقادات.
يُقال إن صاحبة الشخصية المبتسمة هي التي تبتسم كلّما نظرت في المرآة؛ ذلك لأنها تكون راضية عن نفسها، بشوشة، محبّة للآخرين وصديقة لِمن حَوْلها.
أما المرأة التي تُطيل النظر في المرآة وتتأمل عينيها ووجهها بعناية شديدة، فهي صاحبة شخصية تأمّلية، تحاول أن تجد أجوبة عن تساؤلاتها وحيرتها من خلال نظراتها المتمعّنة في عينيها.
وصاحبة الشخصية المُتشائمة هي التي، عندما تنظر في المرآة، ترى كل شيء إلاَّ نفسها، حتى جمالها لا تراه. إذ تظن أن المرآة لا تعكس إلاَّ ما هو قبيح.
والمرأة الحالمة هي التي تُطيل النظر في المرآة وكأنها شاشة سحرية تريد أن ترى فيها كل ما كانت تتمناه في الماضي، وكل الحاضر حولها، وما تحلم به أو تريد تحقيقه في المستقبل.
هذا، بعكس تلك التي تتجنّب النظر إلى المرآة، وتُشيح بوجهها عنها إذا تَصادف وجودها قبالتها، فهذه المرأة هي صاحبة شخصية رافضة، غير اجتماعية، لا تهتم كثيراً للمظهر الخارجي، وإنّما يهمّها الموضوع والجوهر.
ويُقال أيضاً إن صاحبة الشخصية الحزينة العاطفية، هي التي تقف بصمت أمام المرآة، وتركّز النظر إلى العينين لتُجسّد حُزنها برؤية الدموع تنهمر منهما، وقد تكون الرغبة في البكاء هي سبب وقوفها أمام المرآة.
وهناك نساء لا يستطعن منع أنفسهن من النظر إلى أية مرآة تُقابلهن، أو حتى إلى أي سطح زجاجي أو سطح عاكس. فمثل هذه المرأة تتمتع بشخصية حساسة تهتم بمتابعة أحدث خطوط الموضة، وعادة ما تكون ممن يمارسْن الرياضة فهي تحب المحافظة على رشاقتها، وتميل إلى التنسيق والديكور، وتحب الملابس والعطور.
وربما أفضل تسمية لصاحبة هذه الشخصية هي عاشقة المرآة .
يقول أحد خبراء التجميل إنه لا يمكن تحديد علاقة المرأة بالمرآة بمواصفات ثابتة. فهي علاقة متغيّرة تبعاً للمزاجات البيولوجية والحالات النفسية.
أما الإكثار من التطلع إلى المرآة فقد يوجد في نفس المرأة ما هو غير الرضا عن الذات، خاصةً إذا تمنعت بسماتها التي خصها بها الخالق، وسعت إلى مقارنتها بالصورة المتخيلة التي نسجتها لنفسها في ذهنها.
فهذا ما دفع ويدفع نساء عديدات إلى الإكثار من العمليات الجراحية التجميلية التي أفقدتهن جمالهن الطبيعي. فبتنا نرى وجوهاً مركبة متشابهة، لا تنسجم مع الحقيقة الشخصية.
والرجل أيضاً
وإن تكون المرآة رفيقة المرأة الدائمة، في غرفة النوم، وفي حقيبتها اليدوية، وفي مركز التجميل.. فهذا لا يعني أن المرأة احتكرت المرآة.
فقد أظهر استطلاع نشرته الصحف قبل أسابيع في فرنسا أن 81 في المئة من النساء و74 في المئة من الرجال ينظرون إلى المرآة مرة على الأقل في اليوم.
فمهما بلغ إهمال الرجل لهندامه ومظهره الخارجي، فهو مضطر إلى التطلع إلى المرآة عند حلاقة ذقنه كل صباح. فالمرآة وحدها تستطيع أن تدل يده الممسكة بشفرة الحلاقة.. ووحدها تخبره أنه أتم الحلاقة بشكل جيد. هذا إذا استطاع أن يستغني عنها عند تصفيف شعره.
وفي محلات الحلاقة الرجالية، لا يقل حجم المرايا ودورها عما هي عليه في مراكز التجميل النسائية. فإضافة إلى المرآة الرئيسة التي يجلس أمامها الرجل لنصف ساعة مستسلماً إلى أنامل الحلاّق، لا بد وأن يلجأ هذا الأخير إلى مرآة ثانية أصغر حجماً بعد أن يتم عمله، فيضعها خلف رأس الزبون، لتنعكس بدورها على المرآة الكبيرة أمامه، وتسمح له بالتالي برؤية شكل رأسه من الخلف.. الشيء الذي لم ولن يستطيع أي إنسان أن يراه من دون المرآة.
أنواعهــا
تختلف الصور التي تعكسها المرآة باختلاف شكل المرآة. وهناك ثلاثة أنواع رئيسة من المرايا، هي:
1 – المرايا المستوية
للمرايا المستوية أسطح مستوية وتُعد معظم المرايا المستخدمة في حياتنا اليومية من هذا النوع. ويسمّى الخط المتعامِد على المرآة المستوية في أية نقطة انعكاساً عمودياً ، ويرتطم الضوء بالمرآة بزاوية ما إلى الخط العمودي، تُسمى زاوية السقوط. وينعكس الضوء بزاوية مساوية على الجانب الآخر من الخط العمودي. وتسمى هذه زاوية الانعكاس. وهاتان الزاويتان متساويتان دائماً.
والصورة التي تتكوّن على المرآة المستوية، التي تبدو كأنها خلف المرآة، هي صورة تقديرية كما أنّها قائمة أي أن طرفها الصحيح إلى الأعلى، لكنها معكوسة من اليسار إلى اليمين. وقد تكون الصورة في حجم الجسم نفسه الذي تعكسه، وتبدو مُتعادِلة البُعد من المرآة.
2 – المرايا المحدّبة
وهي تشبه الجزء المقوّس من السطح الخارجي للجسم الكُروي. وفي حالة إنارة المرآة المحدّبة بأشعة متوازية من الضوء، فإن الضوء المنعكس يبدو وكأنّه يأتي من نقطة خلف المرآة تُسمّى البؤرة . وتقع البؤرة في منتصف المسافة بين المرآة ومركز تقوّس المرآة. وهو مركز الجسم الكروي الذي تشكّل المرآة جزءاً منه.
تكوّن المرآة المحدّبة صوراً تقديرية قائمة لكنّها مُصَغَّرة، أي أصغر من الأجسام التي تعكسها. وتوجد في كثيرٍ من السيارات مرايا رؤيةٍ خلفيةٍ محدّبة كي تزوِّد السائق بمجال رؤية أوسع مما تزوّده به المرايا المستوية.
3 – المرايا المقعّرة
وهي تُشبه الجزء المقوّس المجُوَّف من السطح الداخلي للشكل الكُرَوي. وتتواجد كلّ من البؤرة ومركز البؤرة أمام المرآة. كما أن البؤرة بؤرة حقيقية، وذلك لأن أشعة الشمس المتوازية المرتطمة بالمرآة تتلاقى في هذه النقطة عند انعكاسها. وتستخدم أفران الطاقة الشمسية المرايا المقَعَّرة لتركيز أشعة الشمس.
تكون الصورة التي تظهر على المرآة المقعّرة صورة تقديرية قائمة ومكبّرة. وتشمل المرايا المقعّرة مرايا الحلاقة ومرايا الزينة. وعادة ما ينتج نوعا المرايا المحدّبة والمرايا المقعّرة صورة مشوّهة إلى حدٍّ ما.
المرآة وديمومة الأمل
في الفن والأدب
مالي أحدق في المرآة أسألها: بأي ثوب من الأثواب ألقاه في هذه الأغنية التي أنشدتها نجاة الصغيرة من كلمات نزار قباني، تظهر المرآة فجأة أمام أعيننا بوظيفتها المزدوجة. فهي من ناحية، مجرد لوحة تعكس النور والصورة المماثلة في مواجهتها – وهذه وظيفتها الفيزيائية – ومن ناحية ثانية، هي متحدث يتوجه إليه المرء سائلاً متأملاً شاكياً، ما يعني أن لها وظيفة أخرى غير وظيفتها الأولى. ومنذ نرسيس (الذي رأى صورته منعكسة في الماء فذهل بجماله من دون أن يعرف أن الصورة صورته ومات دون أن يتمكن من العثور على ذلك الكائن الجميل الذي هو بنفسه)، وحتى وصولاً إلى الشعراء والفنانين الذين شكلت المرآة واحداً من مصادر إلهامهم، تجاوزت المرآة كثيراً وفي العمق، وظيفتها الأولى، لتدخل في الوظيفة الثانية.
والحقيقة أن المبدعين، جعلوا من المرآة دائماً، العنصر المكمل للساعة (الزمن) وللنافذة (الانفتاح على الخارج.. الآخر)، باعتبارها إطلالة على الداخل؛ لأن المرآة هي في المقام الأول، الحيز الذي يرى فيه المرء نفسه، واقعياً ورمزياً في آنٍ معاً. ومن هنا، فإن نجاة الصغيرة حين تتوجه بالحديث إلى مرآتها. فإنها إنما تتوجه به إلى ذاتها إلى داخلها. ولطالما فرّغ البائسون والفرحون، القلقون والمنتظرون، شؤونهم وشجونهم في ذلك المسطح الذي قد يكون من النادر مشاهدة فيلم من الأفلام إلا وله فيه حضور.
تسلية وإثارة للفضول
ومع هذا، ربما تكون المرآة الأشهر في تاريخ الأدب، هي تلك اللوحة التي لا علاقة لها بالمرآة الواقعية، والتي رُسم عليها دوريان غراب – في رواية أوسكار وايلد – وفيما بقي دوريان شاباً، راحت صورته في اللوحة تشيخ. والحال أن أحداً غير النرجسي وايلد ما كان في مقدوره أن يكتب مثل هذه الرواية.
وكذلك كان صعباً على أي سينمائي آخر، غير أورسون ويلز، أن يترك لنا ذلك المشهد الرائع والغامض في فيلمه سيدة من شانغهاي ، حيث تعكس عشرات المرايا صورته وامرأته، ريتا هايوارث، بطلة فيلمه وشريكة حياته في ذلك الحين (أواسط أربعينيات القرن العشرين). وهذه الصورة، حتى خارج سياق الفيلم، تبدو الأشهر في تاريخ السينما.
إذاً، المرآة التي ولدت في أسطورة نرسيس التي يرويها لنا أوفيد في مسخ الكائنات ، امتزجت على مر الزمن بالغموض، ولكن أيضاً بالتفات المرء إلى داخل ذاته. هذه الذات التي كثيراً ما عبر الفنانون والكتاب عن الرغبة في التسلل إليها، عبر العبور إلى الجانب الآخر من المرآة ( أليس في بلاد العجائب للويس كارول). ولقد عزز من تعامل المبدعين هذا مع المرآة، فكرة أنها، بمقدار ما نحدق نحن فيها، تحدق هي فينا، في لعبة تبادلية تبدو أحياناً مسلية، وأحياناً مثيرة للفضول، ولكن – في أحيان كثيرة – مثيرة للرعب أيضاً، ما يجعل خوف الإنسان من ذاته، الخوف الأكبر الذي اعتراه ويعتريه على مر الأزمان.
على صفحة المرآة
ومنذ القدم شقت المرآة طريقها، من الأسطورة إلى السينما والشعر الحديث، وصولاً، مثلاً، إلى الشاعرة الإنجليزية سيلفيا بلايت (1932 – 1963م) التي وصفت في قصيدتها الأشهر مرآة ، ما روته المرآة نفسها حول سيدة عجوز تأتي لتحدق فيها كل صباح، تاركة عندها الفتاة الشابة الحسناء التي كانتها ذات يوم.. حتى اللحظة التي تتحول فيها هذه المرآة الراوية إلى بحيرة تنحني عليها العجوز باحثة عما هي عليه حقاً على صفحتي اللامعة .
أما المهتم الأكبر بالمرآة، فكان فرويد، عالم التحليل النفسي، الذي وصف الأحلام كلها بأنها ليست شيئاً آخر سوى مرآة الشعور، أي الصفحة التي تنعكس عليها مخاوفنا وآمالنا وضروب قلقنا، حين نخلد إلى النوم، وبدلاً من أن نحدق في المرآة متسائلين عن ذواتـنا، شكلاً ومضموناً، نحدق في تلك المرآة الداخلية طارحين عليها آلاف المشاعر والإحباطات والتمنيات.
المرآة في الفن
ظهرت المرآة في فن الرسم مع ظهور اللوحات الأولى ذوات المواضيع الدنيوية غير الدينية في القرن الخامس عشر الميلادي. ففي ذلك العصر رسم الفنان الفلامنكي جان فان إيك صورة أرنولفيني وزوجته ، وهي اللوحة الأولى في تاريخ الفن التي تظهر أناساً لا ينتمون إلى الأرستقراطية. وفي هذه اللوحة نرى رجلاً واقفاً قرب زوجته، وخلفهما على الحائط مرآة مستديرة. وبالتمعن في المرآة نرى الرسام نفسه وإلى جانبه رجل دين يعقد قران الرجل والمرأة. وبالتالي أصبح سر اللوحة كله في المرآة التي تقول لنا أننا أمام صورة عقد زواج.
وحافظت المرآة لأكثر من قرن على هذا الدور الذي يسمح للفنان بأن يضيف إلى لوحته المزيد من الأخبار من دون أن يثقل تركيبها العام. ففي القرن السادس عشر رسم الفلامنكي أيضاً كانتان ماتسيس المرابي وزوجته ، حيث نرى رجلاً يمسك بميزان صغير. وأمامه على الطاولة كمية من الذهب، ومرآة مستديرة. وتعكس المرآة وجه رجل يقف خلف الرسام، يبدو عليه الهم والحزن، وأيضاً نافذة مفتوحة على الخارج.
ومن مدرسة فونتنبلو الفرنسية التي ازدهرت في القرن السادس عشر، وصلت لوحة تمثل الأميرة غابريل ديستريه الحامل، وفي المرآة خلفها انعكست صورة الوصيفة أو المربية تحيك ثوباً من الصوف للطفل المنتظر.
واستمر حضور المرآة في لوحات يستحيل لتعدادها أن ينتهي حتى القرن التاسع عشر، وأحياناً كموضوع رئيس في اللوحة كما هو حال السيدة والمرآة للرسام ويستلر، حيث نرى التعبير على وجه المرأة في المرآة يكمل التعبير البادي على وجهها في الجزء الظاهر مباشرة منه.
غير أن الدور الأهم الذي لعبته المرآة في تاريخ الفن، كان في أن إليها يعود الفضل في معرفتنا لما كانت عليه شخصيات الفنانين ونفسياتهم أيضاً. فمئات الفنانين رسموا أنفسهم في صور ذاتية . ووسيلتهم إلى ذلك كانت في التطلع إلى المرآة. بعضهم اكتفى بالتطلع إلى مرآة واحدة. وبعضهم أدرك أن الدقة في نقل تقاسيم الوجه تقتضي باستخدام مرآتين. الأولى لتعكس الوجه، والثانية مقابل المرآة الأولى لتعيد إلى اليمين ما هو إلى اليمين، وإلى اليسار ما هو إلى اليسار، كما هو الحال في الصورة الذاتية التي رسمها لنفسه الفرنسي نيكولا بوسان.
ومن الفنانين من أعاد رسم صورته الذاتية مرات ومرات كما هو حال الهولندي وامبراندت، لتسجيل ما هو أعمق من الملامح الشخصية الظاهرية، وصولاً إلى حالته النفسية التي كانت تعرف تقلبات عنيفة بسبب سلسلة من المآسي ألمت به، فبقيت مجموعة اللوحات هذه شاهداً على هذه التقلبات وتوثيقاً أميناً لها.
وفي مثل هذه الحالات، يجد المتفرج نفسه أمام لغة مزدوجة الدلالة، حيث يقف هو متفرجاً على شخصيته مرسومة تتفرج بدورها على ذاتها. والحقيقة أن هذا يقودنا هنا إلى الحديث عن نمط شديد الدفع في اتجاه الإغراق في الذاتية، من أنماط الفن الحديث، اشتهر به الفنان الفرنسي مونوري، الذي جعل جزءاً من لوحته قطعة مرآة حقيقية، حين يقف المتفرج إزاءها، تنعكس صورته على اللوحة فيصبح جزءاً منها. ومثل هذا يحدث أيضاً في بعض الفنون الاستعراضية، حيث يلجأ المخرج إلى جعل الديكور الخلفي للاستعراض كله مرآة كبيرة، يشاهد فيها الحضور من المتفرجين أنفسهم معكوسين فيها، ما يجعلهم يبدون جزءاً من المشهد الاحتفالي حتى ولو اقتصر دورهم على أن يكونوا مجرد زينة أو ديكور.
مرايا لكل شيء
ومهما يكن، فإن هذا كله – أي حضور المرآة في الفن والأدب – يقودنا إلى قطع تلك الخطوة التي نجد أننا من بعدها أمام الدور الأساس الذي تلعبه الفنون والآداب في حياة المتلقين ووجدانهم، كما هي الحال في تعاطي فرويد مع الأحلام: إذ، هنا أيضاً يمكننا أن نفهم من الأعمال الفنية أنها، بدورها، مرآة لحياة البشر. إذ وكما أن جزءاً أساساً من الاستمتاع بالفنون، ينبع من رغبة الإنسان، اللاشعورية أحياناً، في أن يتلصص على حياة الآخرين، كذلك فإن جزءاً أساساً آخر من ذلك الاستمتاع ينبع من رغبة هذا الإنسان، اللاشعورية كذلك، في سبر أغوار داخله. فتماماً كما أن الإنسان ما كان في وسعه أن يدرك صورته الحقيقية لو لم يخترع المرآة – أو يكتشفها إذا أردتم -، كذلك كان من الصعب جداً على هذا الإنسان أن يدرك ماهيته وداخله وحقيقة عواطفه وردود فعله لولا تلك المرآة الذاتية التي شكلها الأدب والفن.
من هنا، لم يكن غريباً أن يستعمل كثر من الأدباء والمفكرين رمزية المرآة واسمها في أعمالهم، عنونةً وتلخيصاً، بدءاً من تلك الموسوعة الضخمة المتعلقة بكل المعارف والتي وضعها الفرنسي فنسان دي يونيه في القرن الثالث عشر الميلادي بعنوان المرآة الكبيرة واعتبرت دائماً أهم وثيقة وضعت عن أفكار وثقافات القرون الوسطى..
وهناك إلى جانب هذا العمل الكبير أعمال عديدة تحمل في عنوانها كلمة مرآة . وقد يكون مفيداً أن نذكر في هذا المجال أن الموسيقي الفرنسي موريس رافيل (1875 – 1938م) وضع كلمة مرايا عنواناً لخمس مقطوعات للبيانو ألفها في العام 1905م. وهو فسر العنوان بقوله أنه إنما أراد منه أن يشرد على الطابع الرمزي لعمله هذا، حيث يقدم العالم بوصفه تمثيلاً لحياة الفنان، الداخلية، والمشهد، ككل كانعكاس لأسلوبه في الوجود، وأخيراً الشيء المموش بوصفه صورة منعكسة على مرآة حساسية الفنان الذاتية. والعنوان نفسه اختاره الفنان السوري ياسر العظمة لسلسلة حلقات تلفزيونية ساخرة عرفت شهرة عربية واسعة.
مرآة الفن ومرآة الحقيقة
فما الذي يمكننا أن نستخلصه من هذا كله؟
ببساطة أن نرسيس حقق، في النهاية وعلى مدى آلاف السنين انتصاره، حتى وإن كان المسكين قد مات حزناً لأنه لم يعثر أبداً على صاحب الوجه الجميل الذي شاهده منعكساً ذات يوم حين انحنى فوق صفحة بركة ماء ليشرب، فأتاه الوجه من داخل الماء ليشغله بقية حياته. فهل معنى انتصار نرسيس، أننا نحن بدورنا انتصرنا، وعثرنا على ذاتنا وفرديتنا، في ذلك المكان (الوحيد؟!) الذي يمكن فيه أن تظهر صورة الذات؟
ليس الأمر مؤكداً، طالما أن الأدب (والفن)، إذا كان قد احتفل دائماً بالإنسان مكتشفاً صورته عبر المرآة، فإنه لم يفته أبداً أن يصور كم كان ذلك الاكتشاف مرعباً. من ناحية لأن الرغبة في العبور إلى الجانب الآخر من المرآة لم تحقق إلا كغاية وفي الخيال، وثانياً لأن الإنسان بقدر ما راح يحدّق في المرآة يوماً بعد يوم ويطرح عليها أسئلته وضروب قلقه وخوفه، بقدر ما كان يحصل منها على إجابات تزيد من حدة القلق والخوف.
وحتى دوريان غراي، لم ينته به الأمر إلا وقد خسر رهان مرآته (لوحته).. فإذا كانت هذه قد شاخت بدلاً منه، ليبقى هو شاباً، اندفعت ذات يوم لاستعادة شبابها، مرجعة إليه السنين التي كان هرب منها، مغرقة إياه في شيخوخة لم تنته إلا بالموت.
وإذا كانت سيلفيا بلايت قد حدثتنا في قصيدتها عن الصورة الشابة التي تبقى، من مرور العجوز، منطبعة عليها، فإن الحقيقة تبدو أشد قسوة: الحقيقة هي أن المرآة لم تتمكن أبداً من الاحتفاظ بأية صورة.. إلا في الفن.. أي في الخيال، الملجأ الوحيد من الفناء، من الموت ومما ينتظرنا بعدهما.
ومن هنا كانت مرآة الفن دائماً، أكثر حرية وجمالاً من مرآة الحقيقة.
المرآة في الشعر العربي
يروي جلال الدين الرومي في كتابه المتنوي أن أحد ملوك الصين القدماء أراد أن يقيم مباراة في النقش والتصوير بين مهندسي فارس واليونان وفنانيهما. وقد دعا لأجل ذلك نخبة المبدعين من البلدين وبنى قاعة طويلة وواسعة ثم جعل كلاً من الطرفين في جانب وأمرهم أن يشرعا في العمل فاصلاً بينهما بستائر سميكة بحيث لا يرى أحدهما ما يفعل الآخر. وفي حين استنفر مهندسو اليونان كل مواهبهم لصنع أروع الزخارف والنقوش اكتفى مهندسو فارس بصناعة مرايا عظية ثبتوها على جدران المنطقة المخصصة لهم وعمدوا إلى تلميعها وصقلها لتصبح في منتهى الصفاء والشفافية. حتى إذا أمر الملك بأن ترفع الستائر بين الفريقين بدت نقوش اليونان في مرايا فارس أكثر روعة وجمالاً مما هي عليه في الأصل، وحكم الملك لفارس على اليونان في نهاية المباراة.
قد تكون هذه الحكاية التي رواها جلال الدين الرومي هي المدخل الحقيقي للتطلع إلى المرآة لا من حيث كونها تعكس الموجودات الظاهرة فحسب، بل من حيث قدرتها على الإضافة والإدهاش والتفاعل مع الظواهر التي تعكسها. فقد ألهبت المرايا مخيلات الفلاسفة والفنانين والشعراء فرآها بعضهم رمزاً للنفس البشرية التي يمكن لها أن تخشن وتصدأ وتعجز بالتالي عن رؤية جمالات العالم ووجوهه الخيِّرة والنبيلة. ويمكن لها بالمقابل أن تشف إلى الحد الذي يجعلها قادرة على استكناه روح الأشياء وسبر أغوارها العميقة، كما هو الحال مع الشعراء والمبدعين. وكما عند جلال الدين كذلك عند فريد الدين العطار، تتخذ المرآة بعداً صوفياً إشرافياً حين تكتشف جماعة الطيور الباحثة عن الطائر الذي يقودها إلى الحقيقة أن السيمرغ ليس سوى انعكاس صورتها في مرآة الحق وأنهم جميعاً تجليات لجوهر واحد.
في الشعر القديم
لم تغب صور المرآة بالمقابل عن الشعر العربي قديمه وحديثه. ولكن هذه الصور تتفاوت كثيراً تبعاً لرؤية الشاعر وعمق تجربته وللزاوية التي ينظر من خلالها. ففي حين يكتفي امرؤ القيس بالبعد الحسي الظاهري للمرآة حين يشبه صدر حبيبته بالسجنجل، أي المرآة، يقيم ابن الرومي العباسي تناظراً أكثر عمقاً وشمولية بين المرآة وبين نفسه التي تعرف بدورها كيف تميز بين الوجوه وكيف تعامل كل شخص بما يستحق. أما أبو عبادة البحتري فقد رأى في المرآة حقيقة المصير المأساوي للإنسان الذي يؤول سريعاً إلى الشيخوخة والزوال. وتمنى لو أنه لم يصقل مرآته بما يكفي لكي يحول الصدأ بينه وبين اكتشاف الحقيقة.
ويقدم ابن المعتز بالمقابل صورتين متغايرتين عن المرآة إحداهما تعكس براعته الوصفية حين يشبه بركة المتوكل بمرآة الجارية المصقولة ويشبه الخليج بمقبض لها، والأخرى تشبّه الذكريات بالمرآة المتحوّلة التي تستعيد لحظات الحياة المفقودة.
ثمة شعراء آخرون ربطو بين المرآة والنرجسية المرضية كما فعل شاعر مغمور اسمه حمد ياسين حيث النرجسي يرى العالم بأسره مرايا لشخصه. وكذلك الأمر مع ابن تميم الأسمروي الذي يتحدث عن شخص ما طلب معشوقاً جميلاً لم يجده فآثر أن يعشق نفسه ويحيطها بالمرايا من كل جانب. وفي العصور المتأخرة يتماهى منجك الدمشقي مع وجه حبيبته الذي يتحول إلى مرآة خالصة يتزاوج فيها وجها العاشق والمعشوق. وإذ يرى أحمد البربير، على طريقة أبي العلاء، أن النفس البشرية هي المرآة الحقيقية التي تكشف أسرار السماوات والأرض يرى خليل مطران في الغروب وزوال النهار مرآة لغروبه الشخصي.
.. وفي المعاصر
احتفظت المرآة بمكانتها في الشعر العربي الحديث متخذة مع أدونيس دلالات وأبعاداً رمزية بالغة الكثافة والتنوع، سواء في ديوانه المسرح والمرايا أو في دواوينه الأخرى. والمرآة عند أدونيس ليست مجرد ناقل ببغائي للعالم بل هي طريقة في النظر إلى الأشياء والوقائع. لذلك فهو قد اتخذ من المرآة ذريعة لتفسير الظواهر وإعادة تسميتها كما في نصيه مرآة للقرن العشرين و مرآة السياف .
أما صلاح عبد الصبور فيرى وجهه في المرآة مجدوع الأنف ويعبر بسخرية طافحة بالمرارة عن مأزق الإنسان المعاصر بين سندان السلطة ومطرقة الاستلاب. والأمر نفسه يعبر عنه الشاعر اليمني عبدالله البردوني حيث المرايا لا تعكس سوى غربة الإنسان وانفصامه. وإذ ينشطر علي جعفر العلاق بين عطر الروح وضوء الجسد يرى بين المرأة والمرآة ما يتجاوز الجناس البديعي وينسحب على وجوه أكثر حيرة والتباساً. أما الفلسطيني محمد القيسي والعراقي هاشم شفيق فيريان في المرآة صورة المنافي التي تجمعهما معاً وتجعلهما نهباً للبرد والوساوس والغربة القاسية.
المرآة في الشعر القديم
• المرأة والمرآة:
مهفهفة بيضاء غير مفاضةٍ
ترائبها مصقولة كالسجنجل
امرؤ القيس
• المرآة المجلوَّة:
جلوت مرآتي فياليتني
تركتُها لم أَجْلُ عنها الصدا
كي لا أرى فيها البياض الذي
في الرأس، في العارضِ مني بدا
شبتُ فما أنفكُّ من حسرةٍ
والشيب في الرأس سول الروى
البحتري
• البركة المرآة:
كأنَّ البركةَ الغنَّاء لما
غدت بالماء مفعمةً تموجُ
وقد لاح الدجى، مرآةُ فَيْنٍ
قد انصقلت ومقبضها الخليج
ابن المعتز
• مرآة الشاعر:
أنا كالمرآةِ ألقى
كلَّ. وجهٍ بمثالهْ
ابن الرومي
• مرآة المغرور:
كأنما العالم مرآتُهُ
فما يرى فيها سوى شخصهِ
ابن حمديس
• مرآة عاشق نفسه:
وأهيف ظلَّ بالمرآةِ مغرىً
يواظب رؤية الوجه المليحِ
يقول: طبتُ معشوقاً جميلاً
فلما لم أجده عشقتُ روحيَ
ابن تميم الأسمردي
• مرآة الوجه:
لما صفتْ مرآةُ وجهِكِ أيقنتْ
عينايَ أني عدتُ فيكِ خيالا
وظننتُ أهدابي بوجهكِ عارضاً
وحسبتُ إنساني بخدِّك خالا
منجك الدمشقي
وفي الشعر الحديث
• مرآة النفسي:
تأمَّلْ نجدْ فيك الوجود بأسرِه
ونبِّه عيون القلبِ من سَنَةِ الغمضِ
فنفسكَ مرآةٌ إذا ما جَلَوْتَها
رأيت بها ما في السماوات والأرضِ
أحمد البربير
• مرآة الزوال:
وكأنني آنست يومي زائلا
فرأيت في المرآة كيف مسائي
خليل مطران
• مرآة للقرن العشرين:
تابوتٌ يلبس وجه الطفل
كتابٌ يُكتب في أحشاء غرابْ
وحشٌ يتقدَّم، يحمل زهره
صخره
تتنفس في رئتيْ مجنونْ
هوذا القرن العشرونْ
أدونيس
• مرآة الوجه:
قلتم لي: لا تدس أنفك في ما يعني جاركْ
لكني أسألكمْ أن تعطوني أنفي
وجهي في مرآتي مجدوعُ الأنفْ
صلاح عبد الصبور
• مرآة الهوية المنفصمة:
من أنا؟ أسأل شخصاً داخلي
هل أنا أنت؟ ومن أنت؟ وما اسمي؟
داخلي يسقط في خارجهِ
غربتي أكبر من صوتي وهجمي
مَنْ هنا، أسأله، من ذا هنا؟
غير ثوبٍ فيه ما أدعوه جسمي
عبد الله البردوني
• مرآة المنفى:
ماذا تفعل في كتَّان الطرقات هنا؟
أطويه وأطويه
ولا شيء سوى أني أكبر في السن
أنزل سهواً مرآة المقهى
ويعنُّ على روحي ما بات يَعِنْ
ماذا تفعل في مرآة المقهى؟
أتأمل ألوان الطيف قليلاً
فإذا الأشياء تئن ..
محمد القيسي
المرآة في ظلام المسارح
تعتبر المرايا عدوة المسرح إذا نظرنا إليها من وجهة نظر مصممي الديكور المسرحي، وذلك لأن عمل المرآة يتطلب أولاً إنارة الهدف، وهذا يعني في عالم المسرح إنارة الجمهور، وثانياً لأن المرآة تعكس الضوء، واستعمالها في الديكور سيؤدي إلى انعكاس الضوء على المشاهدين مما يشوش عليهم متابعة المشهد المسرحي.
ومع ذلك، فإن المرآة حاضرة أينما كان في ظلام المسارح، بدءاً من نشوء فن المسرح وصولاً إلى الإبداع الحديث في فن العرض المسرحي مروراً بكونها رفيقة لا يستغني عنها الممثل في الكواليس.
في تاريخ المسرح
فصندوق الفرجة أو صندوق الدنيا الذي كان يتابع من خلاله المشاهد صوراً جميلة متتابعة وهو يستمع إلى حكواتي يعلق عليها، كان يعتمد على تقنية مجهولة المبتكر، وهي تقنية الضوء والمرآة العاكسة التي راجت عالمياً لردح طويل من الزمن قبل أن تنكسف لصالح أجهزة فن العرض السينمائي.
وحتى تاريخ اختراع المصابيح الكهربائية، كانت العروض المسرحية تقدم في الهواء الطلق وخلال النهار. ولكن اختراع المصابيح المركزة للضوء في اتجاه واحد (Projector) بواسطة المرايا، يمكِّن العروض المسرحية من الانتقال إلى الصالات المقفلة. وصار هناك البروجكتور المنفلش الضوء أو ذو الضوء المحصور، أو متعدد الدرجات، وكل ذلك بحسب درجة تقعر أو تكور المرآة داخله، التي تعكس ضوء المصباح وتحدد تركزه حسب كل حاجة على حدة.
في كواليسه
والمرآة هي رفيقة الممثل، وآخر ما ينظر إليه في الكواليس قبل الخروج إلى الخشبة. والمرايا في كواليس المسرح محاطة بإنارة توازي في قوتها وسطوعها إنارة خشبة المسرح، يستطيع الممثل أن يرى نفسه فيها بعد إتمام عملية التخضيب (الماكياج) وارتدائه اللباس الخاص بدوره. وبناءً على ذلك تضع المسارح بين أيدي مستخدميها كتيباً يحتوي على معلومات عن مواصفاتها وما تستطيع أن تقدمه لهم لا تغفل فيه ذكر المرايا وعددها في الكواليس. فعلى سبيل المثال، يورد المسرح الملكي في إنجلترا مواصفات غرف الممثلين، وفيها أن غرفة المجموعة أو الكورس (11 شخصاً) تحتوي على 15 مرآة. وكل غرفة من غرف الممثلين تحتوي على ثلاث مرايا، أي ما يسمح للممثل برؤية نفسه من مختلف الزوايا.
المرايا والإخراج المسرحي
نادراً ما لجأ مصممو السينوغرافيا المسرحية لاستخدام المرايا في ديكوراتهم، وذلك عائد لما ذكرناه. لكن وفي بعض الحالات يطلب المخرجون، ولإظهار فكرة ما، أن تستخدم المرايا في مشهد ما، وبالتالي على مصمم الديكور إيجاد الحلول المناسبة، كما في مسرحية ألسنة تتكلم التي قدمت في أحد مسارح نيويورك (2001م) واستمدت قوتها، بحسب الناقد أندرو بوفيل من كون مصمم السينوغرافيا ريتشارد هوفر قد اختار المرايا لعكس صورة الجمهور طوال مدّة العرض، وكأنه يقول هذا أنتم . كما استخدمها المخرج اللبناني يعقوب الشدراوي في مسرحية جبران والقاعدة (1983م) لإظهار مناخين في وقت واحد. فداخل غرفة جدرانها من ورق المرايا العاكسة، مضاءة فقط من الداخل، تدور أحداث تمثل الحقيقة الداخلية للشخصيات، بينما حين ينار خارجها، تنعكس صورة الجمهور على الجدران ويبدأ الدجل الاجتماعي.
المرايا ومسرح لاترنا ماجيكا التشيكي
وتعتمد عروض مسرح لاترنا ماجيكا ، التشيكي على استخدام وسائل تقنية متعددة لإخراج العرض المسرحي. وترتكز الرؤية المشهدية على استخدام الأنوار وآلات العرض السينمائية والمرايا العاكسة التي ترتب بشكل يجعل المشاهد وكأنه في عالم خيالي يختلط فيه أمامه، الممثلون بالأطياف التي تبثها آلات العرض أو المرايا العاكسة، فبالكاد يستطيع التمييز بين ما هو حقيقي وبين ما هو طيف خيال.
برز شكل العرض هذا سنة 1959م، خلال المعرض العالمي لفن العرض في مدينة بروكسل ، البلجيكية، وذلك في الجناح التشيكي تحت اسم لاترنا ماجيكا أي الفانوس السحري. كان العرض من تصميم جوزف سفوبودا وإخراج ألفرد رادوك ، اللذين عادا إلى براغ بعد نجاح العرض ليؤسسا مسرح لاترنا ماجيكا في العاصمة التشيكية. ولا يزال هذا المسرح يعمل حتى الآن بالتقنيات المبهرة ذاتها، ولا يزال بعضها سرّاً خاصّاً بتقنيي هذا المسرح.
المرآة في المنزل
المرآة في المنزل
هي أساس من أسس الديكور المنزلي، تدعم الإحساس بالأناقة والإشراق، وطالما تطلّب اختيار المكان الملائم لها عناية ودِراية. وخير ما يدل على ذلك الفلسفة الصينية المعروفة بـ فينج شوي ، التي ترى أن استخدام المرآة في المنزل يطرد الطاقة السلبية من المكان!
يمكن اختيار حائط يواجه أحد المشاهد الطبيعية الجميلة، لوضع المرايا بحيث تعكس هذا المنظر ويصبح أحد القِيم الجمالية في البيت، وربما استخدمت في المطبخ أو في غرفة الطعام لتعكس صورة مماثلة للأطباق وأصناف الطعام الشهية.
قد تستخدم المرآة في تحويل حجرة غير متوازنة في مقاييسها ونِسَب مساحتها إلى حجرة متناسقة تماماً، وتَخلق وَهماً باتساع المكان مما يمنع الشعور بالضيق لدى الأشخاص الذين يعانون اكتئاباً من الأماكن الضيقة. كما أن وَضعها في مدخل المنزل يُضفي اتساعاً عليه وانشراحاً، ومن الناس من يحبّذ وضع مرآة على سطح طاولة في وسط القاعة بحيث تعكس أشعة الشمس القادمة من النافذة، فتوفّر مصدراً للإنارة غير المباشرة.
ويستحسن، عند وجود نافذتين متجاورتين على الحائط نفسه، وضع مرآة طويلة في المساحة التي تتوسطه فتصبح هي بؤرة جذب الانتباه عن شكل النافذتين المتجاورتين غير المستحبّ. كما أن استخدام المرايا يبث حيوية في الجدران الصامتة، فتبدو أكثر حيوية وأناقة.
إطار المرآة
جمال الإطار من جمال المرآة، وأحياناً كثيرة تكون روعتهُ آسرة للعين فنقول: ما أجمل تلك المرآة ، ولا يكون فيها جمال سوى إطارها.
بدأت فكرة تأطير المرآة في القرن السابع عشر، وسرعان ما اكتشفت أهمية الإطارات في إضفاء مسحة تجميلية في تزيين الغرف. فأصبحنا نجد المرايا ذات الإطارات العاجية أو الفضية، أو الخشبية من الأبنوس، وأحياناً كانت تطعم بالأصداف أو المعادن.. وإلى جانب ذلك، راجت الإطارات المطرّزة أو المزيّنة بالخرز الملوّن.
ومع ازدياد الوعي لأهمية جمال الإطار، بدأ الحرفيون يعتنون عناية فائقة في حفر إطارات المرايا ونقشها وزُخرفتها كي تأتي منسجمة مع طراز الأثاث المنزلي، حتى أصبح من أولويات التزيين المنزلي وجود مرآة جدارية معلّقة. وكانت إطاراتها تُصنع من الزجاج المحفور. ثمّ لجأ بعض كبار مهندسي البناء إلى تصميم وحدات للتدفئة تمتّد من الموقد حتى السقف معتمدين، لإبراز مهارتهم الفنيّة، على استخدام المرايا ذات الإطارات الباهرة.. لذلك أصبحت المرايا من العناصر التي تعكِسُ الذوق العام السائد في أي عصر من العصور، ولم يكن هناك أي عائق يقف في وجه تغيير أسلوب زخرفة الإطارات ونقشها تماشياً مع الطراز السائد، خاصة أنَّ استبدال أُطر المرايا بأطر أخرى كان أكثر سهولة وأقل تكلفة من تغيير المرآة نفسها.
وفي القرن الثامن عشر شاع الرسم والنقش على المرايا. وظهرت الأطر المزينة بنقوش خاصة بالأزهار، أو بزخارف كلاسيكية. وبدأ، في فرنسا، إنتاج المرايا المستديرة الشكل التي كانت غالباً ما تُحاط بأُطُر خشبية مذهّبة سرعان ما لاقت رواجاً وانتشاراً واسعاً.
العلم والعلماء والمرآة
مع النهضة العلمية والصناعية التي انطلقت بقوة بدءاً من القرن الثامن عشر، لم تعد المرايا تستعمل للتبرج والديكور المنزلي فقط، بل دخلت في صميم التطور العلمي والابتكارات التقنية.
فالتلسكوبات التي ترصد حركة الكواكب والنجوم مجهزة بمرايا كبيرة تعكس المرئيات البعيدة وفق الزوايا المتساوية. وتزداد قدرات التلسكوبات على الرصد كلما كبرت مراياها.
وتستخدم المرايا أيضاً لتقوية الضوء المنبعث من المصابيح الكهربائية في السيارات كما في المنارات البحرية. وهي من الأدوات الأساسية التي لا غنى عنها في الآليات المتنقلة، لتوضيح الرؤيا الجانبية والخلفية. وفي الأفران الشمسية تستخدم المرايا لتجميع أشعة الشمس وانتاج الطاقة.
وفي عيادة طبيب الأسنان، تسمح المرآة الصغيرة التي لا يزيد حجمها على قطعة نقدية معدنية، برؤية الأسنان العلوية التي لا يستطيع الطبيب رؤيتها بسهولة، فتؤدي الوظيفة نفسها التي تؤديها المرآة أو المرايا في المخازن الكبرى والأماكن العامة التي تسمح للمشرفين عليها برؤية ما يجري في الزوايا المختلفة من تلك الأماكن.
قصص المرايا في الصين
قصص المرايا.. في الصين
إضافة إلى أنَّ الصينيين يعتبرونها رمزاً للنور، فإن للمرآة في تاريخ الصين قصصاً وحوادث شيقة كثيرة.
حَكَمَ البلاد بالمرآة!
فقد كان الوزير وي تشنغ ، المعروف بشخصيته النزيهة وثقافته الواسعة، يُسدي النصائح القيّمة إلى الأمبراطور لي شين مين . ولما توفى وي تشنغ ، أصاب الأمبراطور غم كبير. فموت الوزير كان خسارة كبيرة للدولة. وللتعبير عن حزنه لفقدان وزيره، قال الأمبراطور لأعوانه: أمام المرآة أستطيع أن أرتّب وأهندس لباسي، ووفاة وي تشنغ وفاة لمرآتي الغالية .
والمقصود أنّ وي تشنغ كان بمثابة المرآة التي يرى فيها الأمبراطور أخطاءه فيصوّبها، وعيوبه فيُعدِّلها.
المرآة عادت مجبورةً
وفي القرن السادس الميلادي تعرّضت مملكة تشن لفوضى كبيرة إثر احتلال جيش أسرة سوي المملكة، وفرَّ السكان مذعورين، وكان في القصر زوجان عاشقان، الأميرة الجميلة لهتشانغ وزوجها شيوي ده يان . فاضطرا إلى الانفصال، لكنهما شَقّا المرآة البرونزية، وأخذ كلّ منهما نصف المرآة، واتفقا على أن يبيع كلّ منهما نصف مرآته في السوق يوم عيد الفوانيس أملاً في اللقاء. وأُسرت الأميرة وأرسلت إلى القائد الأعلى وأصبحت زوجة ثانية له.
وفي عيد الفوانيس السنة التالية، وصل شيوي ده يان إلى السوق ومعه نصف المرآة، ولكنّه لم يلقَ الأميرة، فأصابه الكدر والهم. غير أنّه لمح نصف المرآة في يد خادم في السوق. وأخبر الخادم شيوي ده يان ما حلَّ بالأميرة، فاغرورقت عيناه بالدموع، وكتب أبياتاً من الشعر على نصف مرآة الأميرة وأرسلها لها مع الخادم. وهكذا علمت الأميرة أن زوجها ما زال على قيد الحياة. ولما عرف القائد بقصتهما تأثّر بمشاعر الحب العميق بين هذين الزوجين وأرسل الأميرة إلى بيت شيوي ده بان . وهذه الحكاية هي أصل القول الصيني: المرآة عادت مجبورة .
تعليق مرآة صافية عالياً
وقديماً كان الصينيون يعلّقون في قاعات الحكم في ولايات الدولة لافتة مكتوب عليها: مرآةٌ صافيةٌ معلقةٌ عالياً . وذلك رغبة في حثّ الموظف العام على أن يكون نزيهاً نظيف اليد واللسان. ويحكى أنَّ الأمبراطور تشين علَّقَ فعلاً مرآةً كان، حسب اعتقاده، يرى فيها قلوب الناس فيميّز الخيّر من الشرير. وكان الموظفون الحكوميون يعتقدون في وجود مرآة تشين هذه، فيُدققون في أعمالهم وأقوالهم.
وكان لأحد الموظفين في أسرة سونغ ، في القرن العاشر الميلادي، مرآة برونزية قديمة، قيل أنه كان يستطيع رؤية مئة كيلومتر عبرها. وقد أراد الموظف أن يقدّم المرآة العجيبة إلى الوزير الأعلى طمعاً في توثيق العلاقة بينهما. غير أن الوزير رفض العرض غير الشريف بذكاء قائلاً: ليست بي حاجة للمرآة التي تستطيع أن ترى عبرها مئة كيلومتر، لأن وجهي صغير! .