بيئة وعلوم

المباني الخضراء
صداقة مع الطبيعة وبيئة مسالمة للإنسان

  • 37a
  • 32
  • 35a
  • 35b
  • 35c

البيت الأخضر أو المباني الخضراء هو عنوان الفصل الأخير في زحف الاهتمام بالشأن البيئي حتى وصل إلى غرف نومنا، فارضاً على المهندسين والمصممين المعماريين بالدرجة الأولى مراجعة شاملة لأساليب البناء وموارده.

الدكتور هاشم عبدالله صالح يشرح هنا ما هية المباني الخضراء، وسلامة المباني وأمراضها، وأهم الجوانب التي تستوجب الاهتمام في المباني تصميماً وإنشاءً وعيشاً داخلها، لما لها من آثار تفوق التصور على البيئة عموماً وصحة الإنسان خصوصاً.

كان القرن العشرون مزدحماً بنشاط إنساني فكري وإبداعي أنتج تطوراً علمياً وتقنياً وصناعياً أسهم بشكل كبير في إعادة تشكيل حياة الإنسان المادية والثقافية والاجتماعية. وقبل أن يودعنا هذا القرن شهدنا وقفة إنسانية جريئة تمثلت بالدعوة إلى مفهوم جديد للتنمية, تنمية تطرح رؤية متوازنة بين المحافظة على البيئة وسلامة الإنسان واستمرار النمو الاقتصادي.

فالتنمية المادية التي تمادى بها الإنسان في القرن الماضي والتي ترى أن الطبيعة هي مخزون لا ينضب لكل ما يحتاجه الإنسان من موارد ومصادر طاقة ومستودع لا يضيق لكل ما يطرحه الإنسان من مخلفات وانبعاثاث، جعلت الإنسان في مواجهة مشكلات بيئية تنذر بتداعيات خطيرة على حياته وقدرته على مواصلة تطوره الحضاري والمادي. ويحظى قطاع البناء والعمران باهتمام كبير في إطار التنمية المستدامة والشاملة باعتبار أن ممارسات هذا القطاع في مرحلة التصميم والتنفيذ والصيانة والتشغيل وحتى الهدم لها تأثير كبير على الإنسان وبيئته الطبيعية.

ومن دون الحاجة إلى الدخول في تفاصيل التكلفة البيئية للنشاط العمراني, يكفي القول هنا إن قطاع البناء لوحده يستهلك 40 في المئة من مجموع استهلاك الطاقة في العالم وأن 30 في المئة من المواد الأولية تستهلك في البناء والنشاط العمراني، و16 في المئة من مجموع استهلاك المياه يذهب للبناء والتشييد.

وهناك أثر وتكلفة صحية تضاف إلى هذه التكلفة البيئية. فمنظمة الصحة العالمية تشير إلى أن 30 في المئة من المباني الجديدة في العالم هي في الحقيقة مبانٍ مريضة. إذ أن رداءة البيئة الداخلية لهذه المباني نتيجة لما تحويه من ملوثات وعوالق خطرة جعلتها مسؤولة وبشكل مباشر عن قائمة طويلة من الأمراض التي قد تصيب الإنسان, فأمراض الحساسية والصداع الخفيف والمزمن والكثير من السرطانات وتشوهات الأجنة وأنواع عديدة من الأمراض النفسية كلها أمراض قد تصيب الإنسان لأنه يعيش أو يسكن أو يعمل أو يمارس نشاطه الرياضي أو الاجتماعي في بيئة عمرانية داخلية مريضة. ومن الطبيعي أن يكون هناك ثمن وتكلفة اقتصادية نتيجة لهذه الأمراض, فالتقديرات الأمريكية تذكر أن 30 بليون دولار سنوياً ثمن التكلفة المباشرة للتعامل مع أمراض المباني وأن التكلفة غير المباشرة مثل تدني الإنتاجية والغياب من العمل, تتجاوز المئة بليون دولار سنوياً. وفي إطار هذا التشابك بين المباني وكل من البيئة الطبيعية وصحة الإنسان البدنية والنفسية جاءت المناداة باعتماد مفهوم “المباني الخضراء” على اعتبار أن هذا المفهوم يشكل إطاراً لمجموعة من الحلول الجذرية التي تمكن قطاع البناء والعمران من أن يستجيب بشمولية وبدرجة أعلى من التفاعل والتحسس للمواضيع البيئية والهموم الصحية.

وأثار مفهوم المباني الخضراء جملة من التحديات بدأت تشكل قوى تضغط وتدفع إلى مراجعة الكثير من الممارسات التي ألفناها في تصميم وتنفيذ المباني والمشروعات العمرانية. هذا الالتزام بإحداث كل هذه التغيرات في الواقع العملي يتطلب قبل كل شيء تغيراً ثقافياً جوهرياً عندنا كمعماريين ومهندسين، وذلك من خلال التفاعل الصادق والجاد مع المبادئ التي يرتكز عليها مفهوم التنمية العمرانية المستدامة.

ويمكننا أن نستقي هذه المبادئ من بين المفردات المكونة لتعريف ” المباني الخضراء”, فالمباني الخضراء أو ما تسمى أحياناً بالمباني المستدامة “هي ذلك النوع من المباني الذي يحقق المتطلبات الوظيفية والجمالية للمستفيد بأقل قدر ممكن من الضرر للبيئة الطبيعية ومن دون إسراف أو هدر للموارد الطبيعية المحدودة مع بيئة داخلية لا تعرض صحة وسلامة الإنسان البدنية والنفسية للخطر”. ففي إطار هذا التعريف بوسعنا أن نناقش جملة من المبادئ الخضراء التي من الضروري أن نفعّلها في تصميم وتنفيذ وتشغيل وصيانة المباني بأنواعها وأحجامها. ويمكن مناقشة هذه المبادئ على خلفية أن المباني الخضراء تستند إلى محورين رئيسين: الأول يختص بترشيد أثر هذه المبادئ على بيئتنا الطبيعية, والثاني يهتم بكيفية جعل المباني عموماً تنعم ببيئة داخلية مسالمة للإنسان.

المباني الخضراء.. ترشيد وعلاقة أفضل مع بيئتنا الطبيعية
التنمية المستدامة والشاملة التي نادت بها قمة الأرض عام 1992م, ترى أن من الضروري أن نفعّل الموضوع البيئي في أي نشاط تنموي نقوم به, إنتاجياً أو استهلاكياً, والنشاط العمراني يجب أن يكون في الطليعة لتجسيد هذه الضرورة وذلك من خلال استخدامٍ رشيد وعقلاني للموارد الطبيعية المتاحة، مع بذل أقصى جهد ممكن للتقليل من الأضرار والآثار السلبية للمباني على مكونات البيئة الطبيعية. فالمباني الخضراء هي محاولة لتصحيح العلاقة بين حاجة الإنسان إلى البناء والتشييد وبين المحافظة على البيئة وما تحويه من موارد ومصادر وإمكانات محدودة ومتوازنة, فالبيئة لم تعد مجرد مخزون لما نريد ومستودع لما لا نريد. وانطلاقاً من هذه الرؤية, هناك ستة أبعاد رئيسة للمباني الخضراء. ومن خلال مناقشة مختصرة لهذه الأبعاد نستطيع أن نتلمس ما هو مطلوب لكي نجعل من البناء والتشييد نشاطاً تنموياً معززاً للبيئة ونظمها.

1 – الترشيد في استخدام مواد البناء: الترشيد حالة مطلوبة دائماً في سلوكيات الإنسان لأنها تعني الحكمة والتوازن في حياته. وهذا ما تؤكد عليه وما تسعى إلى إنجازه فكرة المباني الخضراء. فكلما استخدمنا مواد بناء أقل ومن دون المساس بجودة المباني وديمومتها فهذا يعني بقاء أطول للمصادر الطبيعية لهذه المواد, مع طاقة أقل لتصنيعها ونقلها وتركيبها. وكذلك يعني مخلفات أقل في إنتاجها واستخدامها. والترشيد في المباني له مصاديق كثيرة, فاستخدام مواد بناء تمتاز بديمومة أطول يعني حاجة أقل لمواد أولية جديدة, وهناك تأكيد على استخدام مواد تحوي نسبة أعلى لمواد أعيد تصنيعها. وهذا بالنتيجة دعمٌ لمحاولات حفظ المصادر الطبيعية التي تدخل في صناعة هذه المواد. وتبقي الكفاءة والبساطة في التصميم، والدقة واعتماد مواصفات متعارف عليها في التنفيذ هو الخيار الأمثل لترشيد ما نحتاجه من مواد بناء.
2 – الأخذ بمنهج التصميم لمبانٍ أصغر: تدعونا فكرة المباني الخضراء إلى أن نتعلم كيف نصمم بيوتاً ومبانٍ أصغر حجماً، ولكنها تفي بمتطلبات وحاجات المستفيد. فهناك خلط بين الحاجات والرغبات. والمطلوب أولاً أن نبني وفق حاجاتنا ومن بعد ننظر إلى رغباتنا. وقد يعتقد البعض أن هناك علاقة طردية بين كبر حجم المكان وراحة الإنسان، وأن هناك علاقة طردية بين الشعور بالسعة والكثرة في اقتناء الأشياء, كل هذه الأوهام والاعتقادات الخاطئة أنتجت لنا مباني ومساكن متورمة بفعل ما فيها من مساحات زائدة وارتفاعات غير مطلوبة وأماكن ليس لها وظيفة حقيقية. فإذا كانت الرشاقة تعني الصحة في قاموس أهل الطب, فالمباني الخضراء تأخذ بهذا المبدأ باعتبار أن الزوائد في المباني قد تعني عدم الراحة لمستخدميها، بالإضافة إلى كلفتها الاقتصادية والبيئية.
3 – استهلاك طاقة بأقل قدر ممكن: يعتبر ترشيد الطاقة في المباني الأولوية الأولى في مفهوم المباني الخضراء باعتبار أن قطاع البناء يستهلك الكثير من الطاقة، وبالتالي فهو يتحمل مسؤولية الكثير من المشكلات البيئية مثل التلوث والانحباس الحراري وتآكل الأوزون وغيرها. وهناك خيارات كثيرة ومتعددة تأخذ بها المباني الخضراء من أجل التقليل من استهلاك الطاقة, فاستخدام أنظمة سلبية أو طبيعية للتبريد والتدفئة والتهوية وحتى الإضاءة وإن كان تطبيقياً جزئياً، فهو بالنتيجة استهلاك أقل للطاقة, والاستخدام الأمثل للعوازل في الجدران والأسطح مع البحث عن أفضل الحلول لتصميم شكل المبنى وموقعه واتجاهه هي كلها مواضيع تساعد في النهاية على ترشيد استهلاك الطاقة. وتولي المباني الخضراء اهتماماً كبيراً بمصادر الطاقة المتجددة وبالأخص الطاقة الشمسية والتي نمتلك منها الكثير في المملكة, فهذه الطاقة المتاحة باستمرار والتي لا يصاحب إنتاجها واستخدامها أضرار بيئية ملموسة هي مكون رئيس في تصميم المباني الخضراء. وحتى استخدام المواد المحلية والمواد المعاد تصنيعها هو في الحقيقة ترشيد لاستهلاك الطاقة. فمادة الأسمنت مثلاً، وهي من المواد الرئيسة في صناعة البناء في المملكة تعتبر مادة غير محببة بيئياً لأن تصنيع الطن الواحد منها يحتاج إلى ما يقارب من ستة ملايين وحدة طاقة، وهذا كم كبير إذا ما قورن بالطين والخشب وهي مواد بناء جيدة إذا ما أحسن استخدامها والتعامل معها.
4 – الكفاءة في تصميم الفراغات والأماكن: فالفراغ والمكان المقصود هنا هو الحيز الذي يتحرك فيه الإنسان ممارساً فيه نشاطاً معيناً ومؤدياً لوظيفة معينة، ويتأثر هذا الإنسان بأبعاد هذا الفراغ والمكان الوظيفية والجمالية. فالكفاءة هنا تعني مقدار استجابة المكان والفراغ المعماري لنشاطنا كمستخدمين. فليس المطلوب منا أن نلبي ونستجيب لما يطلبه المكان, ولا ينبغي أن نشغل المكان بأثاث أكثر مما نحتاج لأن المكان أكبر مما نحتاج، ولا ينبغي أن نقطع مسافات أكبر لمجرد الانتقال من مكان إلى مكان آخر. أما البعد الجمالي فيقصد به البساطة والتناسق والتناغم في مكونات المكان. هذه الكفاءة في تصميم الفراغ المعماري تعني أن المباني الخضراء أكثر استجابة وتناغماً مع حاجات مستخدميها، وتعني بالتالي ديمومة أطول لها وتوظيفاً أكبر لمكوناتها. وهذا يصب في النهاية في صالح العلاقة بين المباني والإنسان والبيئة الطبيعية.
5 – إنتاج اقل من المخلفات والانبعاثات الضارة: إن عملية البناء ومن ثم التشغيل والصيانة قد يصاحبها الكثير من المخلفات والانبعاثات الملوثة للبيئة, والقليل من هذه المخلفات يعاد تصنيعها والاستفادة منها، أما الباقي فيأخذ طريقه إلى الهواء أو التربة أو الماء. هناك الكثير من الدراسات التي تشير إلى أن حوالي 30 في المئة من المخلفات الصلبة هي مخلفات إنشائية، والبعض من هذه المخلفات هي مصادر تلوث قوية لبيئتنا. فالمباني الخضراء تعطي هذا الموضوع أهمية خاصة وترى أن إنتاج هذه المخلفات ليس بالأمر الحتمي، وإن وجدت فهي ليست بالكميات التي نطرحها في الوقت الحاضر، بشرط أن نأخذ هذا الأمر في الاعتبار أثناء مرحلة التصميم والتنفيذ.
6 – ترشيد استهلاك المياه: لسنا بحاجة إلى التأكيد على أهمية الماء وبالأخص في منطقتنا التي لا تمتلك منها إلا القليل. وتتأكد هذه الأهمية عندما نعلم أن 60 في المئة من المياه العامة تذهب إلى المساكن والمباني، وبالتالي فإن ترشيد استهلاك المياه من خلال الأخذ ببعض التقنيات التي نراها في المباني الخضراء يعتبر معالجة جذرية وتعاملاً مباشراً مع مشكلة الهدر الذي نشهده في المياه.

المباني المريضة..
مصادر المرض وأساليب العلاج
في الكثير من الأحيان لا ينظر إلى البيئة الداخلية للمباني على أنها هي الأخرى بحاجة إلى حماية واهتمام على اعتبار أن البيئة الطبيعية في الخارج هي التي ينالها التلوث بفعل ما نطرحه من مخلفات وانبعاثات ضارة. ولكن الحقيقة أن إنسان اليوم يعيش جل وقته (ما بين 80 في المئة إلى 90 في المئة من وقته) في بيئة داخلية. فمن الطبيعي أن تتأثر صحة هذا الإنسان وسلامته بجودة البيئة الداخلية للمسكن الذي يعيش فيه والمكان الذي يعمل ويتواجد فيه.

هناك الكثير من الدراسات التي تؤكد أن البيئة الداخلية للمباني هي في الغالب أكثر تلوثاً من الخارج بل قد يصل هذا التلوث إلى عشرة أضعاف التلوث الموجود في الخارج. وهناك دراسة أجريت في إحدى الولايات الأمريكية, أشارت إلى أن تلوث الهواء داخل المباني يعتبر المسؤول الأول عن 50 في المئة من الأمراض التي قد تصيب الإنسان. بيئة داخلية مريضة وبمرضها يصاب الإنسان بأمراض كثيرة, أما كيف تمرض هذه البيئة, فهناك ثلاثة مسببات رئيسة وهي:
1 – النشاط الإنساني: ما دام الإنسان يمارس وجوده, يأكل ويتنفس ويعمل ويتحرك, فهو مصدر تلوث للبيئة التي يعيش فيها. ولكن البيئة الطبيعية كفيلة بمعالجة هذا التلوث بل هو جزء من دورتها الطبيعية المتكاملة بشرط أن نسمح للشمس أن تدخل وللهواء أن ينفذ. أما عندما يجعل الإنسان من نفسه مصنعا ينفث السموم بفعل سيجارته، فالمسالة لم تعد نشاطاً إنسانياً طبيعياً بل نشاطاً تدميرياً متعمداً. وتشير الدراسات إلى أن الدخان الذي تطلقه السيجارة يحتوي على أربعة آلاف وسبعمائة مركب كيميائي، وأن ثلاثة وأربعين منها على الأقل هي مركبات قد ثبت أنها مواد مسرطنة.
2 – الملوثات الخارجية: هناك ثلاثة مصادر أساسية للملوثات الخارجية التي قد تجد طريقها إلى داخل بيوتنا وأماكن عملنا. وهي الغازات التي تطرحها المصانع ووسائل النقل, والرطوبة وغاز الرادون. كل هذه الملوثات قد تتسرب إلى بيئتنا الداخلية من خلال الفتحات والشقوق واختلاف الضغط بين الداخل والخارج. فتراكم هذه الملوثات في بيوتنا مع مرور الزمن قد يعني لنا صداعاً خفيفاً أو مزمناً أو حساسية لا ينفع معها دواء أو مجرد شعور بالتعب والكسل والإرهاق. وقد تكون المسالة أخطر عندما يجد غاز الرادون طريقه إلى داخل بيوتنا, فهذا الغاز عديم اللون والرائحة هو مسبب رئيس لمرض سرطان الرئة وهو المسؤول عن وفاة عشرين ألف شخص سنوياً في الولايات المتحدة الأمريكية.
3 – الملوثات الداخلية: إن جميع مواد البناء الحديثة بلا استثناء هي مصادر تلوث لبيئتنا الداخلية, فهناك خمسة آلاف مركب كيميائي يدخل في صناعة أغلب مواد البناء المستخدمة في وقتنا الحاضر, والأصباغ لوحدها تحوي ما يقارب من 300 مادة سامة، ونصف هذه المواد السامة هي مواد معروفة بعلاقتها بالأمراض السرطانية. هذا العدد الكبير من المواد الكيميائية التي تدخل في صناعة مواد البناء والأصباغ والسجاد والأثاث هو المسؤول الأول عن تلوث الهواء بمركبات كيميائية وعضوية وعوالق, قد تجد طريقها كلها إلى داخل أجسامنا بالتنفس أو بطرق أخرى مسببة لنا الكثير من المشكلات الصحية والأمراض. فأحد هذه المركبات المشهورة وهو مركب الفورمالديهايد رخيص الإنتاج، وبسبب رخصه يدخل في صناعة الكثير من المواد المستخدمة في المنازل مثل السجاد والأصباغ والعوازل والبلاستيك والأرضيات وغيرها. فهذا المركب عديم اللون ذو الرائحة فقط عندما يكون بمستويات تركيز عالية، قد يسبب للإنسان صداعاً وحرقة في العيون وشعوراً بالاكتئاب, وهو من المركبات التي يحتمل أن يكون لها تأثير سرطاني حسب تصنيف المعهد الوطني الأمريكي للصحة والسلامة المهنية. وهناك مجموعة من المركبات الكيميائية, والتي يتراوح عددها ما بين 30 و 100 مركب, والتي يطلق عليها كلها “مجموعة المركبات العضوية المتطايرة” (TVOC) وسميت بالمتطايرة؛ لأنها تتبخر بسرعة من المواد التي دخلت في تصنيعها, هذه المركبات قد تتواجد بنسب قليلة وبالتالي سيكون لها تأثيرات صحية محدودة, ولكن المشكلة عندما تتراكم هذه المواد نظراً لعدم وجود تهوية كافية فإنها تشكل خطراً على صحة الإنسان. وحتى النسب القليلة غير مأمونة العواقب خاصة في البيوت والمدارس نظراً لطول مدة تعرض الإنسان لها.

وقد لا يقتصر الضرر على ما تطلقه هذه المواد من انبعاثات ضارة. فالسجاد الصناعي مثلاً يعتبر مصدراً قوياً لمركب الفورمالديهايد، ولكنه أيضاً مصدر قلق بسبب قدرته على امتصاص الكثير من الانبعاثات التي مصدرها مواد أخرى مستخدمة في المنزل ومن ثم إعادتها إلى الهواء مرة أخرى وبصورة تدريجية. وهناك خطورة أخرى تتمثل بقدرة السجاد الكبيرة على احتضان الكثير من الأوساخ والغبار، وبالتالي يكون بيئة مناسبة للكثير من الفطريات والبكتريا والتي وجودها بحد ذاته يعتبر مصدر العديد من الأمراض. ولعل أمراض الحساسية هي أكثرها شيوعاً.

قد يتصور البعض بأن التنظيف هو الحل للتخلص من كل هذه الأوساخ والفطريات التي احتضنها السجاد وهناك تنظيف رطب وتنظيف جاف وهو باستخدام المواد الكيميائية, ولكن التجارب أثبتت أن ليس هناك طريقة فعّالة لتنظيف السجاد بالكامل. فكلما أخرجنا كميات كبيرة من الأوساخ فما تبقى منها يظل هو الأكثر. أما التنظيف بحد ذاته, فإن كان بمنظفات كيميائية فما يتبقى من هذه المنظفات سيكون مصدراً للكثير من الانبعاثات الضارة. والتنظيف الرطب قد ينفع في التخلص من الكثير من الأوساخ والفطريات ولكن لمدة قصيرة جداً. فالرطوبة المتبقية في السجاد كفيلة بإعادة هذه الفطريات والبكتريا، وقد تكون هذه المرة الكميات أكبر والأنواع أخطر. فهناك دراسات كثيرة تربط بين إصابة الأطفال بمرض “الكاوازكي” وهو مرض تحسسي صعب, وتنظيف السجاد بالماء. ووجدت دراسة أخرى أن أغلب الأطفال الذين شملتهم هذه الدراسة والذين هم ممن أصيبوا بهذا المرض, قد أصيبوا به بعد تنظيف السجاد في المكان الذي يعيشون فيه. إذاً فالحل هو في عدم استخدام السجاد الصناعي قدر الإمكان والاستعاضة عنه بالسجاد المصنوع من الصوف والقطن الذي هو على شكل قطع يمكن الخروج بها إلى الخارج لتنظيفها والسماح للشمس والهواء الطلق بتعقيمها.

أساليب العلاج والوقاية
يعرف القليل منّا أن الهواء داخل بيوتنا فيه من التلوث والانبعاثات الضارة ما يفوق ما هو موجود في الخارج. والقليل منّا يعرف أن السجاد موطن للكثير من الكائنات التي لا تكف عن مهاجمتنا ليلاً ونهاراً. والقليل منّا يعرف أن هذا الثوب الجميل بلونه وملمسه الذي نلبسه لجدران بيوتنا هو السبب فيما نعانيه من صداع وحساسية وإرهاق. أما الآن وبعد أن تبين لنا أن بيوتنا وأماكن عملنا قد تمرض، وبمرضها قد نمرض, فقد حلّ الوقت لنجعل من هذه البيوت والأماكن خضراء، فتتاح لنا فرصة أكبر للعيش بصحة وسلامة.

هذا الأمر يتطلب ثلاثة شروط رئيسة: تجنب استخدام مواد البناء الضارة بقدر الإمكان, عزل ما يستخدم من هذه المواد الضارة حتى لا تكون على تماس مباشر بالبيئة الداخلية، وأخيراً التهوية الجيدة والتي هي الطريق للتخلص من الهواء الفاسد والملوث وأعادت النقاء إلى الهواء الذي نستنشقه. وفي ما يأتي شرح موجز لهذه الشروط الثلاثة:
1 – التقليل قدر الإمكان من استخدام مواد بناء وأثاث تدخل في تصنيعها مركبات كيميائية معروف ضررها. فالسجاد الصناعي يستعاض عنه بالسجاد الطبيعي المصنوع من الصوف والقطن. وبذلك نتجنب الكثير من المشكلات الصحية المرتبطة بالسجاد الصناعي. والأصباغ ذات القاعدة المائية باتت تشكل خياراً صحياً بديلاً لذوات القاعدة الزيتية. وهناك جهود علمية وبحثية واسعة واستثمارات كبيرة لإنتاج وتصنيع الكثير من مواد البناء الخضراء، خاصة في الدول الأوروبية وكندا وأمريكا وغيرها، وهذا سيجعل استخدامها غير مكلف اقتصادياً.
2 – التهوية والإضاءة الطبيعية: من الضروري أن نجعل بيوتنا وأماكن عملنا تتنفس بصورة كافية وجيدة حتى يمكنها التخلص مما يتراكم فيها من غازات ضارة وانبعاثات ملوثة وعوالق خطرة على صحتنا وسلامة أبداننا. إذا كانت الخيارات أمامنا محدودة لتجنب الكثير من مواد البناء والأثاث والأصباغ الملوثة لبيئتنا الداخلية، فإن التهوية الجيدة تأتي كأفضل خيار يعيد الصحة لبيوتنا والسلامة لأبداننا. وتتطلب التهوية الجيدة وجود نظام تهوية يضمن لنا تجدد الهواء في الداخل بالكامل بمعدل مرة كل ثلاث ساعات. ولا يكفي أن نترك مهمة التهوية لأنظمة التكييف والتي هي في العادة تعتمد على تدوير الهواء مع تنقية جزئية لما يعلق فيه من عوالق وانبعاثات ضارة. هناك عدة نظم للتهوية, فهناك التهوية الطبيعية والتي تعتمد على حركة الهواء وما يشكله من تخلخل في الضغط بين الداخل والخارج، وطبعاً للشكل الخارجي للمبنى دور مؤثر في حركة الهواء, ولواقط الهواء التي نشاهدها في البعض من المباني التقليدية هي أنظمة تهوية طبيعية فعّالة في الكثير من الحالات. أما التهوية باستخدام أنظمة ميكانيكية, فهي مطلوبة بشرط أن تستخدم بأقل قدر ممكن من استهلاك الطاقة وأن تعمل على تهوية المبنى كلياً. أما بخصوص الإضاءة الطبيعية فهناك مثل إيطالي يقول “عندما لا تدخل الشمس إلى البيت فإن الطبيب سيدخله بالتأكيد”. فضوء الشمس ليس نوراً يعيد البهجة إلى بيوتنا فقط، وإنما هو طاقة فيها الكثير مما هو ضروري لسلامة وحيوية بيئتنا الداخلية. فهو كفيل بغسل الهواء الذي نتنفسه من الكثير من العوالق والمركبات الكيميائية التي يختنق بها هذا الهواء في الداخل، وهو أيضا سلاح مدمر للفطريات والبكتريا التي وجدت لها، وبالرغم منا، مستوطنات تريد منا أن نعيش تحت رحمتها وسطوتها.
3 – العزل قدر الإمكان لكل المصادر المحتملة لتلوث بيئتنا الداخلية. والبيوت والمباني التي تكثر فيها التشققات وأماكن التسرب معرضة أكثر من غيرها لتراكم الملوثات والغازات الضارة وبالأخص تلك القادمة من خارج البيت. وإذا كان استخدام العوازل بات ضرورياً في ظل متطلبات ترشيد الطاقة وإيجاد البيئة الداخلية المريحة، فهذا لا يعني أن نتركها في تماس مباشر مع بيئتنا الداخلية وبالتالي نكون معرضين لخطر انبعاثاتها وما ينفصل عنها من عوالق خطرة. ولا بد كذلك من الاهتمام بقاعدة المبنى تجنباً للملوثات القادمة من الأرض وبالأخص غاز الرادون والرطوبة وكلاهما مصدر خطر على بيئتنا الداخلية.

الخلاصة.. المباني الخضراء هي مبانٍ تفهم لغة الطبيعة وتهتم براحة وسلامة الإنسان
المباني الخضراء هي دعوة صادقة إلى الإنسان لتصحيح علاقته مع الطبيعة, فأنانية الإنسان وعدم اكتراثه بما يلحق هذه البيئة الطبيعية من أضرار بفعل إصراره على استهلاك الموارد الطبيعية، وبوتيرة تتجاوز كثيراً ما هو مطلوب وضروري لإشباع حاجاته ومقومات وجوده, استهلاك يصاحبه لا مبالاة بقدرة الأرض والهواء والماء المحدودة لاستيعاب ما نطرحه من مخلفات ضارة وملوثات متنوعة, كل هذه الأنانية واللا مبالاة بحاجة إلى وقفة تعيد إلينا رشدنا حتى لا نكون في النهاية ضحايا ظلمنا وجهلنا.

المباني الخضراء هي دعوة إلى رفض كل المحاولات لجعل مساكننا وأماكن عملنا مستودعات للآلاف من المواد الكيميائية التي أبسط ما يقال عنها إنها مواد لم يختبر ضررها على الإنسان. إننا نستحق أن نعيش التسعين في المئة من وقتنا في بيئة صحية ومريحة وليس في مستودعات نراكم فيها ما نريد وما لا نريد.

أضف تعليق

التعليقات