قول في مقال

استعادة أخرى
لذكريات مدارس زمان

كانت القافلة قد تناولت في العدد السابق موضوع المدارس العربية أيام زمان، وما كان عليه التعليم قبل جيل أو جيلين. وهنا مساهمة من الأستاذ محمد ابن عبد الرزاق القشعمي، يتناول فيها مزيداً من الأوجه المؤثرة لعلاقة بعض كبار الأدباء السعوديين بالمدارس التي ارتادوها في طفولتهم.

ما زلت أذكر وأنا طفل صغير لم أتجاوز الخامسة من عمري في قريتي معقرة ، وهي إحدى قرى الثويرات بالزلفي، كيف كنت أمشي حافياً متعثراً في طريقي من عتيّق إلى الصبخة مع أترابي من أبناء عمي، وكيف كان المطوع يستقبلنا بشيء من التندر والسخرية وتقطيب الحاجب، وأحياناً كان يأخذنا جميعاً ليجلسنا على حافة المنحاة ، وفي طريق السانية التي تنزح الماء من البئر.. المطوع عبدالرحمن الثنيان يسوق البقرة العجفاء، ويدفعها لسحب الماء وهو يقريء هذا وينهر ذاك.. وكل واحد يحمل لوحاً، يتهجأ ما كتب عليه من حروف، وبعضهم يقرأ إحدى السور القصار.

المطوع يحمل العصا، يهوي بها على البقرة المسكينة، وأحياناً يساعدها في سحب الرشاء الذي يحمل الغرب ليفرغ ما فيه من ماء في اللزاء ليتسرب الماء عبر الساقي إلى الأشراب الصغيرة التي زرع بها بعض العلف للماشية أو أحواض النخل.

كان المطوع يصرخ في من يكون قد سكت أو خفت صوته.. وكان الفتى – كاتب هذه السطور- يلهو أو يضعف صوته. وذات مرة، بمجرد أن أحس أن المطوع يكاد أن يضربه بعصاه التي لا تفرق بين ظهر البقرة – السانية- وكتف الطفل، صرخ بأعلى صوته: يا مطوع يامطوع.. فوقفت العصا في الهواء، وسأله المطوع وش تبي؟ فرد الطفل: عسى النخل كله حامل.. فضحك المطوع ونجا الطفل من العقوبة.

من تقاليد التخرج
تدفعني هذه الذكرى إلى استعادة علاقة بعض الأدباء بأساتذتهم.. ونبدأ بأستاذنا عبدالكريم الجهيمان، رئيس تحرير أخبار الظهران التي كانت أول جريدة تصدر في المنطقة الشرقية قبل أكثر من نصف قرن. سجّل الجهيمان في مذكراته بعض التقاليد التي عايشها عندما ختم القرآن في قريته غسلة قرب شقراء.. وهو يرويها على الشكل الآتي: ..يكون أولياء الطفل الذي ختم القرآن قد أعدوا وليمة لجميع الطلاب. كما أنهم يعدون هدية مناسبة للمطوع الذي ختم الطفل كتاب الله على يديه. فإذا انتهت مدة الدراسة الصباحية، خرج الطلاب جميعاً، ومعهم الطفل الذي ختم القرآن وهم يحملونه على أعناقهم، ويرددون مختلف الأناشيد. ويثيرون ضجة في جميع الشوارع التي يمرون بها.. فإذا وقفوا عند باب أهل الطفل رددوا جملة متعارف عليها وهي قولهم اشروه وإلا كسرنا عصه وفي العاير نلصه . فيقول أهل الطفل: شريناه، شريناه.. . ثم يفتحون للطلاب الأبواب فيأكلون ويشربون ثم يخرجون إلى جوانب القرية ليمارسوا ألعابهم .

أساتذة من كل نوع
ويقول حسن كتبي، وزير الحج والأوقاف السابق، في كتابه هذه حياتي ، أن هناك أستاذين تركا في نفسه صدىً حياً زاد من إيمانه وتمسكه بأصول التربية والتعليم عندما أصبح مدرساً بعد ذلك.

فقد كان الواحد منهما يدخل الفصل باسماً كما يدخل الأخ الأكبر على إخوته الصغار.. وقد يبدأ الحديث في أي موضوع من المواضيع العامة قبل أن يبدأ الدرس حتى يهديء روع الطلبة وتسكن نفوسهم، وقلّما يفاجئ بالأسئلة المحيرة التي تربك ذهن الطلبة. ويسمي في النهاية أحدهما وهو الشيخ حمدي، ويذكر ما أدرك الطلبة من الحزن على فقده ما لا يقل عن إحساس أهله وذويه.

ويذكر أستاذ الحساب كشخص مناقض تماماً لما سبق، إذ أتى الحديث عنه تحت عنوان جلاد أثيم . إذ ترك أسوأ الأثر في نفوس الطلاب: فقد كان شاباً ضيق القلب قصير النظر قميء المنظر، مفرطاً في العناية بهندامه، يتشدق في حديثه حتى يمل سامعه من وقع نبرات لفظه.. وكان ينظر إلى الطلبة كجرذان حقيرة لا تستحق منه إلا العنف والاحتقار. وحتى من يحسن في عمله لا يظفر منه بكلمة تشجيع.. . وقال إنه لم يقبل على تفهم الحساب إلا بعد أن ترك هذا الشخص المدرسة، رغم أنه كان بحاجة شديدة إلى تعلم الحساب.

اللحم لك والعظم لنا
ونجد عبدالرحمن منيف في أم النذور يصف الشيخ زكي عندما اصطحبه أبوه إليه ذات صباح، وأمسك أذنه وجرّه قليلاً وهو يقول للشيخ: مثل أخوته اللحم لك والعظام لنا. فرد عليه الشيخ زكي: لا تخف، اترك لي الأمر وسترى.

وفي المساء، سأل إخوته عن تلك الكلمة الملعونة، سألهم عن اللحم والعظم، فتضاحكوا، ولم يقولوا سوى كلمات قليلة، فهم منها أن عليه الاستعداد، لأن الشيخ سيضربه حتى الموت، ولن يبقى منه سوى كومة من العظام!

لم ينم تلك الليلة، تمنى الموت.. حزن كثيراً وكاد يبكي.. وتمنى لو يمرض أو لو يمرض الشيخ، ثم تجرأ وتمنى الموت.. ولكن لماذا يحرِّض أبوه الناس الغرباء كي يضربوه وهو لم يفعل شيئاً؟.

ويروي أيضاً في سيرة مدينة أنه قد التحق بكتّاب الشيخ حافظ في أول جبل عمان تحت شجرة اللوز العجيبة، فيقول لجدته: مثل ما الشيخ يضرب الأولاد، يضرب الشجرة ويقول لها: لازم تعطي اللوز والمشمش، وهي مسكينة، وحدها، ما معها أحد، تخاف وتسوي مثل ما يريد.. .

وينتقل عبدالرحمن منيف بعد ذلك من كتّاب الشيخ حافظ إلى كتّاب الشيخ سليم في وسط السوق، فاعترضت عليه جدته لأمه عندما علمت بأن الشيخ سليم أخذ طلبته ومن بينهم الطفل عبدالرحمن ليصلُّوا على الميت في المسجد الحسيني، وهناك هددهم بسجنهم في غرفة الموتى بجوار المسجد إذا لم يخبروه من أحضر معه الضفادع وأطلقها داخل الكتّاب.

غسل الأطباق أفضل
أما أحمد السباعي الأديب المعروف والحائز على جائزة الدولة التقديرية في الأدب، فقد كان يجد وهو طفل في تسخير المعلم له وتحميله زنبيل المقاضي وغسل الأطباق والعناية بطفله والذهاب بنعاله إلى عم جابر الخرَّاز فرصة لذيذة يقطع بها الوقت بعيداً عن شخط العريف ولسع خيزرانة الفقيه.

وكان أحمد السباعي الطفل يتوق إلى اللعب مع أترابه.. لكن والده كان يحرص على سرعة تعلم ابنه ويمنعه عن ذلك آمراً: اتوضأ يا ولد، وصلِّ العصر، واقعد اقرأ حتى تصلي المغرب.. وبعد المغرب إيش عندك؟ برضه إقرأ حتى تصلي العشاء وتأكل لقمتين وترقد، تصبح حافظ!! .

وبعد فترة، انتقل السباعي من الكتّاب إلى المدرسة الراقية، ليكتشف أن مستواه في الفهم والاستيعاب أدنى بكثير من مستوى زملائه. فعمد إلى فرخ ورق من القطع الكبير يسجل عليه ما يشرحه الأستاذ. وكان إذا امتلأ الفرخ تماماً كتب في أعلاه جريدة سباعية تصدر عند اللزوم . فكان الأستاذ لا يوجه سؤالاً، إلا وبادر أحمد قبل غيره بالإجابة معتمداً على ما كتبه على فرخ الورق، والمدرس لا يدري أن هذه الإجابة آلية وأن تلميذه لا يفهم معناها.

ويروي محمد علي مغربي في أعلام الحجاز وهو يترجم للأستاذ صالح محمد جمال مؤسس ورئيس تحرير جريدة حراء وبعد ذلك الندوة ، أن أباه أدخله مدرسة الفائزين، ولكن الطفل الصغير ترك المدرسة مرتاعاً بعد أن رأى القسوة التي يعامل بها بعض المدرسين تلاميذهم. وكتب صالح جمال في مذكرات ورحلات يصف وضعه في المدرسة قائلاً إنه استمر أياماً، ثم هرب مذعوراً مما رأى من تناول المدرس ظهور الطلاب ورؤوسهم بعصاه الطويلة.

فقد كان الضرب في تلك الأيام عادة تكاد تعم جميع المدارس. الضرب بالعصا أو بالمسطرة على كف اليد، أو وضع الرجلين في الفلكة لمن يعتبرهم المدرسون مستحقين لعقوبة أكبر.

وإذا كانت تلك الأساليب التربوية والتعليمية البدائية والعقيمة المتسمة بالقسوة والتخلف لم تحل دون ظهور تلك العبقريات.. فلماذا لم تنجح المدارس والجامعات والمعاهد المفتوحة وغيرها في إنتاج أمثال أولئك الرجال؟

هل وراء هذا العقم حيث تبدد جهود الطلاب وطاقاتهم في مقررات لا نفع منها؟ أم أن طرق التعليم تعتمد على الحشو والتلقين؟ أم أن الإنسان أصبح مدللاً بحيث أصابه الخمول، ولم يعد قادراً على استثمار هذه الإمكانات التي لم يظفر بأقلها أبناء أجيال الريادة؟

أضف تعليق

التعليقات