الثقافة والأدب

مدراس في أيام مطيرة

  • 78a

هي الرواية الأولى للكاتبة الهندية الأمريكية سامينا علي، التي تعالج الازدواجية الثقافية عند المهاجرين من بيئة إلى أخرى مختلفة عنها، وما يترتب عليها من آثار.
“مدراس في أيام مطيرة” رواية عالمية تنطلق من كل ما هو حميم وملتصق ببيئة محلية مؤطرة ضمن مدينة حيدر آباد بالهند.
علاء الدين رمضان يعرض للرواية، ويختار بعض مقاطعها.

ظهرت سامينا علي على مسرح الأدب للمرة الأولى من خلال روايتها “مدراس في أيام مطيرة” التي جسدت من خلالها خلفيات الصراعات الطائفية في المدينة القديمة لحيدر آباد في الهند. كما تستدعي بشكل ثنائي تعقيدات الحياة التقليدية هناك، وانعكاس تقاليدها على الجالية الهندية في أمريكا.

واستطاعت سامينا علي استكشاف الجوانب المعقدة للحب والثقافة والهوية وغيرها وطرحها أمام القرّاء ممزوجة بالمحفزات الحيوية غير العادية للمزاج الهندي، مثل العادات والتقاليد والحرارة والغذاء والطبيعة… الخ. فهي معبأة بأجواء الهند وحرارتها في التفكير والصراع والوعي وأساليب الحياة.

ولا تكمن قوة الكاتبة فقط في تشكيل شخصيات معقولة ومعقدة، ولكن أيضاً في إيصال ثراء عالمهم الداخلي بالإضافة إلى النسيج الخارجي، مع يسر في اللغة التي تكشف عن العواطف البدائية والمعقدة وغير الملحوظة تماماً.

الهندي والأمريكي اثنان في واحد
تفتتح رواية “مدراس في أيام مطيرة” أحداثها بحفل زفاف بين ليلى، الطالبة الجامعية التي تبلغ من العمر حوالي تسع عشرة سنة، وسمير المهندس الطموح.

مراسم الأيام الخمسة كانت حافلة بالتقاليد الغنية لثقافة العائلات في مدينة حيدر آباد. إلا أن وراء هذه الاحتفالات الغنية بعض الأمور المفزعة. فليلى التي صرفت شطراً من حياتها في الولايات المتحدة، تبدو شخصية موزعة يتخبط وجدانها بشدة. فهي في بيت العائلة لا تشعر بأنها هندية، حيث يُنظر إليها بارتياب دائم بوصفها غريبة، وكذلك في أمريكا، حيث تعمّد أبواها عزلها عن الثقافة الحديثة. فتقول: “كان من المفترض أن أسكن أمريكا من دون أن أسكن فيها..”.

وعلى الرغم من محاولة أبويها حمايتها، إلا أن ليلى خضعت للعديد من طقوس التقلبات الأمريكية، وصولاً إلى بعض التجاوزات الخطرة التي لو انكشف أمرها، فسيكون والدها مكلفاً بتعذيبها حتى الموت.

فليلى نتاج كل من الحياة الأمريكية من جهة والتربية الهندية التقليدية من جهة أخرى. إنها شابة صغيرة وجدت نفسها عالقة بين عالمين مختلفين تماماً. عالمان يتنازعان وجدانها كما يقتسمان حياتها: أمريكا والهند، بما لهاتين البيئتين من تمايز وخصائص مختلفة ومتناقضة. فأمريكا أتاحت لها إطلاق الرؤية وحرية التعبير والتصرف. والهند بيئة محافظة بشدة على التقاليد والعادات والخصائص الإنسانية. وقد عمل أبواها على غرس ذلك التنوّع وإنتاج تلك النفسية. إذ قسّما حياتها بدقة طوال تسع عشرة سنة إلى قسمين: أحدهما تعيش خلاله لمدة ستة أشهر من كل سنة في أمريكا، والثاني، لستة أشهر أخرى في بيت العائلة في المدينة القديمة في حيدر آباد بوسط جنوب الهند. بينما كانت حياتها، دورها، واجباتها وتطلعاتها “محددة بشكل واضح كالحائط الذي يعزل المدينة القديمة”.

فالحرية التي استمتعت بها ليلى في أمريكا – حيث انزلقت بعيداً عن السيطرة الأبوية واقترفت شأناً محرماً، تبعتها عواقبه إلى الهند – هذه الحرية تبقى رسالة مخبأة في جسمها على شكل رسالة. بينما هي لا تعرف أن عريسها سمير يحمل سره الخاص.

إن الرجل الذي تزوجته هو إلى حدٍ بعيدٍ شخصية معقدة على نحو مذهل في كيفية قيادة حياته الخاصة متعددة الثقافات. لقد تمرّس قليلاً خارج نطاق أسلوب حياة الطبقة المتوسطة في الهند، ولكنه يرى نفسه كأنه أكثر من منتج للثقافة والقيم الغربية العالمية.

تخضع ليلى طواعية لطقوس الزفاف، وللدور الذي يبدو أنها تطوعت للقيام به، بعد تمرد أولي قصير. غير أن الزواج لم يتم طوال شهر بعد المراسم التي بدت مهرجانية بهيجة ورائعة كطبيعة الهند. أصبح أنسباؤها البديل عن أبويها. يمطرونها بالحب والمودة. قبلت سمير إلى درجة أنها وقعت في حبه لاحقاً. لكنها لم تعرف أن وسامته وفحولته يخفيان سراً مستحيلاً شنيعاً.

كانت تعرف أنه يستغلها للوصول إلى أمريكا. وكان كذلك طوال الرحلة إلى مدراس لقضاء شهر العسل والحصول على التأشيرة الأمريكية. ولكن سر الزوج يتخذ وجهاً آخر عند شهر العسل، حيث الأشياء تبدأ بالكشف عن بواطنها، عند الانفراد به للمرة الأولى والأمطار الموسمية الثقيلة تهطل من حولهما. لقد أصبحت وجهاً لوجه مع سر زوجها. والمصادفة تهدد بتمزيق آمالها المستقبلية معه.

تبدأ محاولاتها لترك الزوج، فيحبطها أنسباؤها وزوجها. ولا يؤيدها أعمامها العديدون وعمّاتها الذين وطدوا أشد الأركان سعادة في عالمها قبل الزفاف وأثنائه.

يقبل الزوج بعروسه على الرغم من ماضيها. لكن العروس تكتشف أن هذا القبول ناجم عن شيء ما غير الأحاسيس المجردة. وبلغة حاذقة ومحملة بالظلال، تؤكد الكاتبة أن كل شخصياتها متشبثة بالمعتقدات ونظم السلوك التقليدية، ومع ذلك يبدو أنهم نسوا المعنى الحقيقي لتلك المعتقدات في عالم الثقافة الغربية والمستغربة باضطراد. وبينما تعتاد ليلى على دورها الجديد بوصفها زوجة تقليدية، تبدأ بمساءلة تربيتها المتأمركة، بطعامها الجاهز وأسلوب حياتها الشبق.

الزمان والمكان والمرأة
على الرغم من إشارة العنوان إلى مدراس، فإن أحداث الرواية تدور في حيدر آباد، ما عدا وقت شهر العسل. أما زمنها فهو مطلع فصل الأمطار الموسمية في الهند. عندما تخلق الأمطار الغزيرة والحرارة الشديدة جواً خانقاً وضاغطاً يصعب تحمله. ويتوازى كل ذلك مع الضغط الذي ترزح تحته بطلة الرواية، والرؤى النافذة والمثيرة لحياة بنت هندية مسلمة عادت من الولايات المتحدة إلى مدينتها القومية، عودة أشبه بالعودة الأيديولوجية، خاصة بعدما استشعرت في نفسها محبة لزوجها سمير، كما أشارت إلى مواطن الخطر التالي في انصراف سمير عنها إلى البحث عن منافعه وإشباع رغباته.

فالرواية بوصفها التفصيلي للأشياء الداخلية، وتأكيدها على حياة النساء في البيت، تنقل عملياً هذا الشعور بالحياة الموجهة التي تعيش تحت سيطرة قانون التقليد.

إنه جانب من عالم الهنود، النساء بالدرجة الأولى. فالنساء هن الفاعلات الحقيقيات في هذه البيئة التقليدية. الخادمة العائلية المخلصة الكبيرة في السن نافذة دائمة الحضور للمشاركة بالرأي، والخبرة وتقديم المشورة، وهي التي تحذر ليلى من مصير هذا الزواج. وهناك عدة خالات، وبنت العم، وحِنَّة، وذيبة، والعمة… تقول ذيبة: “النساء سلع معروضة. يعرفن أنهن سيبعن، ويتطلعن إلى ذلك”. وتقول لليلى: “الزوجة تبقى مع زوجها مهما حصل”. وأم ليلى التي كانت قد نُبذت وطُردت، ليست هي نفسها مجردة، لكن جنسها الأنثوي كله أُذّل معها… وضمن هذه المنظومة النسائية هناك ليلى في القلب. ليلى التي تتحرك كل الشخصيات تبعاً لحركتها، وتصعّد مسيرتها الدرامية.. فليلى ضحية سيطرة القوى التي لن تتركها تفلت منها.. هذه القوة هي قوة الرجال. فتقول عن والدها: “بدأ يضربني عندما كنت في الثانية من عمري، وتوقف فقط يوم زفافي”.

قصة امرأة أم قصة وطن؟
لقد قدمت الكاتبة في روايتها حكاية معقدة عن محاولة امرأة الهروب المادي والمعنوي ليس من بل إلى كيان واحد هو ذاتها، ورأب الصدع الذي خلفته في نفسها حياة مجزأة إلى شطرين بالتساوي. فالرواية تؤرخ فترة شهرين من حياة هذه البطلة الأمريكية المسلمة، التي تسعى إلى تنسيق عواطفها ومعرفتها الذاتية بالأدوار المطلوبة منها – ابنة مطيعة، زوجة عفيفة، كنّة مثالية – كما تحددها العائلة والوسط الاجتماعي.

تقول الكاتبة على لسان بطلتها: “جدران عالمي التي أخذتُ قروناً لبنائها يأتي زمن انهيارها.. خسارتي الحقيقية كانت عذريتي”. وهذا يدفعنا إلى التساؤل: “أية قرون عاشتها ابنة الأعوام التسعة عشر؟”. إذن على القارئ أن ينفض يديه من الرواية التي تحكي عن فتاة اسمها ليلى، ويعود إليها متأهباً لقراءة رواية عن وطن أو أمة خسرت الكثير عندما بذلت نفسها للغرباء. وها هي تسعى إلى لملمة ما تبقّى من كرامتها، من خلال العودة إلى هويتها الحقيقية والأصيلة. ويتمثل هذا المسعى فيما تبديه ليلى من ندم على سلوكها القديم في أمريكا، وخسارتها التي تصفها بأنها “خسارة العمر”. وهذا ما يفسر شخصية الرواية ككل وموضوعها وتاريخ تأليفها الذي تقول عنه المؤلفة: “لقد أعدت كتابة الرواية كلياً من الغلاف إلى الغلاف في ستة أشهر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر”. إذ أن القضية المطروحة هي قضية ثقافية وحضارية بالدرجة الأولى.

من المحلية إلى العالمية
رغم بعض العثرات
لقد حرّكت الكاتبة شخصياتها بالإشارة والإلماح في ذكاء أدبي باهر، مستغلة طاقة اللغة الإيحائية. وقدمها هذا الأسلوب أميالاً في طليعة مجموعة شهيرة من الروائيين، لما تمتلك من سهولة في تدافع الأفكار وأسلوب العرض، واليسر في النقل والتخزين في عقل القارئ.. فهي كاتبة ذات ذهنية مرتبة، وقد انعكس ذلك على جلّ أجزاء الرواية.

وتجلت المقدرة الفنية للكاتبة في سرد قصتها حول الثقافة والتقاليد من دون تشويه موضوع الرواية الذي يكاد ينحصر في مسلمي حيدر آباد المعاصرين. فالمؤلفة تحشد الكثير من التفاصيل حول الحياة المعقدة لبني جنسها في روايتها، من دون أن تغفل عن ثقافة المتلقي الرئيس للرواية المكتوبة بالإنجليزية، أي لجمهور عالمي.

في نهاية الرواية، تنفجر التوترات الطائفية وتطل برأسها القبيح. لكن الكاتبة بذكائها الفني لم تشأ أن تكثف دور هذا الصراع فبدأ سرد الحادثة عرضياً، وإن كان مهماً للرواية لأنه يطرح مسألة الصراع الداخلي الموازي للصراع الخارجي. فنتيجة هذا الصراع، ساد الشعور برهبة الموت المؤكد لدى ليلى وذيبة، الحبيستان في غرفة داخلية، بينما الرجال في الخارج.

إن العلاقات ما بين المسلمين والهندوس ليست موضوع الرواية، فليس هناك تراض لشخصيات أو عقائد الطائفتين. وفي الحقيقة نلاحظ عند قراءة هذه الرواية أن الكاتبة أرادت أن تعرض الحياة في الهند وكأنها بلد للمسلمين وحدهم. وفي ذلك السياق سردت وقائع ليلة الاشتباك مع الهندوس، رغم أن النقلة جاءت قوية وعميقة أكثر من المتوقع. فالتأثير السطحي لهذه القلاقل على مسيرة السرد يكمن في الهامش المأساوي للاضطراب الاجتماعي.

لكن الرواية تعاني من بعض المشكلات المتوطنة في الروايات الأولى. فالكاتبة تنحى أحياناً تحت وطأة شؤونها الخاصة، كما أن بعض رموزها أصيب بالافتعال. وهناك احتلال الكاتبة للبطلة وفرض منظورها الفكري عليها. فصوت ليلى يتردد طوال الرواية حكيماً إلى درجة لافتة للنظر، يكون أحياناً أبعد من سنوات عمرها، ففلسفتها ناضجة جداً بالنسبة إلى ابنة تسع عشرة سنة. ولو لم يذكر عمرها، لاعتقد القارئ بأنها في منتصف الثلاثينيات. فهي لا تغضب على أبيها المتعسف، ولا على أمها وأقربائها الذين أجبروها على القبول بهذا الزواج.

كما أن الصدق الذي تتكلم به ليلى مع الجميع يبدو غير واقعي. ومن الأمور المشابهة البعيدة عن الواقع وغير المقبولة في الرواية تصويرها لبشاعة وقسوة أبيها الذي يذبح خروفاً بالمنجل لإعداد وليمة زفافها.. إضافة إلى ذلك، فإن الكتاب يحتشد بالكلمات الأوردية والعربية التي كان يمكن للمؤلفة أن تترجمها إلى الإنجليزية. وإن كانت تلك الكلمات تضيف إلى ألوانها الغنية ونكهاتها ونسيجها، إلا أنها تختلق طرقاً عديدة وغريبة في تهجئة هذه الكلمات. وعلى الرغم من الأمور المروّعة التي تحدث لليلى والناس من حولها، فإن العالم من حولهم يبقى زاخراً بالحياة النابضة بكل جمالياتها، ولكن هذه العيوب يسيرة وقليلة في رواية تتمتع بمثل هذه القوة والاعتدال. فالشخصيات تواصل حركتها وتصاعدها الدرامي طويلاً، حتى بعد قراءة الصفحة الأخيرة من الرواية.

إن “مدراس في أيام مطيرة” أداء باهر لصوت جديد ومدهش. لذا يمكننا القول إن سامينا علي صوت جديد قوي في عالم الرواية الإنجليزية. و”مدراس في أيام مطيرة” حكاية حزينة ومهمة. قد لا تكون رواية عظيمة، لكنها ذات قامة باسقة لأنها تعرض لقرّائها تصويراً باهراً لأزمة ثقافية كما تعانيها امرأة شابة.

سامينا علي
ولدت في حيدر آباد بالهند عام 1969م، وهاجرت مع أبويها إلى أمريكا عندما كان عمرها ستة أشهر. تابعت دراستها الجامعية في مينسوتا حيث حازت على بكالوريوس الآداب، وحصلت لاحقاً على شهادة الماجستير من جامعة أوريغون.

نشرت كتاباتها في عدد كبير من الدوريات الأمريكية، كما أصدرت بعض الأعمال، ومنها “كلمات مهمة.. محادثات مع الكتّاب الأمريكيين الآسيويين” و”شؤون ثقافية، القراءة والكتابة في الموجة الثانية لتعدد الثقافات”. حصلت كتاباتها على مِنح من كل من صندوق باربارا ديمنج التذكاري، ومؤسسة روناء جافي، وهي عضو في “لجنة القلم.

تعيش سامينا علي حالياً مع ابنها الذي يبلغ من العمر ست سنوات في كاليفورنيا.

قبل سنة واحدة
فصل من رواية مدراس في أيام مطيرة
في الخارج ، أصبحت شوارع المدينة القديمة أضيق وأضيق، والمساكن الإسمنتية أصغر. في هذه الأجزاء، لا تمرُّ حتى عربات “الركشة”، لذا جعل صوت سيارتنا البطيئة الأطفال يندفعون بمؤخرات عارية، يتقافزون خارج مداخل الأزقة ويلاحقونها من الخلف، وبعضهم يلوح بالعصي. استحوذ علينا الصمت في غمرة ضحكهم. كان هناك مطر خفيف، على الرغم من أن الغيوم هنا وهناك تبددت وأشرقت الشمس على السفح تماماً، إنها تباشير يوليو في الهند، والرياح الموسمية كانت تنطلق راحلة.

وعلى الرغم من المطر، كانت نافذة خالي مفتوحة وذراعه السميكة مستقرة خارجها. الشعر الأسود أصبح مبللاً وملتصقاً إلى جلده الشوكولاتي، ذراعه الأخرى مرمية على طول المقعد الخلفي وأصابعه قريبة من ظهر أحمد النحيل. تنبهت لميل أسطوانة مقعد السيارة الفينيل وانتظرت لأرى هل هو مس أحمد فعلاً؟، الرجال يفعلون ذلك هنا، يلاطف أحدهم الآخر بصراحة، وما من أحد يعرف على وجه الدقة ماذا تعني تلك اللمسات حقاً، ولا حتى الرجال أنفسهم… أو عرائسهم المقبلة. في الشوارع، رجال يشتبكون بالأيدي ويلفَّون أذرعهم حول الخصور عندما يمشون، هذه الظاهرة تحصل في الهند وأمريكا على السواء. وهذه الاختلافات في الثقافات، تسبب تشويشاً كثيراً لدي، كلما وصلت إلى الهند أو الولايات المتحدة، بعد قضاء نصف سنة. كانت مثل تشكيل صفحة، ولا أعرف ما إذا كان عليّ أن أبدأ بقراءة المخطوطة من اليمين إلى اليسار أم من اليسار إلى اليمين؟ الأوردو أم الإنجليزية..؟. وعلى الرغم من ذلك، فالاتجاه الذي أختاره دائماً يصنع اختلافاً. قال خالي الأكبر: “هنا.. هنا”، واعتصر كتف أحمد ثم أشار يساراً نحو زقاق يبدو مثل غيره من الأزقة : “استدر هنا”.

أوقفَ أحمد السيارة وأخرج رأسه من النافذة.

“أنا لا أستطيع الدخول إلى هناك، صعب، السيارة ستنحشر”. قال لخالي الأكبر.
“لا..، لا..، أعتقد أن هذا ممكناً.. استمر، استمر”.
“أنا لا أعتقد ذلك، إنه صعب، انظر كيف يضيق الممر، وحتى إذا دخلت السيارة، كيف سيكون أيّ منكم قادراً على الخروج؟”، ثم ضحك. من الخلف كان شعرهما طويلاً ومتموّجاً ، يغطّي العرق خلف رقبتيهما.

اتكأنا أمي وأنا للأمام. كان صباحاً باكراً ليوم جمعة، اليوم المقدس للمسلمين، لذا فالشوارع كانت خاوية على غير العادة، وجعلهم ذلك مكشوفين كلياً. تفحصت الممر الضيق الذي يقع بين صفين من البيوت الصغيرة جداً. لكني لم أستطع التأكد ما إذا كنا مهيئين أم لا. السيارة من نوع فيات كانت أصغر من بي إم دبليو التي أقودها في مينيابوليس لذا أنا لا أستطيع أن أثق برأيي.

تقول أمي:”حاول الدخول بقدر ما تستطيع يا أحمد”. “خذنا إلى أقرب ما يمكن”.
“أنا لا أعتقد أن السيارة سوف تدخل” قال أحمد ذلك وهو يستدير في مواجهتها.
“أعرف ما يمكن أن يكون ملائماً وما لا يمكن يا أحمد. فقط أدخل إلى أبعد ما يمكن، أنا لن أمشي متعثرة في هذه الشوارع، ماذا سيقول الناس إذا رأونا؟”.

“لكن ذلك مستحيل…”.
أمره خالي الأكبر: “افعل ذلك”.

تنهد أحمد وأدار السيارة، فضحك الأطفال وصاحوا ثم قرعوا الصندوق براحاتهم المفتوحة، المعدن يردد الصدى، تمتم أحمد بأنه لا يمكن لأحد أن يعرف أمي وأنا ما دمنا ملتحفتين بعباءتينا، ونحن تظاهرنا بعدم سماع أي شيء. كان الشارع مرصوفاً بالحصى، وأنا افترضت أنه كان قد بُني خلال زمن نظام الدين. اليوم، لا شيء في تلك الأزقة الخلفيّة سوى ممرات قذرة. المحرك يئن، لكن السيارة تقدمت ببطء وحسب، بينما تظاهر الأطفال بدفع السيارة الفيات من الجوانب والخلف، قادنا أحمد نحو خمسة أقدام ثم أطفأ المحرك تماماً، والأطفال اللاهون يزداد صخبهم.

على جانبينا كانت البيوت الإسمنتية البيضاء مصطفة، الأسقف من الألواح المعدنية المتموّجة، النوافذ موصدة، المصاريع الخشبية مفتوحة تماماً لتجتذب أي هواء هناك. كل عشر أقدام أو أكثر باب مختلف اللون، أزرق، برتقالي، وردي، ظلال صفراء، كل لون يمثل بيتاً مختلفاً.

“أنا سوف أتوغل لبقية الطريق وأرى إن كان في الداخل”، عرض علينا خالي الأكبر ذلك، كان لهُ وجه حاد بحواجب سميكة.

أومأت أمي، ورمقني خالي بنظرة سريعة، عندها حاولت أن تطفر على وجهي ابتسامة. حدقتُ فيه، معروف أنّه لا يستطيع أن يرى أي شيء سوى عيني لذا أنا لا أحتاج لتعبيرات الوجه، فتح الباب الذي ضرب حائط بيت، وخرج بصعوبة. راقبت قميصه، مربعات الأسود والأحمر تختفي حول الزاوية بينما يتوغل داخل الممر المقوس.

“إنهم يسمون هذا الممر ممر الفيل” أحمد قال ذلك وهو ينعطف نحونا، شفاهه كانت داكنة من التدخين، “إنه مشهور لأن فيلاً لم يستطع حتى أن يعبر. فانحشر هناك” أشار في اتجاه خالي الأكبر الذي أقفل راجعاً، “استغرق الرجال أربع ساعات لسحب الحيوان الأخرس”.

قلتُ: “الناس هنا يجبرون الأشياء دائماً على الحدوث”، وأخذت أفحص بدقّة الجدرانَ المُغَطّاة بحثاً عن أية آثار جلدية أو دم، لم يكن هناك شيء (…).
أوضح أحمد: “لقد حدث بسبب زفاف “.
غمغمت: “يحدث كلّ شيء هنا بسبب حفلات الزفاف”.

استمر السائق متكلماً، “العريس كان يركب الفيل لمقابلة عروسه في نهاية الشارع، فرقة الزفاف كاملة كانت هنا، كما ترون، وهم كانوا يلعبون على أبواقهم ويقرعون طبولهم بينما كانوا يقتادون العريس، بهذه الطريقة يعرف الضيوف والعروس أن العريس قد وصل. أنت سوف ترين ذلك خلال يومين فقط…”.

“أحمد..” حذرته، لم أكن في حالة تسمح لي بمناقشة أمر زفافي. “أنت دائماً تتكلم أكثر من اللازم”.
قال: “آسف يا آنسة ليلى”، وابتسم. كنت متأكدة أنه يعتقد بأنني كنت أتصرف بخجل كمن صارت عروساً، لذا تكبح جماح الكلام عن الحدث القادم – لأنه يعني فقدان البكارة في ليلة الزفاف – وأنا تركته يعتقد هذا.

الأطفال واصلوا الضرب على صندوق السيارة، صوت دوي المعدن يستدعي النساء إلى المداخل والنوافذ، كن يرتدين أثواب الساري القطنية القديمة، وإحداهن حملت طفلاً بين ذراعيها، عيناه خُططتا بالكحل الأسود كيلا يلفت الطفل انتباه العين الحاسدة. وقفن وحسب خارج سيارتنا وراقبننا.

أحكمنا أمي وأنا القبضة على القماش الأملس صوب وجهينا. اختفت أمي تماماً داخل حجابها الذي يظهر نصف عينيها وحسب .
…..

السيارة تتأرجح بينما يتدافع الأطفال صوبها، معدتي بدأت تتمغص تماماً من هذه الحركة الطفيفة، وأنا درت وحدجت الأطفال المزعجين بنظرة ازدراء، فلم يروني.

بدأت أمي تهمس بالدعاء لإنقاذي، عيونها مغلقة، قماش الحجاب يتموج قبالة شفتيها، وأنا أدركت أن لا شيء يمكنها أن تفعله الآن لإنقاذي.

“دع الأطفال يبتعدون”، أمرت أحمد، خدوده الداكنة كانت مغطاة بندبات البثور.
أخرج رأسه من النافذة وصرخ فيهم. صرخوا راجعين، ثم واصل أرجحة السيارة.
قالت أمي: “هؤلاء أطفال مقرفين”، وأكملت “هؤلاء الأمهات ينجبن الأطفال ثم يلقونهم في الشوارع، لا تهذيب، لا اهتمام، دع كل ما يحدث يحدث، ثم يتساءلون لماذا الهند لا تصنع تقدّماً .. أف!” وبصقت خارج النافذة لتُري النساء احتقارها. ثم غطت وجهها بسرعة.

قال أحمد: “انسيهم”، محاولاً مواساتها. “ليسوا سوى أطفال أزقة وحسب”.
قالت: “أنا لا أعبأ بهم. أَنا قلقة بشأن السيارة”، ومالت إلى الخارج وصرخت في الأطفال. “ابتعدوا عن السيارة، أنتم لقطاء!”، فتوقفوا عن تعقبنا فوراً، استدرت ورأيت ثلاثة أو أربعة كانوا يجلسون فعلاً على السقف وينزلون من على النافذة الخلفية، أفخاذهم النحيلة كانت تضغط مباشرة على الزجاج، “من الذي سيدفع ثمن الأضرار؟ أبوك؟”.

“ابتعدوا وإلا سوف أخرج وأستعمل تلك العصي فوق أجسامكم”.
ضحك الأطفال، هناك يجب أن يكون لديك عشرة منهم. قمصانهم النايلون أصبحت مبللة وشعرهم المثبت على تيجان رؤوسهم يجعل آذانهم بارزة.

“ساهير”، نادت إحدى النساء من مدخل بيتها. أسندت راحتها على طرحتها عندما تطلعت صوب فوق السيارة نحو الأطفال: “افعلوا مثلما تقول السيدة وأوقفوا اللعب بالسيارة”.

خيّم الصمت. بعدئذ أمر الولد الذي يفترض أن يكون ابن ساهير، الآخرين بالابتعاد. فقفز الآخرون من فوق السقف، وثَبَتْ السيارة.
تحركت أمي إلى الخلف، وجلست مستقرة فوق المقعد. قالت: “عجيب أمركم..، لم أر أبداً مثل هؤلاء الناس الجهال”.

“استمعن جيداً”. بدأ أحمد ثانية: “العريس كان متلهّفاً جداً على الزواج، وثب من فوق مؤخرة الفيل وركض إلى المسجد – من دون الفرقة الموسيقية! كانوا على الجانب الآخر ولم يروه حتى عندما ذهب..”.

قالت أمي: “أحمد، أوقف ثرثرتك… أنت تجعلني أزداد غضباً”.
“أنا أحكي قصة وحسب؛ لتهدئة الآنسة ليلى”.
“الآنسة ليلى ليست بحاجةٍ إلى تهدئة، لماذا تعتقد ذلك؟”.
قال: “بالطبع ليست بحاجة إلى ذلك” وابتسم.

هكذا، هو الآن سيخبر الجميع، الخدم دائماً يفعلون ذلك. فأنتِ لن تستطيعين حفظ أي أسرار عنهم، ألمحتُ إلى أمي، لكنها لم تلاحظ ابتسامته. لقد ازداد قلقها وكانت تتفحص هذا الطريق وذاك، تنظر للخلف ثم إلى الأمام.

سألتْ: “متى يرجع؟.. أنت لا تستطيع ائتمان أي شخص بأي شيء، يعرف أننا لا نستطيع أن نُرى هنا، وما زال يأخذ وقته”.
قلتُ: “لا يستطيع أحد التحقق منك وأنت تحت الحجاب”، كنت أحاول معالجة الموقف، “حتى أنا لن أكون قادرة على ذلك”.
“لا تكوني ساذجة هكذا يا ليلى، كل الناس يعرفوننا” طقطقت مفاصل أصابعها مرةً أخرى ولفتها فوق فخذها، كانت تنتهج هذا الأسلوب طوال الصباح، منذ أن أخبرتها عن نزفي واقترحت بأن نلغي الزفاف. “شخص ما قد يعرف حتى هذه السيارة”، استمرت: “أو أحمد… أحمد!”، اتجهت إليه: “توقف انظر هنا وهناك، أخف وجهك”.

قال: “لا تقلقي يا سيدتي”، وابتسم ابتسامة عريضة. “لا أحد سيعرفني”.

“إذا لم تتوقف عن المجادلة معي يا أحمد، فسوف أسرحك وآتي بسائق آخر، أنت لست سوى واحد في دستة، لا تنس ذلك”.

ازداد وجهه جدية وهو ينكب مطأطئاً وراء عجلة القيادة. وسررت لأنها أسكتته.
قالت: “ولا تخبريني، أنك لا تعرفين أمك التي أنجبتك”، أشاحت بوجهها بعيداً عني. “لك مثل هذا اللسان الحقود، جاحدة جداً – كأبيك، كل يوم تزدادين أكثر فأكثر شبهاً به، لا تعبئين بما أفعل ولا ترينه. عمياء تماماً، كلاكما على الشاكلة نفسها”.

أنا، أيضاً، نزلت في مقعدي وتطلعت بذهن شارد خارج النافذة الأمامية إلى ما بعد ضيق الممر، مع ذلك عملت كل ما يمكن عمله لكي لا أكون مثل أبي – بما في ذلك الموافقة على هذا الزواج – أنا لم أعد أستطيع القول إنها كانت مخطئة.

أضف تعليق

التعليقات