أنت في طريقك للخروج من محطة المترو.. تلاحق بعينك لوحة EXIT حتى تصل إلى المخرج الكبير الذي يندفع منه الناس إلى الشارع العام. تطل عليك الأبنية الشاهقة فتشعر وكأنها تصدك وتدفعك إلى الخلف، يعززها ضجيج لا قرار له. تنتزع نفسك من صدمة الصخب وتسترجع قواك لتعبر الشارع في مواجهة السيارات الزاحفة من كل صوب كالأنهار. إلى يمينك كشك لبيع الصحف والحاجيات الصغيرة، وعلى بعد ماِئةِ متر ترى مقهىً مزدحماً بالطاولات الصغيرة وسط الأضواء المتلألئة في واجهات المتاجر وناس كثر أينما كان. أنت إذاً في وسط المدينة.!
سرّ المدينة وسحرها
كانت باريس منظر بهيج وساحر، وخصوصاً في ذلك النهار، عندما تراها من قمة أبراج نوتردام تحت الشعاع الأول لفجر أحد أيّام الصيف. على الأغلب في أحد أيام يوليو. السماء زرقاء صافية. وضوء نجوم متلكئة يخف تدريجياً في بعض النقاط، كانت إحداها شديدة اللمعان في الشرق، في المنطقة الأكثر إشراقاً من السماء. الشمس على وشك الظهور؛ وباريس قد بدأت تحرك. بفضل ذلك الشعاع شديد البياض والنقاء، تراءى للأعين بوضوح شديد مناظر كونتها آلاف البيوت من ناحية الشرق. وكان الخيال العملاق لهذه الأبراج يثب من سطح إلى سطح، ومن أحد أطراف تلك المدينة العظيمة إلى طرف آخر. وقد بدأ يسمع الضجيج وبعض الأصوات من عدة أحياء .
فيكتور هيجو
من رواية أحدب نوتردام
سرّ المدينة وسحرها
تقف على رصيف .. تمرّ من تحته شبكات مياه وكهرباء وهاتف وصرف صحّي، لكنك لا تشعر بوجودها، تماماً كما لا يشعر الإنسان بجريان دمه وحركة حواسه ونمو شعره! أمامك الشارع المنتظم فيه إشارات ضوئية وعلامات عبور إلى الرصيف الآخر. وعلى هذا الرصيف أبنية، على مستوى نظرك تصطف محلات قد يكون فيها اللحّام والخبّاز والصيدلي والبقّال وبائع الثياب والعطّار. ثم هناك مزين الشعر والمكتبة وغيرها مما يلبّي حاجات الناس اليوميّة.
تمر أمامك العربات بأشكالها المختلفة والسيارات الخاصة، سيارات الشحن ووسائل النقل والدراجات والعربات المحملة بمختلف السلع. وبقربك على الرصيف غرفة هاتف عام وصمّام بارز لمياه الإطفاء. وإلى كل ذلك أُضيفت اليوم أجهزة الصرّاف الآلي وماكينات لبيع المشروبات والمأكولات. أما إذا عبرت الطريق إلى شوارع أخرى تمر أمام المطاعم والمقاهي ومراكز الشرطة والأبنية الحكوميّة والمصارف ومكاتب الشركات حتى تصل إلى المسارح والمكتبات العامة والفنادق، ناهيك عن المتنزهات والملاعب الكبيرة والمدارس والجامعات والمستشفيات. كل هذا تعطيك إيّاه المدينة في مسافة قد لا تتعدى كما يقال بالمثل العامي رمية حجر ، أي السير على الأقدام لمدة وجيزة أو في أسوأ الأحوال رحلة قصيرة في سيارة أو وسيلة نقل عام.
سر المدينة هو في قرب الخدمات من بعضها. وهي التي قامت في الأصل كي تكون مركزاً لتبادل الحاجات والخدمات بحيث يسد الإنسان كل حاجاته ومتطلباته مقابل ما يقدمه من جهد منتج. إذا كان السر في توفّر الحاجات والسهولة في تحقيقها هو من أسرار انجذاب الناس إلى المدن، فلها إضافة إلى ذلك سحراً عجيباً.
سحر الازدحام
سحر المدينة هو أولاً في الازدحام نفسه. ففي حركته وضوضائه جاذبيّة آسرة للنفس البشريّة، إضافة إلى أنه انخراط في الكثرة وشعور بكونك جزء من جسد شديد الحيويّة، قوي النبض ثري في تنوّعه وسرعة تغيّره. ولكل ازدحام في المدينة طعمه الخاص. فهناك ازدحام توجّه الناس إلى أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم في الصباح، وازدحام عودتهم إلى المنازل والخروج مجدداً إلى المطاعم وأماكن الترفيه، وازدحام المباريات الرياضيّة والمهرجانات والاحتفالات وغيرها.
من وَسط هذا الازدحام تراك تَصل إلى مقعدٍ هو بدوره عمق هذا السحر… فضوضاء الازدحام العام والعارم تعود وتنتظم لتأخذ أشكالاً جديدة ضمن قاعة المطعم أو المقهى أو المسرح والسينما أو ساحة الملعب الرياضي.
هذا هو سحر المدينة الذي لا يخبو، بل يشتد توهجّه كلما كانت المدينة أعظم شأناً وأشد حيويّة وبهجة. والحياة في المدينة المعاصرة تندفع إلى وسطها وتخرج منه مرتين يومياً.. مرّة في النهار ومرّة في الليل.
ليل المدينة ونهارها
ليل المدينة غير نهارها. ففي نهار المدينة أقسام واضحة، أما ليلها فواحد. هناك فجر المدينة.. وفجرها قصّة. وهناك صبح المدينة. وصبح المدينة قصّة أخرى.. ثم هناك ظهر المدينة حين يصل صخبها إلى ذروته ثم يبدأ بالتلاشي رويداً رويداً عند المغرب، لتأخذ إجازة قصيرة قبل أن يبدأ ليلها. نور النهار غير أضواء الليل. نور النهار صريح وأضواء الليل مريبة غامضة وهي علامات وإشارات ودعوات يجهلها النهار.
…أما فجرها
ولفجرها نوره وناسه. الفجر الصامت الهادئ تخترقه أصوات قليلة وواضحة. إنها أصوات أناس آخرين لا يراهم غيرك والفجر. منهم شراذم أهل السهر المتأخر الذين خرجوا لتوهم مع إقفال الملاهي لأبوابها ليتسكّعوا إلى مقهى أو ملاذ آخر. ومنهم فئات كادحة تهيئ للمدينة يوماً جديداً. مزارعون يحملون محاصيل اليوم في سيارات أو عربات لا ترى شبيهاً لها أثناء النهار، إلى المطاعم والباعة. ومثلهم صيّادو الأسماك وبائعو الزهور، وإلى جانبهم أصناف من العمالة التي تبدأ عملها وتنهيه قبل أن تصحو المدينة، وكأن المدينة ربة بيت مدللة تُهَيَّأُ طلباتها باكراً. وبين الفجر وساعات الصباح الأولى تتغير حال المدينة كل دقيقة. فما إن يُنهي روّاد الفجر دورتهم، حتى يحين وقت إنصراف موظفو الأعمال المبكرة وطلاب المدارس البعيدة. ثم يزداد الازدحام بموظفي الأعمال العادية، إلى أن يأتي موعد دوام المديرين وكبار المسؤولين.. فإذا حلت التاسعة يكون نصاب العمل النهاري قد اكتمل.
مدينة المال.. ومدينة الفكر والفن
تتسابق المدن لاحتكار ما استطاعت في ميداني المال والفكر.. ولهذا يُشَدّ الرحال إلى المدن، فإلى جانب التجار ورجال الأعمال، هناك الأدباء والفنانون من فن العمارة حتى الرسم والموسيقى والغناء. وقد عرفت بعض المدن بنوع واحد من الفنون وغدا كأنه حكر عليها.. باريس الرسم والفنون الجميلة والأزياء.. وفيينا الموسيقى الكلاسيكية.. والقاهرة للموسيقى العربية.. ونيوأورلينز موسيقى الجاز ولندن الفروسية والخيل.. وأمستردام عاصمة الزهور.. وبعض المدن شجعت الفكر والتيارات الفلسفية وبعضها اعتبرت عواصم للأديان والمعتقدات. وبعض المدن تستعيض عن ذلك بمهرجانات واحتفالات موسمية ومعارض، مثل الريو دي جينيرو وفرانكفورت وصولاً إلى دبي بمهرجانها المعروف.
كانت مقاهي المدن ملتقيات لتبادل الأفكار والميول والإتجاهات، وبعض أعظم فلاسفة العصر الحديث وأدباؤه ارتادوا مقاهي أصبحت أشبه بزوايا الطرق..
مدينة الضيف ومدينة المُضيف
تختلف نظرة الزائر إلى المدينة عن نظرة أهلها لها، فقد يحب ما يكرهون ويكره فيها ما يحبون. وقد أصبح لدى زائر اليوم رغبة عميقة في أن يكتشف أسرار المدينة التي يزورها، وأن يتعرف إلى ما هو خلف الوجبة السياحية التي تقدم له ولأي سائح آخر. وتراه يحرص منذ وصوله على البحث عمّن يدله إلى المدينة الحقيقية ، مدينة المُضيف لا مدينة الضيف، مدينة المقيم لا مدينة الزائر العابر. يريد أن يذهب إلى أحيائها غير السياحية، ومطاعمها غير السياحية، بل وأن يتعرف إلى أهلها غير السياحيين . ومما يشبع رغبته تلك أن يُدعى إلى بيت عادي، ويأكل وجبة تعدّها أم لأولادها. فيشعر عندها أن المدينة أكرمته وائتمنته على أسرارها وفتحت له أبوابها بالفعل!
طلع الصباح، فما ابتسمتُ
ولم يُنِرْ وجهي الصباحْ
وخرْجتُ منَ قلب المدينة،
أطلُب الرزق المتاح
ورجعت بعد الظهر، في جيبي قروش
فشربت شاياً في الطريقْ
ورتقت نعلي
ولعبت بالنرد الموزع بين كفي والصديق
قل ساعة أو ساعتينْ
قل عشرة أو عشرتينْ
أبيات لصلاح عبدالصبور فيها
تصوير لمشاعر إنسان المدينة العامل
مدينة التوقعات الكبيرة
يستغرب المرء أحياناً أن فلاسفة عصور غابرة حاولوا وضع تصور للمدينة الفاضلة بدءاً بأفلاطون، الفيلسوف اليوناني في كتابه الجمهورية . منهم كذلك الفيلسوف العربي الشهير أبو النصر الفارابي الذي رسم رؤاه لهذه المدينة التي يقصد الاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تُنَال بها السعادة ويقول فالانسان محتاج في معاشه وشؤون حياته إلى أشياء كثيرة، غير أنه ليس بقادر على توفيرها بمفرده . ومن أهم ما ورد على لسان الفارابي أنه يحدد للمدينة حداً أدنى من الحجم. و يرى أن الخير والكمال الأقصى إنما يُنَال أولاً بالمدينة، لا بالاجتماع الذي هو أنقص منها، على هذا تكون المدينة هي أصغر وحدة سياسية يمكن بالاجتماع فيها أن يبلغ الإنسان سعادته المأمولة .
لا شك أن العصور القديمة قد شهدت مدناً عظيمة بعضها نما وتوسع حتى كاد يشبه المدن المعاصرة. ومن أقصى الشرق إلى الغرب من الصين والهند إلى أثينا وروما شهدت العصور الغابرة ظهورَ مدنٍ واضمحلالها كأهم دليل على صعود وأفول نجم الممالك والإمبراطوريات.
مدينة العصر بداية أُخرى
كانت المدينة القديمة امتداداً للريف الزراعي وتجمعاً رسمت الجماعة، وعلى رأسها سلطانها، شكله ووظائفه. أنت في مدينة التاريخ الغابر، عضو في جماعة ودورك ضمن الجماعة، زارعاً أو صانعاً أو محارباً. والمدينة القديمة نمت بنمو قدرات السلطان وازدياد ثروته واستمرت أسيرة للمحصول الزراعي في توافره وشحّه. على النقيض من ذلك تماماً، نشأت المدينة المعاصرة بفعل إرادة أفراد، خرجوا من البيئة القديمة والمجتمع القديم، وخطّوا لأنفسهم طريقاً خاصاً.
خرجوا تجاراً وحرفيين، واستوطنوا بيوتاً على جسور الأنهار سمِّيت أبراجاً. وتصرّفوا كأفراد أحرار من الأنماط القديمة ليؤسسوا حياة جديدة مختلفة. وكانوا بذلك مثالاً للنمط الإنساني الذي طبع العصر الحديث.. إنسان المبادرة الفردية. من هذه المبادرة نبتت ذهنية التخصص والابتكار والطموح والحلم الذي لا يقف عند حدود. لكن الإنسانية التي اختارت هذا النمط لتأخذ منه صيغة حياتها في كل مكان، وجدت نفسها وبكل فرد من أفرادها أمام صعوبات وتحديات لم تجد حلولاً لها حتى يومنا هذا.
ذروة كل شيء
زينت المدينة المعاصرة منذ نشوئها للإنسان آمالاً كبيرة وتوقعات وأحلام، فهرع الناس لها بأعداد لا حصر لها، كلٌ يحمل في جعبته حلماً وخطة نجاح. واكتظت المدن بالساعين بالكد والكفاح لتأمين عيشهم وتحقيق المزيد. وكم من أحلام تحققت وكم منها خاب.
يتحمل إنسان المدينة المعاصرة عبء نفسه بمفرده. إنه المسؤول الوحيد عن قوته وعن تنمية قدرات تكفل له هذا القوت، ووحده المسؤول عن مأواه وملبسه وذهابه وإيابه وصحته ومرضه وفرحه وحزنه. والمبادرة الفردية التي أعطته حرية الاختيار أثقلت كاهله بعبء لا فكاك منه، أمامه شعار واحد: النجاح أو الموت! فأنت سيد في متجرك أو مصنعك أو مختبرك أو عملك، أما إذا اختارت دورة الحياة الطاحنة للمدينة أن تقذف بك إلى الخارج فأنت محطم فقير مهان!.. ووحيد أيضاً.
كانت حياة القرية تساوي بين غالبية أفرادها إلى درجة تكاد فيها أن تكون قصة كل قرية قصة كل سكانها، أما المدينة فقد وضعت الفرد أمام حالة خاصة، ولكل فرد في المدينة قصة. فجاءت المدينة التي أضحت الصيغة الوحيدة للحياة في العصر الحديث، أو تكاد، مشتملة على الذروة في كل شيء: ذروة الحلم وذروة الإحباط، ذروة العلم والمعرفة، ذروة اختلاط المفاهيم وضياعها، ذروة الألفة والاجتماع وذروة الوحدة. فثراء المدينة لا يشابهه ثراء وكذلك فقرها.
نمو المدن
إن جاذبية حياة المدينة، وكونها مكاناً للاسترزاق، عرضها لتكاثف سكاني شديد لا فكاك منه، وأضحت أشد المدن جاذبية تنوء تحت كاهل تضخم سكاني خانق. وأصبح كل توسع في محيطها حلاً ومشكلة في آنٍ معاً.
قبل سنوات استخدمت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) أحد أقمارها لمراقبة توسّع المدن لدراسة آثاره البيئية، وجاءت النتيجة المذهلة لتقول أن عدداً كبيراً من مدن العالم زادت مساحتها بنسبة 25 في المئة ما بين عامي 1990 و2000م فقط. الأمر الذي يكشف حجم التحدي الذي تواجهه المدينة المعاصرة. فبعد سنين قليلة تستعد مدن العالم لأن تضم نصف سكان المعمورة، أي حوالي أربعة بلايين نسمة، وذلك مقارنة بثلاثة بالمئة فقط منذ قرنين فقط. وإذا كان العالم يعاني من انفجار سكاني فإن هذا الانفجار يصيب المدن بالدرجة الأولى.
المدينة ترفع التحدي
على المدينة أن تؤمن المباني السكنية لوافديها الجدد، وأيضاً الطاقة، وشبكات الصرف الصحي، ومزيداً من الشوارع ووسائل النقل العام. باستثناء بعض المدن التي نشأت حديثاً كما هو الحال في أمريكا والجزيرة العربية، ما من مدينة قديمة حسبت لما ستواجهه في القرن العشرين الحساب الصحيح. لندن، باريس، القاهرة، روما، مومباي، بيروت.. استسلمت أمام الكثير من التحديات التي تواجهها في هذا المجال، وتوقفت حتى عن البحث عن حلول. وأحياناً، وفي إطار السعي إلى مواجهة متطلبات النمو وتلبيتها تقع الأخطاء أو الشرور التي لا بدّ منها . فعندما شاء موسوليني بناء قطار الأنفاق لحل أزمة السير المتصاعدة في روما آنذاك، تعرقل المشروع في البدء عشرات المرات لأن العاملين عليه كانوا يعثرون على مواقع أثرية في بطن المدينة القديمة.. وبعد أن تكرر الأمر عدة مرات أمر موسوليني شق النفق رغم كل الآثار الموجودة حتى ولو اقتضى الأمر تدميرها!.
أدت النهضة الصناعية في جوار المدن الكبرى إلى تضخم النشاطات الاقتصادية، بالتالي إلى الحاجة المتزايدة لمكاتب الأعمال التي راحت تحتل الشقق السكنية مبعدة سكانها إلى مكان مجاور. حاولت بعض المدن القديمة إيجاد الحل في بناء ناطحات سحاب في وسطها كسباً للمساحة، كما هو الحال في باريس وفيينا وروما، غير أن هذا الحل أثار همهمة غاضبة عند المدافعين عن التراث والشخصية الجمالية للمدينة، كما هو حال النقد العنيف الذي وجه إلى ناطحات سحاب مونبارناس في باريس، والتي تضم أكثر من خمسين طابقاً، للشكل النشاز الذي تبدو فيه بين الأبنية الحجرية القديمة وفوق سطوحها. الأمر الذي جعل تكرار الأمر أكثر صعوبة.
مدن هي تراث العصر
تكونت غالبية المدن من بقايا تجمعات وقرى متناثرة ومتقاربة، تكاثرت بفعل النشاط الاقتصادي الذي يجذب إليها مزيداً من الصناعيين والتجار وعمال الخدمات المختلفة. وتتسع حاجاتها وتزداد متطلباتها وتتشابك، فتنمو من خلال تلبية هذه المتطلبات، ثم تأتي لحظة تشعر معها المدينة بأنها غدت مدينة بالفعل.
لعب موقع المدينة دوراً حاسماً في نموها وازدهارها. ومن أهم سمات الموقع الاتصال بالطرق والممرات. يعزز ذلك وجودها على ضفاف الأنهار أو شواطئ البحار. وإن كان لكل مدينة معاصرة قصة، فربما تمثل المدن الأمريكية الكبرى النموذج الأفضل لدراسة نشأة وتطور المدينة المعاصرة. فالغالبية العظمى من مدن العالم غير الجديد قامت على نواة أنقاض مدينة أو مدن قديمة، سواء أكان في أوروبا أو الشرق. أما المدن الأمريكية فمن أرض خلاء بزغت، وكأنك تؤسس مدينة كما تريدها منذ البداية.
ومن بين المدن الأمريكية، ربما تمثل شيكاغو المثال النموذجي. ولنهضة شيكاغو قصة تتجاوز موقعها الفريد على نهر شيكاغو وطرف بحيرة ميتشيغان. فقد أخذت اسمها من اسم الثوم البري الذي ينمو على ضفاف نهرها بلغة السكان الأصليين. وتعود قصة نهضتها الأولى إلى رجل يدعى وليام أوجدن الذي اشترى له شقيق زوجته قطعة أرض كبيرة هناك. وحين زار الموقع اعتقد لوهلة أن الصفقة كانت حمقاء.. إلا أنه سرعان ما اكتشف احتمالات نمو مدينة، وقرر أن يمد إليها سكة حديد. وحاول عبثاً إقناع أصحاب الأموال في (وول ستريت) بتمويل مشروعه وفشل في ذلك، فلجأ إلى أهل البلدة الذين تحمسوا للمشروع، على أمل في أن تساعدهم سكة الحديد على تصريف محصولهم. فتقدموا جماعات وأفراداً، رجالاً ونساءً، لشراء أسهم الشركة الجديدة.
وفي عام 1848م امتدت قضبان القطار الحديدية إلى البلدة. وانقلب حالها مع انطلاقة القطار الأولى، ثم توسعت شبكة القطار في كل اتجاه لتجعل قصة عاصمة السكك الحديدية هي قصة شيكاغو! وهذه البداية لشيكاغو بمبادرة أهلها طبع تاريخ المدينة التي استمر نموها وتوسعها وتخطيطها يخرج من أفكار أهلها وإرادتهم. وبالتالي أكد سمتها كمدينة نموذجية للروح التي صنعت العالم الجديد.
كتب أحد سكان البلدة يقول عنها: يمكنك أن توقف البحث، فإن أمريكا بأسرها موجودة على ضفاف بحيرة ميتشيغان. شيكاغو هي أكثر المدن أمريكيةً، ليس فيها التوليفة العاطفية التي تتمتع بها لوس أنجلوس، ولا إدعاءات نيويورك وليست مثل واشنطن، فهي مدينة حية .
ولكن حيوية المدينة وثراءَها جلبا معهما في بداية القرن العشرين إحدى أعنف الأزمات التي عرفتها أية مدينة أمريكية. فمن يستطيع أن يتذكر شيكاغو أو نيويورك وينسى المافيا، أكثر المنظمات عنفاً وإجراماً في تاريخ الولايات المتحدة والعالم! إن صورة رجال العصابات، وكما يعرفها الجميع من خلال الأفلام السينمائية بالدرجة الأولى، التصقت بصورة المدينة لسنوات طويلة. والجريمة المنظمة من الظواهر التي تقضّ مضاجع أهل المدن ومسؤوليها، ولا تضعف في مكان إلا لتقوى في مكان آخر.
مدينة المدن
غابة من ناطحات السحاب وأكثر من عشرة ملايين نسمة وأكبر تجمع للأموال والشركات في العالم. لا شك أن نيويورك تمثّل حقيقة المدينة المعاصرة بكل ما في الكلمة من معنى. هي أكثر من مدينة أمريكية ولو أنها لا تقل أمريكيةً عن أية مدينة أمريكية أخرى.
وأنت إن سألت عشرة أشخاص ما هي مدينة المدن لأجابك ثمانية على الأقل إنها نيويورك. فهي مدينة المدن المعاصرة بلا منازع. المدينة التي بدأت من لا شيء ثم جمعت كل شيء: المال والعمران والعلم والفكر والفن.
نيويورك.. المستقبل على الورق
وإذا اتسم التفكير بتخطيط المدن بسمات عقلانيّة، بمعنى أن يكون مخطط المدينة بناءً على تفكير عملي لضمان سرعة حركة الناس والبضائع والخدمات، فإن المخطط الذي وضع لنيويورك كان نموذجاً صارخاً في بساطة هذا التفكير، وفي أسلوب تخطيط المدن الذي صار أمريكياً يُحتذى. إذ قُطِّعت المدينة إلى مربّعات وسمّيت شوارعها المتقاطعة بالأرقام. خططت مدينة نيويورك عام 1811م، على عكس المدن الأوروبية الكبرى التي سبقتها في التخطيط. فمخطط نيويورك شمل أراض أكبر بكثير من مما كانت تحتاجه المدينة، وكأنها بنيت على الورق للأيام القادمة. ورغم التنظيم العقلاني البارد للشوارع يقال أيضاً إن الفرد قد يتوه أحياناً في نيويورك بشكل لا مثيل له حتى في أكثر المدن الأوروبية تعقيداً.
قديمها جديد العالم
ليس هناك ما يميّز نيويورك أكثر من كونها خلاصة صرفة للعصر الحديث. ناطحة السحاب هي صرح هذا العصر. وحينما تزور مبنى مثل الإمبايرستيت فإنما تزور مسلّة العصر وأهرامه. ودرجات المبنى وأعمدته ومصاعده جميعها حديثة الطابع، تعطيك إحساساً كاملاً بأنك في حضرة التراث العريق للمعاصرة، وأن إحساسك بالانتماء إلى العصر يتصل بهذا المبنى ومقيّد بسلطانه كذلك!. مثّلت هذه المدينة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي أقوى نموذج للسعي وراء النجاح المالي والوظيفي. ولم يهرع الناس إلى مدينة سعياً وراء حياة أفضل أكثر مما هرعوا إلى نيويورك، ليس فقط في الولايات المتحدة الأمريكية بل في كل أنحاء المعمورة. كانت الميدان الأبرز أمام أي أمريكي يريد أن يثبت جدارته في مجال المال والأعمال. في ذلك الوقت، كانت الأفلام السينمائية تتفنن في تصوير جموع الموظفين في بذلاتهم يتراكضون على الأرصفة، داخلين إلى مراكز الأعمال في ناطحات السحاب وخارجين منها. وهو ما عُرف حينها بسباق الفئران.
لكن إذا اختلف الناس حول مدينة، فإنهم لم يختلفوا عليها بقدر ما اختلفوا على حياة نيويورك. مدينة لا تقبل الوسط، فإما أنت عاشقها كل العشق أو كاره لها كل الكره. أما أهلها فيقولون لك إن الحب والكراهية لمدينتهم ليسا إلا وجهين لعملة واحدة.
واليوم لا تزال نيويورك تمثل أكبر مراكز التغيير والابتكار والتجدد في العالم، ليس فقط في مجال المال. ويقال إن هناك ابتكاراً جديداً في كل ثانية في الولايات المتحدة، وأغلبها يتحقق في نيويورك أو يمر عبرها. وكونها معبراً أمر لا يقل شأناً عن كونها مركزاً، فأموال العالم ليست جميعها في نيويورك ولكن نسبة كبيرة منها تمر عبر المدينة.
طوكيو، هونغ كونغ، كوالالامبور، تايبيه
وإذا جرِّدت نيويورك من كل ميزاتها يبقى أنها المسؤولة الأولى والأخيرة عن جعل ناطحة السحاب رمز المدينة المعاصرة ومركز اعتزازها. فمن طوكيو إلى هونغ كونغ إلى كوالالامبور إلى تايبيه إلى فرانكفورت وغيرها، لا زال العالم يتسابق إلى اليوم في بناء ناطحة سحاب أعلى وأعلى وجميعها تحاول أن تتباهى بنفسها أمام نيويورك!
المدينة الأخرى
تصاب مدن الازدحام بحالات تشبه الأوبئة المستعصية.. منها تفاقم أوضاع الأحياء الفقيرة ومنها الجريمة المنظمة وغير المنظمة ومنها الاكتظاظ الذي يصيبها بالشلل ولا من حل له أو دواء.
عيب المدينة.. حيّها الفقير!
ليس هناك ما يعيب المدينة المعاصرة أكثر من أحيائها الفقيرة. ولا فرق في ذلك بين أصغر المدن وأعلاها شأناً. بل يكاد الحي الفقير، أو ما يُعرف بمدن الصفيح أو أحزمة البؤس، أن يكون أشد بؤساً وتفجراً كلما كانت المدينة نفسها في حالة ازدهار اقتصادي وصناعي متزايد.
هارلم وبرونكس في نيويورك، سوهو في لندن، الكوت دور وباب غلينيانكور في باريس.. وفي المدن العربية القديمة، يمكن عادة معرفة الحي الفقير في المدينة من خلال اسمه. فإذا كان يبدأ بـ باب كذا، فغالباً ما يكون كذلك. لأن الفقراء كانوا يتجمعون في الماضي على مقربة من أبواب المدن التي أصبحت اليوم في داخلها. مثل باب اللوق في القاهرة، وباب الجابية في دمشق، وباب التبانة وباب الرمل في طرابلس. وعندما كانت لندن في ذروة مجدها الإمبراطوري، مثلت حالة صارخة في مجال تواجد مثل هذه الأحياء الفقيرة فيها، إذ وصلت مستويات الفقر والفوضى والمرض والجريمة إلى مستويات تاريخية في بعض أنحائها. ويُعتقد أن من أهم أسباب نشوء فكرة تخطيط المدن أو إعادة تخطيطها هو التخلص من أحياء الفقر هذه. فأضحى إخلاء بعض هذه الأحياء وهدم مبانيها، لإقامة الحدائق والمتنزهات أو بعض المباني الحديثة مكانها وإعادة إسكان أهلها في مبانٍ جديدة في الضواحي، من السياسات المعمول بها منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى اليوم.
لكن الحي الفقير يستمر داءاً تعجز كثير من مدن العالم أن تنجو منه. ورغم أن فكرة إعادة تخطيط المدينة بعمليات هدم وإعادة توزيع سكانها تبدو كآخر الحلول: الكي. إلا أن هذه العملية نفسها لا تنجو من السلبيات. فهي كثيراً ما تذهب بمعالم تاريخية هامة في وجدان المدينة كما أنها من ناحية أخرى تخلق مساحات تقطع أوصال المدينة وتتعارض مع تماسك أحياءها.
تتألف ضواحي المدن المعاصرة في معظم دول العالم من المناطق الصناعية المبعدة بقرار سليم عن قلبها، ومن أحياء سكن الفقراء. غير أن ضواحي المدن المعاصرة ليست كلها أحزمة بؤس ومناطق صناعية، فبعضها عندما توافرت العناصر الاقتصادية والجغرافية اللازمة، تحوّل إلى مناطق سكن الأثرياء الراغبين في الابتعاد عن ضوضاء المدينة، ولا يحتاجون إلى التواجد في قلبها باستمرار. هكذا ظهرت ضواحي الأغنياء مثل بفرلي هيلز في ضاحية لوس أنجلوس. ومن الحلول الأخرى، هناك الهروب بالعاصمة الإدارية والسياسية إلى مدينة مستحدثة جملة وتفصيلاً لتخفيف الضغط عن المدينة الكبيرة.
جرائم المدن … مدنية
عانت كبرى مدن العالم إلى جانب معضلة الحي الفقير، من داء الجريمة، المنظمة منها وغير المنظمة. والجريمة المنظمة على شهرتها ليست مدنية في جذورها وتفكيرها. وربما يعود منطقها إلى ما هو سابق لعقلية المدينة، خاصة وأن بداياتها قامت على التجمعات العرقية أو القومية: المافيا الإيطالية ثم الصينية والدنماركية واليوم الروسية، وغيرها. وقد شكّل انتشار الجريمة وأوجه العنف غير المنظم، حتى لمدن كبرى مثل نيويورك، ما يشبه الداء العضال وأصبح التجول محرّم على الناس في أحياء وأوقات معينة، وأصبحت المنازل شبه قلاع صغيرة محصنة بكافة أجهزة الحراسة الأمنية والأقفال المتينة.
ارتبط ارتفاع نسبة الجريمة بحالات الفقر عامة والفقر المفاجئ بشكل خاص، حين تنتشر البطالة وتقفل في وجوه الناس أسباب العيش. وارتبطت كذلك بتحلل في القيم الأخلاقية وما يرافقه من تفكك عائلي واجتماعي. كما عُزي انتشار الجريمة لتكاثر هجرات عِرْقية جديدة إلى المدن لتتراكم في أحياءها الفقيرة. وربما في هذه الأسباب ما يفسر غياب مثل هذه الجريمة بشكل واسع في مدن عربية وإسلامية مثل القاهرة التي تعاني من الكثافة السكانية والعوز والفقر ولكنها تتمتع بدرجة أفضل كثيراً من الأمان، وذلك دون أن يكون لدى أجهزتها نفس قدرات وإمكانات مدن كبرى مثل نيويورك وشيكاغو ولندن وباريس وغيرها!
رافقت الجريمة المنظمة وغير المنظمة تطور المدينة واكتسبت خصوصياتها منها، وقد أخذت أشكالاً جديدة مع عصر الأجهزة الرقمية فتطورت خطط سرقة المصارف من الهجوم المسلّح إلى دخول المصرف بأجهزة إلكترونية، إلى سرقة نظيفة بالكامل حيث تتم السرقة عبر أجهزة الكومبيوتر واختلاسات غير مرئيّة!
خير من ويل
أحياناً تخرج الحلول من رحم الكوارث مثل الحروب والزلازل. فتخرج المدينة من الكارثة، لتكتشف أن الحرب، مثلاً، قد قامت بما لم تجرؤ إدارتها على القيام به، وهدمت ما كانت تتمنى هدمه. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها برلين وستالينغراد (سانت بطرسبرج) اللتان أعطتهما عمليات التدمير العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية فرصة لإعادة تخطيطهما والظهور في حلّة جمالية جديدة.
ربما تكون بيروت أقرب الأمثلة إلينا في هذا المجال. فبعدما كان قلبها مكتظاً بالسكان ويتسّم بالفوضى والعشوائية التي تطمس معالمه الجمالية، أتت الحرب على قسم كبير منها وأبقت على قسم آخر. وقام مخطط إعادة بناء وسط بيروت على أسس تأخذ في الحسبان ترميم الأبنية القديمة، وتخطيط الشوارع وتأهيل البنية التحتية اللازمة لاستيعاب نمو سكاني واقتصادي لسنوات طويلة ومقبلة. ومن يتجول في هذه المنطقة اليوم يكتشف مئات الأبنية الأثرية الرائعة التي أعيد تأهيلها، ومن بينها دور العبادة والمباني الحكومية المنتظمة حول شوارع عريضة، وحيث كل شيء يأخذ في الحسبان حجم النمو السكاني والاقتصادي لسنوات طويلة مقبلة، ويؤمّن فيها كل مستلزمات الحياة المدنية بدءاً بقدرات البنى التحتية، وصولاً إلى توزّع مبانيها على العمل والإسكان.
قصة مدينتين ومدينة ثالثة
لكل مدينة منهما قصة مستقلة. إنهما باريس ولندن، المدينتان الأوروبيّتان اللتان تشابهتا من حيث النشأة والتطوّر حتى القرن التاسع عشر، حيث رسمت كل منهما مسارها الخاص بحيث أصبحتا اليوم مثالاً لدراسة الفارق بين شخصية مدينتين.
عندما كان نابليون يجول بضيفه ملك روتنبرغ على أحياء باريس، سأله عن رأيه فيها فأجابه قائلاً: إنها جميلة جداً كمدينة اجتاحها جيش من المصممين المعماريين . فقد كانت العاصمة الفرنسية آنذاك قد عانت من إهمال رسمي دام قرناً كاملاً بعدما استوطن ملوك البلاد في ضاحية فرساي المجاورة. لهذا أولى الإمبراطور الطموح أهمية قصوى لإعادة تخطيط المدينة وتجديدها بشكل يحقق لها المكانة التي أرادها لها: عاصمة أوروبا ومن خلفها العالم بأسره.
هدمت في عصر نابليون الأول آلاف الأبنية الخشبية القديمة على ضفاف السين، ليقوم فوقها شارع الريفولي الحديث، وبدأ تخطيط الميادين الكبيرة وتزيينها، مثل تأهيل ساحة الكونكورد، وتزيين ساحة الفاندوم وبناء قوس النصر في آخر جادة الشانزيليزيه وما إلى ذلك من عشرات المشاريع، التي استوحت كلها ضخامة الهندسة اليونانية والرومانية القديمة، تماشياً مع سياسة العودة إلى الجذور التي طرحت نفسها كحل للأزمة التي رافقت الثورة الفرنسية وأعقبتها. بعد ذلك، وتحديداً خلال الربع الثالث من القرن التاسع عشر الميلادي، أطلق نابليون الثالث يد المهندس والمخطط جورج هوسمان ليعيد رسم باريس، تلبية لمتطلبات تضخّمها السكاني واحتمالاته المستقبلية.
لم يناقض هوسمان الرؤية التي كانت قد وُضعت أُسُسها على يد نابليون الأول، بل دفعها حتى حدودها القصوى. فأخذ ساحة قوس النصر ليفرِّع عنها مزيداً من الشوارع العريضة في كل الاتجاهات، بلغ مجموعها اثني عشر شارعاً، فصارت تبدو من الجو أشبه بنجمة، وحملت فعلاً هذا الاسم:
Place De L’etoile .
احتاج تنفيذ هذا المخطط عملياً إلى هدم آلاف الأبنية وإعادة بناء بديل عنها ما بين عامي 1853 و1869م. كما أدى إلى إعادة إسكان 350 ألف نسمة، أغلبهم من الفقراء، في أماكن أخرى. فكان ذلك من أوائل الانقلابات العمرانية التي تضطر فيها مدينة إلى مواجهة الحقيقة غير المستحبّة المتمثلة في الأحياء المكتظة بالفقراء والتي غالباً ما تحاول المدن أن تتغافل عن وجودها أو تتناساها.
نجح التخطيط الجديد لباريس في تحويلها إلى مدينة خلابة، قادرة على استيعاب احتياجات النمو السكاني ومتطلباته حتى يومنا هذا. فالضخامة التي وضعت مقاييسها أساساً للاستجابة إلى احتياجات الأبهة الإمبراطورية وطموحاتها غير المحدودة، صارت السمة الضرورية لتلبية احتياجات الحياة الحديثة. تحولت شوارعها الفسيحة إلى أماكن للتنزّه تنشط فيها الحياة الاجتماعية واللقاءات، وكان جمالها مادةً رسمها مئات الفنانين. وبسبب المقاييس الكبيرة اتسعت هذه الشوارع لكل شيء وأينما كان: المقاهي، المطاعم، أماكن التسلية، وحتى أرصفتها، وفقط الأرصفة اتسعت للمكتبات والحفلات الموسيقية، حتى استحقت هذه المدينة عن جدارة لقب مدينة النور.
في المقابل، قاومت العاصمة البريطانية فكرة التنظيم الصارم، والمخططات التي تستند إلى أحلام فوقية تطبق على المدينة ككل بأسلوب وجده أهل لندن منافياً للمنطق البسيط. أو قل إن العاصمة البريطانية لم تجد نفسها ذات يوم ملزمة بمثل هذه المراجعة الشاملة التي عرفتها باريس. فنظامها السياسي تميّز باستمرارية مدهشة أصبحت مضرب مثل، لا ثورة، ولا أزمة وجود، ولا تطلّع نحو عظمة التاريخ الروماني واليوناني القديم. خاصة أن الرابط بين الأنكلوساكسون والجذور الرومانيّة هو أضعف بكثير مما هو عليه عند الشعوب اللاتينيّة مثل الفرنسيين.
كانت لندن في القرن التاسع عشر تعاني، وربما أكثر من باريس، من الأحياء السكنية المكتظّة بالسكان حيث تنتشر الأوبئة والأمراض، وتشكل مرتعاً للجريمة والفساد والاضطراب العام. واستدعى ذلك إجراءات جذرية لإنقاذ المدينة. لكن هذه الإجراءات لم تصل إلى حدود إعادة التخطيط الشاملة، بل اقتصرت على بناء مساكن جديدة عند أطراف المدينة لإسكان الفقراء وإخلاء مساكنهم القديمة. وهكذا بقيت لندن حتى يومنا هذا من دون نقطة مركزية رئيسة، بل ذات نقاط مركزية متعددة وما زالت المساحات الخضراء، بعضها متروك على طبيعته، توفر انفراجات كبيرة وسط العاصمة.
وترافق هذا الاختلاف في التخطيط مع اختلاف آخر في فن البناء. ففي حين نجد القصور الفرنسية بذخة بالزخارف والأثاث المذهب والمرايا، نجد القصور الإنجليزية بسيطة – إذا جاز التعبير – بالمقارنة، وكأنهم يترجمون بها أسلوبهم في السلطة والسياسة، حيث يؤثرون قلة التباهي، إلا فيما هو أساسي وجوهري.
التباين في شخصية المدينتين، من حيث التخطيط والمعمار، يحكي تبايناً أوضح على نمط الحياة في كل منها. وينسحب تخطيط باريس المرسوم على الورق والنابع من تصميم المخططين المعماريين على ترابط معالم المدينة، فتجد معهد الفنون الجميلة، مثلاً، يقع قبالة متحف اللوفر تماماً، وتحيط بهذا المعهد شوارع تضم عشرات دور العرض للفنون الراقية إضافة إلى المكتبات ودور النشر التي تنتهي في جوار جامعة السوربون العريقة، وما بين المعهد والجامعة عشرات ومئات المقاهي للنقاش والحوار والتفاعل. وعلى الجهة الأخرى من متحف اللوفر هناك ساحة الفاندوم حيث يحتشد أكبر تجمّع لأشهر مصممي المجوهرات في العالم، وعلى مقربة منها طرقات مماثلة تؤدي إلى شارع سانت هونوريه حيث يوجد أكبر تجمع لمصممي الأزياء الفرنسيين وأيضاً القصر الجمهوري ورئاسة الوزراء، وهو موازٍ تماماً لجادة الشانزيليزيه الشهيرة.. وفي كل هذه الأحياء المختلفة والصاخبة حياةً وإنتاجاً وإبداعاً، يمكن للمرء أن يتجول سيراً في ساعات قليلة، من دون أن يغيب نظره عن مشهد قصر، أو نصب تاريخي، أو مبنى دخل تاريخ الهندسة المعمارية. أما في لندن فالوضع يختلف تماماً، دون أن يعني ذلك قلة في ما تقدمه لك المدينة من أسباب العلم والثقافة والمعرفة، أكان في المكتبات أو المتاحف أو المسارح أو غيرها. وقد قيل السمعة لباريس والفعل للندن! وهذا الفارق يلخص المقارنة بين المدينتين. في الأولى تشعر بعظمة المدينة ولكن أيضاً تشعر بضغط من يقف في نقطة وسط تتجه إليها المدينة بأسرها، وفي الثانية يشعر بعظمة أقل ولكن بميزة التفلّت النسبي من تحمل نقطة الارتكاز والحركة دون شكل النجمة الهندسي. ففي حين يشعر الزائر في باريس بأن المدينة بأسرها تحيط به أو تتجه صوبه وأنه في وسطها أينما كان فيها، يشعر في لندن بأنه في مكان بعيد عن قلبها، حتى ولو كان فعلاً في منتصف أحد الميادين.
قاهرة المعزّ.. معاصرة
القاهرة مزيج من مدينتين ومعهما عصرين. هي مزيج من المدينة القديمة التي تحمل عبقاً تاريخياً كثيفاً والمدينة التي تقدّم كل ما تقدمه المدينة المعاصرة من مزايا، وتعاني من نفس ما تعانيه من تحديات. وهي المدينة التي أعيد تخطيطها بطموحات وأحلام عواصم القرن التاسع عشر. كما أنها المدينة التي نمت بنزوح ريفي كثيف حوّلها إلى إحدى أكبر مدن العالم تعداداً بالسكان، كان التخطيط وإعادة التخطيط والتوسع الأفقي من أكبر هواجسها.
تأسست المدينة عام 969م على يد القائد العسكري جوهر الصقلي. سلكت في مطلع القرن التاسع عشر منعطفاً أوصلها إلى ما هي عليه اليوم. بدأ تحديث القاهرة على يد محمد علي باشا الذي استلم الحكم عام 1805م، وكان عدد سكان المدينة آنذاك نحو ثلاثمائة ألف نسمة، واستُكْمِل هذا التحديث بزخم على يد أولاده، وخاصة الخديوي إسماعيل باشا الذي حكم ما بين العامين 1863 و 1879م، معاصراً لحكم نابليون الثالث ولإعادة تخطيط العاصمة الفرنسية على يد المهندس هوسمان.
شهدت القاهرة آنذاك شقّ الشوارع العريضة والمستقيمة (مثل شارع محمد علي)، وذلك على حساب آلاف المنازل القديمة التي تمّ هدمها. وأقيمت المباني والقصور المتباعدة عن بعضها في غرب المدينة القديمة المزدحمة. واستوحى إسماعيل باشا الهندسة الأوروبية والفرنسية بشكل خاص في هذا النمط المعماري الجديد، الذي ما يزال موضوع جدل حتى يومنا هذا، ويمكننا أن نراه في القصور التي بناها وأيضاً في مبنى المتحف المصري وجسر قصر النيل وغير ذلك.
وترك الاحتلال الإنجليزي اللاحق (1882 – 1936م) بصماته أيضاً على المعالم العمرانية ونمط الحياة اليومية وعاداتها وصولاً إلى أسماء بعض المناطق والأحياء. غير أن الشخصية الإسلامية والتاريخية للمدينة استطاعت أن تصهر هذه المؤثرات الوافدة وأن تهضمها، وربما كانت بحاجة إليها كما يقول البعض كي تتمكن من رفع التحديات التي واجهتها في القرن العشرين، وأبرزها ازدياد عدد السكّان الذي وصل في العام 2000م إلى 12 مليون نسمة. مما أدى إلى إنشاء مدن جديدة في ضواحي المدينة العملاقة لتخفيف الضغط عنها. كان أول هذه المدن مصر الجديدة التي أقيمت خارج المدينة القديمة كحي للأثرياء. وفي السبعينيات أخذت الدولة تبحث عن حلول لتزايد في عدد السكان لم تعد قادرة على استيعابه، فكرّت مسبحة بناء المدن من 6 أكتوبر، إلى العاشر من رمضان إلى مدينة العبور.
العاصمة والمدينة الثانية
كثيراً ما يلفت نظرنا أن العاصمة الرسمية لهذا البلد أو ذاك، ليست هي المدينة الأشهر أو الأكبر، فعاصمة سويسرا الرسمية هي بيرن، وليست زوريخ أو جنيف الأكثر شهرة طبعاً. وعاصمة أستراليا هي كامبيرا، وليست سيدني أو ملبورن، وعاصمة البرازيل هي برازيليا، وليست ريو دي جانيرو أو ساوباولو، وعاصمة كندا هي أوتاوا، وليست مونتريال أو تورنتو، إلخ… وهذا يقودنا إلى التنافس المزمن بين العاصمة والمدينة الثانية الذي يصل إلى حد الكراهية المكبوتة حيناً والمعلنة حيناً آخر.
كثير من المدن الثانية في دول العالم تشعر بأنها مغبونة أمام الاهتمام الذي تحظى به العاصمة وتسارع نموها. ولعل أوضحها الإسكندرية مقابل القاهرة. فقد كانت الإسكندرية قبل ألفي سنة من أعظم مدن العالم، وهاهي تنتقل إلى الصف الثاني بعد القاهرة. التي مضى على تأسيسها ألف عام فقط. الأمر نفسه ينطبق على مدينة حلب في سوريا، وفي إيطاليا يكنّ سكان مدينة ميلانو الصناعية والغنية في الشمال الشعور نفسه إلى روما القديمة والفقيرة في الجنوب.
وأحياناً تنمو العاصمة وتتضخّم ممتصّةً القسم الأكبر من عوامل النمو في بلادها فتتحول إلى المدينة الوحيدة في البلاد حيث تكون المدينة الثانية على مسافة شاسعة من العاصمة على صعيد التطور والنمو. ومن المدن العربية التي يمكن أن نذكرها على سبيل المثال بغداد وتونس.
وفي بعض الأحيان نجد نمواً متوازناً بين العاصمة والمدينة الثانية، إذ تحتفظ المدينتان بالمستوى نفسه تقريباً على صعيد النمو في الوطن الواحد. مثل مدينة جدّة التي لم يتضاءل دورها ولا نموها لصالح العاصمة الرياض. بل بقيت تستفيد من موقعها الجغرافي وقربها من الأماكن المقدسة.
ولا بد أحياناً من أخذ المكانة المكتسبة تاريخياً في الحسبان الذي قد يُبقي وزناً للمدينة الثانية، لا يستطيع القرار السياسي نقله إلى العاصمة. وهذا هو حال اسطنبول مثلاً التي بقيت لنحو خمسة قرون عاصمة للدولة العثمانية، فاكتسبت شخصية فريدة تبقيها فعلاً المدينة الأولى في تركيا بلا منازع رغم نقل العاصمة إلى أنقرة. الأمر نفسه ينطبق على ريو دي جانيرو مقابل العاصمة برازيليا، مومباي المدينة الاقتصادية مقابل العاصمة الهندية السياسية الهادئة والوديعة نيودلهي.
بدءاً من نواة!
لم تبدأ مدن المملكة العربية السعودية من الصفر أو الأراضي البور تماماً لكنها بدأت من تجمعات بيوت قليلة وهذا ما أعطاها فرصة التخطيط المسبق لتتوسع مدنها بما يشبه توسع المدن الأميركية. وقد ساعد على ذلك أن الحاجة إلى التوسع قامت في نفس الفترة الزمنية التي توفرت فيها الامكانات المادية التي تسمح بالتخطيط المدروس له، وبالتالي بناء البنى التحتية القادرة على استيعاب نمو المدينة واحتياجات هذا النمو لسنين طويلة، وفي فترة لا تزيد عن عقدين فقط تضاعفت المساحة المأهولة في مدن مثل الرياض العاصمة أو جدة أو المدن الثلاث المتجاورة (الدمام والخبر والظهران) بنسبة قد لا تكون عرفتها مدن أخرى في العصر الحديث، ليس في المساحة وحسب بل وفي عدد السكان أيضاً. وبطبيعة الحال لم يكن هذا النمو السريع دون صعوبات مفاجئة غير مأخوذة في الحسبان تم تداركها مع مرور الوقت ونضوج التجربة. وجاءت ظاهرة مثل دبي لتقدم نموذجاً مثالياً لبناء مدينة فائقة العصرية في فترة زمنية قصيرة أيضاً وبنجاح قلّ نظيره.
أُم القرى وأنفاقها
واجهت مكّة المكرّمة مشكلة شبيهة بتلك التي واجهتها روما في عهد موسوليني، فقد انحصرت أم القرى في ذلك الوادي لآلاف السنين، وتكدّست مساكن أهلها حول الكعبة والحرم الشريف وعلى الجبال من حوله. ولمَّا جاءت الطفرة والتوسّع العمراني الذي لحق مدن المملكة فأخرج جدّة عن سورها الذي بقيت داخله لمئات السنين، لم تعرف مكّة كيف تخرج من بين الجبال المحيطة بها، حتى تم اختراق الجبال وحفر الأنفاق الطويلة داخلها كي تحل مشكلة الازدحام داخل مكّة وتربط بين الحرم والأحياء الجديدة التي خرجت عن نطاق العمران التقليدي، كما شيِّدت المباني الشاهقة حول الحرم لتتمكن من استيعاب الأعداد المتزايدة من الحجّاج والمعتمرين ولا تزال هناك خطط لتشييد المزيد ..
قرطبة.. جوهرة العالم لخمسمائة عام!
بدأت قرطبة تتحول إلى مدينة كبرى على يد مؤسس الدولة العربية في الأندلس عبد الرحمن الداخل، لكنها لقيت أوج ازدهارها في عهد عبدالرحمن الناصر، الذي اتخذها عاصمة لملكه، وجعلها كبرى المدن الأوروبية، وأكثرها أخذاً بأسباب الثقافة. كانت قرطبة العاصمة الكبرى للأندلس، يفد إليها الملوك والسفراء، ونافست كبريات المدن الإسلامية في تلك الحقبة كالقاهرة ودمشق وبغداد والقيروان، حتى سمَّاها الأوروبيون جوهرة العالم .
وصل عدد سكانها إلى نصف مليون نسمة في ذلك الزمن (بينما أصبح في العام 1995م، ربع مليون فقط)، وبلغ عدد ضواحيها 28 ضاحية، وكان فيها ثلاثمائة حمام عمومي، وثلاثة آلاف مسجد، وبقيت حتى سقوطها أعظم مدن أوروبا.
تناظر يوماً ابن رشد مع أبي بكر بن زهر، فقال: إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه، حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها .
مفارقات في أسماء المدن
هناك مدن اشتهرت في العالم إلى درجة أن اسمها استنسخ مراراً وتكراراً، وأحياناً في البلد نفسه. وقد يكون المثال الأوضح على ذلك اسم الإسكندرية الذي يطلق على كثير من المدن الأمريكية إضافة إلى 58 مدينة وبلدة حول العالم! وهناك مدن حملت أسماء مدن أخرى مميّزة نفسها بأنها الجديدة.. مثل نيويورك التي هي (يورك الجديدة).. قس على ذلك (نيوجيرزي) أو نيو (أورليانز).. وهناك مدن حملت أكثر من اسم عبر التاريخ، مثل مكة التي ذكرت في القرآن الكريم باسم بكة ومن ألقابها أم القرى . ومن المدن ما حملت أسماء مشاهير مثل بطرس- بيرج أو لينين-غراد .. وهناك مدن حملت كلمة (مدينة) داخل اسمها، مثل غراد ، وفيل، وبيرج، وبول، وأباد.. حيث تسمع لويسفيل و هايدلبرج و اسطنبول و حيدرأباد ..
المدينة صوت وصورة
شكّل انتقال الإنسان إلى المدينة، خاصة في القرن التاسع عشر الحدث في حياة البشرية وتاريخها. وخلق نشوء المدينة المعاصرة بموازاة الثورة الصناعية تحولاً عنيفاً في شكل الحياة الإنسانية لا زالت آثاره تمتد إلى اليوم. وأصبح موضوعاً خصباً للرواية والشعر وجميع الفنون الأخرى.
بطل من المدينة
إذا ذكرت المدينة تذكر الناس رواية شارلز ديكنز قصة مدينتين ، التي هي في الحقيقة قصة مدينة واحدة أساساً: باريس، والثورة التي كانت تغلي في أحياءها. لكن المدينة، هذه الظاهرة العنيفة المستجدة في الحياة الإنسانية بقيمها وأنماط سلوكها وفئاتها الاجتماعية الجديدة، وما عرفه الإنسان فيها من نجاح وفشل ومن متع وعذاب واغتراب، كلها كانت مادة نهل منها الرواة حتى الثمالة.
وكم من بطل رواية، مثل الشاب بيب في توقعات كبيرة لشارلز ديكنز، رحل من الريف إلى المدينة سعياً وراء حياة أخرى. وكذلك الرحيل إلى أمريكا في روايات فرانز كافكا وغيره تمثل خوضاً في تجربة المدينة. ولم تغب هذه المشاهد عن الرواية العربية. فنجيب محفوظ ويوسف إدريس كانا رواة حياة المدن تتخللها إطلالات ريفية. ولا مبالغة في القول أن الرواية المعاصرة من تولستوي ودوستيوفسكي وفكتور هوجو حتى كافكا وفتزجيرالد هي من صنع المدينة المعاصرة مثل الشعر الحديث والفنون عامة.
شاهدها
وفي القرن التاسع عشر، قبيل ظهور الانطباعيين وبموازاتهم، راجت مدرسة فنية كبيرة في فرنسا، دخلت طي النسيان في يومنا هذا، وهي مدرسة الرسميين، التي شكل رسم الشوارع والمباني العامة ومشاهد من داخل الشقق البرجوازية الفاخرة أبرز علاماتها، ومن أشهر أساتذة هذه المدرسة نذكر بوغيرو و ميسونيه .
أمّا الانطباعية فقد قامت أساساً على انبهار روّادها الفرنسيين بانطباعية أوجين بودان ووليام تورنر. الأول رسم العديد من مدن هولندا، والثاني رسم لندن ومبانيها العامة.
وعلى الرغم من أن الرأي الشائع يحاول أن يؤطّر الانطباعيّة بالطبيعة، فإن الانطباعيين كانوا أكثر الرسّامين مدينيةً حتى آنذاك. فإضافة إلى المشاهد العامة في شوارع المدينة التي رسمها كالبوت ورينوار مثل لوحة 13 يوليو وصولاً إلى مدينة إكس في لوحات عدّة لسيزان، يمكن القول أن الانطباعيين كانوا أفضل مؤرِّخين تشكيليّين لما كانت عليه الحياة التشكيليّة في باريس خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدءاً بمشاهد الحياة اليوميّة داخل البيوت وصولاً إلى المطاعم والمسارح والحدائق العامة ودور اللهو وما إلى ذلك..
وفي القرن العشرين الميلادي، عندما ضغطت الحداثة بكافة جوانبها على حياة الإنسان، بدأت اللوحة بتسجيل موقف من المدينة ككل، كما هو حال لوحة فرنان ليجيه المدينة ، التي حاول أن يعبّر فيها بأسلوبه التجريدي عن الرؤية المتجزأة التي تميِّز إدراك ابن المدينة لكل ما حوله. وفي النصف الثاني من القرن العشرين بلغ رسم المدينة ذروته عند الواقعيين الأمريكيين، ومنهم دايفيد هوكني، آندي وارهول، روي ليختنشتاين… حتى أن بعضهم بنى معظم شهرته العالمية على رسم ناطحات السحاب وشوارع نيويورك مثل ريتشارد إستس أستاذ الواقعية الدقيقة.
واليوم بعد أن فقد حي مونمارتر في باريس أهميته بغروب الانطباعيّين عنه وأصبح مقصداّ للسيّاح، يتجمّع هناك مئات الفنانين الذين يرسمون أساساً موضوعاً واحداً: مشاهد من باريس. صحيح أن هذه اللوحات رخيصة فنياً، ولكن موضوعها يجعل منها تذكارات، أو قُلْ ما يشبه بطاقات بريديّة فاخرة.
كلمات وألحان
كذلك تناول الموسيقيون المدينة، أكان في المقطوعات السمفونية أو الأغاني الخفيفة. وتعتبر السمفونية التاسعة لدفوردجاك العالم الجديد أشدّ الأعمال ارتباطاً بالمدينة، وقد استوحاها وأهداها إلى نيويورك. وفي الخمسينيات من القرن العشرين كانت باريس صاحبة الحصة الأكبر في الأغاني الفرنسية نفسها والأمريكية أيضاً، فاشتهرت أغاني فرانك سيناترا وهو ينشد حب المدينة الفرنسية، مدينة النور. أما في الأغنية العربية فقد غنّت فيروز مدناً كثيرة، غنتها لقيمتها المعنوية والوطنية بعيداً عن خصائصها المدينية، بدءاً بمكة المكرمة والقدس حتى دمشق وبيروت، وغيرها.
لكن لا شك أن أوسع الفنون تناولاً للمدينة كان الفن السينمائي.. وهو فن ولد في رحم المدينة المعاصرة حاملاً كل ابتكاراتها مرافقاً لكل آمالها وآلامها. وأعظم دليل على هذا التلازم أفلام الأبيض والأسود الصامتة المبكرة على يد أحد عباقرة هذا الفن، تشارلي شابلن، كانت مواضيعها أزمات الحياة والقيم في المدينة المعاصرة. وأعظم أفلامه الأزمنة المعاصرة يتناول بسخرية شديدة حال العمال الصناعيين، وفيلم أضواء المدينة الذي يتناول تشرّد الإنسان في المدينة. وتبعتها أفلام الجريمة المنظمة وغير المنظمة، والتي يستمر بريقها حتى يومنا هذا. وكرّت المسبحة، فمن ينسى التانغو الأخير في باريس ، و برلين ، و القاهرة 30 ، وغيرهم الكثير. ولا نبالغ إذا قلنا إنه لم يبق موضوع من مواضيع المدينة المعاصرة لم يتناوله الفن السينمائي.
الهروب من الزحام
المدينة المعاصرة كالحضارة التي صنعتها، أسلوب حياة وطريقة تفكير. وإذا ما قرر ابن المدينة أن يخرج إلى الطبيعة، فإن ما يقوم به، في الواقع، لن يكون أكثر من خروجٍ إلى حديقة منزله. فنحن نعيش على كرة أرضية امتلكتها المدن جبلاً وسهلاً، وجواً.. وعلى وشك أن تمتلك بعض الفضاء! وما عادت الطبيعة البرية سوى حديقة مدننا، كبيرة كانت أم صغيرة..
نزور الطبيعة أو لا نزورها فنحن من المدينة. لا بل نحن المدينة بكل ما فيها وأينما اتجهنا ومهما بعدنا، فسوف نحمل مدينتنا معنا وفينا.. لا مفر.
آخر بيت في المدينة
أخذت أول الحملات على المدينة شكل الدعوة إلى العودة إلى الطبيعة، وتوجه النقد ضد الآلة الصمّاء والبناء القاسي المتكرر. وقد تزعّم الشعراء هذه الحملات واضعين المدينة في مواجهة الريف رغم أن المدينة بساحاتها وشوارعها ومقاهيها لم تقسُ على الشعراء بقدر ما قسوا عليها. إن هجاء المدينة سهل وهجاء الطبيعة صعب. ومن ذا الذي يجرؤ على ذم منظر الجبل أو الشجرة ومن ذا الذي يجرؤ أن يتغزل بمحرك سيارة أو مصعد بناية أو هاتف، أو جهاز الكمبيوتر؟ ولكن هل صحيح أن الآلة لا تستحق الشِعر؟ وأن المحرك والهاتف والآلة الكاتبة والكاميرا أشياء لا تستحق الرسم أو الشعر مثل الشجرة أو الزهرة أو الحصان؟ وهل صحيح أن بائع الصحف على رصيف المدينة وعامل المطبعة أو مصنع النسيج، أو الطابعة على الآلة الكاتبة هم أقل شأناًً لرومانسية الأدب وفرشاة الفن من الفلاح العائد من حقله وبائعة الحليب وعجوز القرية أو البدوي في الصحراء؟ وهل صحيح يا ترى أن غابة الشجر هي دوماً أشد جاذبية وأجمل من غابة الإسمنت.. المدينة؟
ربما تكون الأبيات الجميلة التي قالها محمود سامي البارودي في وصف القاهرة نموذجاً نادراً، في حب المدينة ووصفها كمدينة، في الشعر العربي:
حيث تجري السفينُ مستبقاتٌ
فوقَ نهرٍ، مثلَ اللّجين المذابِ
قد أحاطت بشاطئيه قصورٌ
مشرفاتٌ، يَلُحْنَ مِثلَ الضبابِ
ملعبٌ تسرح النواظر فيهِ
بينَ أفنانِ جنَّة وشِعابِ
وأبيات للشاعر الإنجليزي وليام ووردزورث عن صباح المدينة تجعل إطلالة الشمس على مبانيها أبهى من إطلالتها على الجبال والوديان:
ليس للأرض أجمل منها تعرضة
كئيب الروح من يمر بها ولا يدري روعة المدينة
وقد لبست ثوب الصباح صامتة عارية
السفن والأبراج والقباب والمسارح والمعابد
تجثم أمام السهول والسماء
لامعة مشعّة في الهواء النقي
وما أطلت شمس بهذا الجمال
إطلالتها الأولى على أودية وصخور وتلال
ما شعرت يوماً بمثل هذا السكون العميق
والنهر ينساب باختياره اللذيذ.
يا إلهي … حتى المنازل تبدو نائمة
وذو القلب الكبير لا يزال مستلقياً.
ربما وجد الشعراء العرب في الدعوة الرومانسية، التي تدعو لهجر المدن والعودة إلى الطبيعة، في تراثهم زاداً غنياً، خاصة أن جذور شعرهم في البادية. وقد كان الانتصار لحياة البادية على حساب حياة الحضر دعوة مبكرة في هذا الشعر استمر على طول مسيرة الشعر العربي. أوَلَم يعلن المتنبي:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
وبعده بعصور، الأمير عبدالقادر الجزائري يدافع عن حياة البادية مؤكداً تلازمها مع الشعر:
لا تذممنّ بيوتاً خفَّ محملُها
وتمدَحنَّ بيوتَ الطينِ والحجرِ
لو كنتَ تعلمُ ما في البدوِ تعذرني
لكن جَهلِتَ، وكم في الجَهلِ من ضررِ
الحسنُ يظهرُ في بيتينِ رونقهُ
بيتٌ منَ الشِعرِ، أو بيتٌ من الشَعَرِ
ويتبعه خليل مطران طالباً حياة الصحراء:
ولُّوا المدينةَ وجهَكُمْ ودَعُوني
أنا في هواي، وعُزلتي، وجنوني
ثم الأخطل الصغير، بشارة الخوري:
عودوا إلى تلك القُرى فَلَقَدْ
سلختكُم عن قلبها المدُنُ
الذكرياتُ على مفاسِدها
الأمُّ، والأخواتُ، والسَكَنُ
ورغم ورود بعض المدن غزلاً في قصائد شعراء محدثون مثل نزار قباني في قصائد لبيروت ودمشق، إلا أن صورة المدينة في الشعر الحديث كانت في معظمها قاتمة تجاوزت مجرد الحنين إلى الريف، حيث تبوأت المدينة موقع اللعنة وترنيمة الضياع ومسرح الموت. وكأن الشاعر كلما كان أكثر حداثة كان نقده للمدينة المعاصرة أشد مرارة وقسوة.
يقول أمل دنقل بعد زيارته الأولى للمدينة:
رأيتُ فيها اليشمكَ الأسودَ والبراقِعا
وزرت أوكارَ البغاءِ واللصوصيةْ
على مقاعِدِ المحطَّةِ الحديديةْ
نِمْتُ على حقائبي، في الليلة الأولى
حينَ وجدتُ الفندقَ الليليَّ مأهولا
وأحمد عبدالمعطي حجازي:
في زحمة المدينة المنهمرةْ
أموتُ، لا يعرفني أحدْ
أموتُ، لا يبكي أحدْ
فالناسُ في المدائِن الكبرى، عَدَدْ
جاءَ وَلَدْ
ماتَ وَلدْ
لكن هل هذا آخر بيت يقال في المدينة. أَوَ لَن تبقى المدينة دائماً نزاعاً بين مدينتين. مدينة الخير الوفير والشر الوفير. مدينة نحبها ومدينة نكرهها. مدينة نعم ومدينة لا. يقف الشاعر الروسي يوفجيني يوفتوشينكو بقامته الطويلة فاتحاً ذراعيه صارخاً بأعلى صوته:
أنا مثل قطار
يسرع منذ سنين عديدة
بين مدينة نعم
ومدينة لا
وأعصابي أسلاك مشدودة بين مدينة نعم ومدينة لا…