قصة مبتكر
قصة ابتكار
تشارلز بابيج
الكلمات المتقاطعة
حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر، كانت كل الأعمال الحسابية في عالم المصارف وعلم الفلك وما شابه تتطلب جداول رياضية معقدة لا يعرف إعدادها غير المتخصصين في الرياضيات.. وكان تشارلز بابيج أول من فكّر بطريقة تسهل عليه وعلى غيره عمليه إعداد مثل هذه البيانات المعقدة. ولد بابيج في سري بإنجلترا عام 1791م، وظهر ولعه بالرياضيات وعلم الحساب منذ الصغر. وفي العام 1812م، ولم يكن قد تجاوز الحادية والعشرين من عمره، بدأ مشواره الطويل لاختراع آلة حاسبة، منطلقاً من قناعته بأن الآلة قادرة على إعداد الجداول الرياضية بدقة وسرعة أكثر من الإنسان. تمكن بابيج بعد عشر سنوات من العمل من بناء آلة حاسبة ميكانيكية عرفت باسم آلة الفروق . وكانت هذه الآلة تقوم بحسابات تشمل حتى ثمانية أرقام عشرية. ولكن مبتكرها لم يكن راضياً عن أدائها بل عزم على إنتاج آلة أسرع وأشمل قادرة على تكرار الحسابات وتخزين الأرقام وطباعة النتائج. وتمر سنوات عشر أخرى، ويرسم بابيج آلة حاسبة أخرى تعمل على البخار وسمّاها الآلة التحليلية . كان مقدراً لهذه الآلة الحاسبة أن تكون هائلة الحجم ومعقدة في تركيبها. فكانت عبارة عن مجموعة متشابكة من الأسطوانات والعجلات والروافع والقضبان.. ويمكن تلخيص ما يفترض بهذه الآلة أن تؤديه على الشكل الآتي: تقوم أعمدة من العجلات بتخزين الأرقام، ثم تغذى المعلومات داخل الآلة بواسطة بطاقات مثقوبة بحيث تمثل الثقوب وترتيبها أرقاماً وعمليات حسابية محددة. وتعمل هذه البطاقات بمثابة مفتاح يدير تروساً وروافع وعجلات بشكل يجعل الآلة قادرة على إجراء الحسابات التي تحملها البطاقات. كما كان بابيج أول من وعى قيمة الذاكرة الآلية، فصمم لآلته ذاكرة لتخزين المعلومات، وطابعة ذاتية لتسجيل النتائج. ولضيق في ذات اليد وللسخرية والاستهزاء الذي واجهه من بعض علماء الرياضيات، ظل بابيج يكافح لمدة سبع وثلاثين سنة في سبيل بناء آلته التحليلية من دون أن يتمكن من ذلك. عوّض هذا المبتكر عن فشله في بناء آلته بمجموعة أنشطة علمية أخرى. فكان أحد مؤسسي جمعية العلوم الفلكية التي تعرف اليوم باسم الجمعية الملكية للعلوم الفلكية. وألفّ عدداً من الكتب في عام 1832م حول اقتصاد الآلات والصناعات . توفي بابيج عام 1871م. وبعد ذلك بأربعين سنة، قام ابنه ببناء جزء من الآلة التحليلية ليثبت أن مشروع والده كان قابلاً للتحقيق. وأكثر من ذلك، فقد أثبتت السنوات اللاحقة أن الآلة التحليلية هذه كانت بالفعل النواة الأولى لصناعة الكومبيوتر الذي بدأ بدوره كبير الحجم ويشغل غرفة كاملة، وأصبح اليوم بحجم قبضة اليد.
في أحد أيام ديسمبر من العام 1913م، وقع آرثر أوين، رئيس تحرير جريدة «نيويورك وورلد»، في مأزق تمثل باقتراب موعد طباعة الجريدة التي كانت تصدر يوم الأحد، ولا يزال أمامه فراغ على إحدى صفحاتها عليه أن يملأه بأية مادة ممكنة. وفي لحظة ارتباكه أمسك بقلم وأخذ يكتب مجموعة من الكلمات المبعثرة من دون عناية بترتيبها، بحثاً عن فكرة لمادة صحافية. ومن ثم راح يكتب كلمة واحدة ويختار الحرف الذي تنتهي به ليكتب كلمة أخرى تبدأ بهذا الحرف. وسرعان ما وجد قصاصة الورق أمامه تتزاحم بالكلمات.. بعضها مكتوب بشكل أفقي والآخر رأسي.. وكل كلمة تتصل بأخرى من خلال حرف مشترك معها. فكّر أوين بهذه الكلمات وأوضاعها، ورأى أنها قد تشكل مادة مسلية، أو لعبة جديدة تكون الكلمات وكتابتها بشكل صحيح مادتها، الأمر الذي لا يخلو أيضاً من الفائدة. فقام الرجل بمحو بعض الكلمات، وترك أماكن حروفها خالية. وكتب حلاً يتضمن معاني تلك الكلمات، بحيث يكون المطلوب من القرّاء تخمين ماهية الكلمات الناقصة استناداً إلى معانيها وعدد الفراغات المساوية لعدد الحروف الناقصة. ويسهّل ذلك على القارئ تقاطع الكلمات مع بعضها البعض وتوافر بعض حروفها. وأطلق أوين على هذه الأحجية «لعبة الكلمات المتقاطعة». ظهرت أولى هذه الأحاجي في عدد 21 ديسمبر 1913م في جريدة «نيويورك وورلد». وأحب القرّاء هذه اللعبة المسلية والمفيدة منذ بدايتها. وبسرعة تبنتها عشرات الصحف الأمريكية، لتنتشر بعد ذلك في معظم الصحف والمجلات في العالم. وفي عام 1924م، طبع أول كتاب يحتوي على مجموعة كبيرة من أحاجي الكلمات المتقاطعة، وقد أهدي مع كل كتاب قلم مجاني للدعاية التسويقية، فكان أكثر الكتب مبيعاً في العالم آنذاك. وفي تفسير عالمية النجاح الذي حظيت به الكلمات المتقاطعة يمكننا أن نشير إلى أنها قابلة للإنتاج بكل لغات العالم، وأدوات ممارستها تقتصر على قلم وعلى صورة الأحجية مطبوعة في جريدة أو مجلة حتى ولو مرّ زمن طويل على صدورها. كما يمكن لممارس هذه الهواية أينما كان هناك انتظار: خلال السفر الطويل، في عيادة الطبيب، في وقت الفراغ على شاطئ البحر، أو في السرير.. كما أن فائدتها الذهنية مهمة بدورها إذ تغني القاموس اللغوي للفرد إضافة إلى ثقافته العامة. وحتى اليوم، لا يزال للكلمات المتقاطعة هواتها.. وتفنن معدوها في ابتكار أشكال مختلفة منها، مثل وضع صورة شخصية في مربع، وسهم للإشارة إلى الاتجاه الذي يكتب به اسمه في حال معرفته، كما عمد البعض إلى إعداد هذه الأحاجي حول محور محدد فتكون كل الحلول من مجال محدد كالجغرافيا، أو الفن، أو التاريخ، وما إلى ذلك.