قضية العدد

الشباب على الباب
ظاهـــرة الـقـيــــادات الـشـابـــة في الـعـالـــــــم

  • 33a
  • 24a
  • 26b
  • 28a
  • 30a

في عالم العمل والمال، كما هو الحال في مجالات العلوم والإبداع، هناك كفاءات شابة تجتاح العالم، بدأت تثبت حضورها البارز والمفاجئ.
أسماء جديدة نتطلع إلى صور أصحابها فنراهم في الثلاثينيات، أو حتى في العشرينيات من العمر. فما هي ملامح هذه الظاهرة؟ وكيف تمكنت هذه الكفاءات الشابة من الوصول إلى مناصب قيادية لم تكن لتتاح لها سابقاً؟ وهل لهذه الظاهرة امتداد في وطننا العربي بمعزل عن أوضاعه السياسية والاجتماعية؟
فريق القافلة يقرأ هذه الظاهرة بحثاً عن الأجوبة.

ماذا نعني بجيل الشباب؟ البعض يطلق عليه اسم جيل الكمبيوتر ، وعلماء الاجتماع يعتبرونه شاملاً لكل من ولد بين العام 1981 إلى 1995م. إنه جيل الدوت كوم ، جيل البشرية الأول الذي قضى سنوات صباه مع أدوات تكنولوجية غيّرت وجه العالم من كمبيوتر وإنترنت، وأصبحت هذه المقدرة جزءاً من تكوينه الداخلي مما أكسبه قدرات عالية في التعامل مع معطيات الحياة بكافة أشكالها، وحرية واسعة في التجديد والابتكار. ذكي، متمكن، كفؤ، قادر على إدارة التوازن الضروري بين عمله كأولوية، وبين حياته الاجتماعية كأولوية موازية.

هذا الجيل الفتي يعرف أنه يدخل عالماً متغيراً، وهو واثق من أن المهارات التي اكتسبها في طفولته وصباه لها قيمتها في ميدان العمل. وهكذا، فإن هذا الجيل ينتقل من الظل إلى الضوء في الميدان شاقاً طريقه بجرأة ومتسلحاً بهذه القدرات التي تمهد لها المتغيرات في المفاهيم الإدارية التي فتحت أمامهم طريق الصعود من دون عوائق التراتب الوظيفي المتوارثة.

ومن الواضح أن شباب اليوم بدأوا يصيغون المناخ الذي يتحركون ويعملون فيه، أو يساهمون في صياغته، متسلحين بهذه الخبرة التي تقدم لهم الفرصة والمسؤولية والأدوات التي كانت حكراً على الكبار في الماضي. إن جيل الدوت كوم يمثل ظاهرة أعمق وأوسع مما توحي به هذه الصفة، وقد بدأت آثار هذا الجيل تظهر في كل مكان من أعلى مراتب الشركات العملاقة حتى أصغر الشركات في أي مكان من العالم.

أكثر من مرحلة عمرية
ويواجه المجتمع هذا الصعود للظاهرة الشبابية بمزيج من الفرح والمفاجأة والاستسلام، ولكن أيضاً بمحاولة الاستفادة من الظاهرة بجعل الشباب سمة العصر، والصفة المرغوبة من الجميع.

من هنا فقد أصبح الشباب هو العصر، والعصر هو الشباب. وأصبحت الشبابية أسلوب حياة أكثر من كونها مرحلة عمرية محدودة بسنوات. ولهذا يختارها ويقترب منها من يشاء، وبقدر المستطاع. لم يعد الشباب يعني فقط الجمال والجاذبية الجسمية، والروح النضرة التي ترى مستقبلها أمامها. وإنما يعني أيضاً القدرة على الحركة والتغيير والتعبير عن الذات بأكثر الطرق وضوحاً وواقعية. ولهذا نجد أن الفئات العمرية المختلفة، تلك التي كانت تزهو وتتباهى بتفردها، راغبة في أن تكون الحدود الفاصلة بينها وبين هذه المرحلة مختلطة ومبهمة، وأصبحنا نرى من جيل الكبار من يرتدي ويتصرف ويتحدث بمفردات كانت يوماً قاصرة على عالم الشباب، وينظر الآخرون إليها على أنها مفردات عالم الطيش والنزق.

اليوم، أصبح من يعيش مرحلة الشباب شخصاً حكيماً يختار روح التحدي والمغامرة، ويحافظ على روحه نضرة جذابة. وإدراك الشباب لهذا منحهم ثقة أكثر بالنفس، وقدرة على التعبير عن آرائهم بصراحة ومن دون رهبة، بالإضافة إلى دفعهم نحو المحافظة أكثر على خصوصيتهم وتفردهم، فنجد أن المفردات الجديدة الطارئة على اللغة اليومية التي يستخدمها الشباب هي وسيلة دفاع وهجوم في نفس الوقت، تجاه عالم أراد أن يستبيح خصوصية مرحلتهم ويجعلها ملكاً عاماً.

يذكر الكاتب سمير عطا الله في مقال له بعنوان آباء وأبناء : … أسأل ابني ماذا يقرأ رفاقه من الشعر والأدب، فيقول بصراحة جيله: لا شيء . وماذا يعملون؟ زينب في ميريل لينش. وقيصر في البنك البرازيلي. ورشيد في مورغان ستانلي. ولؤي في السيتي. وميشا في بنك الباري با. والشعر؟ وحديقة اللوكسمبور؟ والدافودل الأصفر في الهايد بارك؟ لا. لؤي يعمل 12 ساعة، لأنه سيتقاعد في الخامسة والثلاثين. وميشا تعمل 12 ساعة لتضمن معرفة حركة الأسواق في أمريكا وآسيا. ورشيد يعمل في عطلة الأسبوع لأنه يريد أن يغير شقته. ألا يحلمون بمصافحة نزار قباني في آخر الأمسية؟ … وما يلاحظه الكاتب دقيق إلى درجة كبيرة، فقد ترعرع هذا الجيل على انهيار كل المثاليات التي عاش لأجلها جيل آبائه.

فهو في نهاية الأمر جيل واقعي، ولم يعد سهلاً على من كان مثله أن يقع فريسة حلم لا يستطيع تحقيقه، ولهذا نجده يصوغ أهدافه بدقة، ويختار قيمه بدقة، ويشكك في أمور كان يعتبرها جيل آبائه مسلّمات لا تقبل الشكك.

دور التكنولوجيا
من أهم العوامل التي قلبت موازين النظر إلى الشباب هو كون التكنولوجيا جزءاً مدمجاً ضمن حياتهم اليومية. هذا الجيل يدرك ما يتميز به مقارنةً بمهارات الجيل الأكبر سناً، فهو يلاحظ العناء الذي يتعامل به الكبار مع الأدوات التكنولوجية، وحاجز الرهبة ما بينهم وبين استخدامها. إذ يتمتع جيل الدوت كوم بمزية اعتبار التكنولوجيا جزءاً من واقعه وكينونته، وهي جزء من وجدانه الذي لا يستطيع أن يفكر أو يتحرك بمعزل عنه. فلم يعد الأمر مجرد التعامل مع التكنولوجيا وأدواتها بثقة، وإنما أضيفت إليه القدرة على الابتكار، وعلى استخدام التكنولوجيا في ساحات جديدة ومستويات أخرى. نتيجة لهذا، نشأ هذا الجيل على قدر عالٍ من الكفاءة، ولكنه في الوقت نفسه على قدر أعلى من التطلب والرغبة في الحصول على الأفضل. ومع قدرة الشباب على التحرك بحرية وراحة في عالم القرية الصغيرة ، نجد أننا أمام أشخاص يتمتعون بمصادر معلوماتية ومعرفية لا يستطيع الجيل الأكبر أن يتجاهلها أو يهضمها حقها. وبالتالي نجد أن الشاب الذي كان يتقدم ليشغل منصب ما في السابق متسلحاً بشهادة جامعية وحيدة، وبكم معرفي حصله عبر الكتب، متهيباً، متأملاً، يسعى للتلمذة على من سبقه في العمل من دون أن يفكر أن لديه ما يقدمه لهم سوى جهده وإخلاصه، قد تغير موقفه اليوم. فهو يدرك حقيقة أن الشهادة الجامعية لا تكفي، وأن ما لديه من مهارات ومصادر معلومات تعادل كفة الخبرة والحكمة التي يمتلكها الجيل الأكبر، ولهذا هو يطلب قدراً مساوياً من الاحترام والحقوق.

وفي الوقت نفسه، نجد أن نمط حياة هذا الجيل كان مليئاً بالأنشطة بدءاً من دراسته، ومروراً بهواياته المختلفة، وانتهاءً بحياته الاجتماعية الصاخبة، فلم يعرف نمط الحياة الهادئ الذي عرفه جده أو والده من قبله، بل كل ما يعرفه ويتكيف معه هو احتمالية حدوث التغيير في أي وقت. ونتيجة لأن التغيير هو العامل الوحيد الذي يثقون في استمراريته، نجد أن شباب اليوم قادرون على التكيف مع أي ظروف تستجد؛ ذلك لأنهم لا يتوقعون ثباتاً من أي نوع. وهم لذلك يستطيعون العمل بفاعلية وباتزان رغم التغيرات. ولديهم في الوقت نفسه القدرة على المجازفة بإحداث التغيير، دون أن يشكل هذا تهديداً حقيقياً لنظام حياتهم.

الكبار يعترفون
اكتشاف الشباب لكفاءتهم وقدرتهم على إحداث التغيير لم يكن ليكفي لولا إدراك الجيل الأكبر، من بيده سلطة اتخاذ القرار على نطاق واسع ، لقدرة هؤلاء الشباب على تولي القيادة، وكما يقول الكاتب أندريه موريس: أكثر خصال القائد أهمية هي أن يكون معترفاً به كقائد ، والمتأمل في مجريات الأمور، يجد أن مشاركة الشباب في تولي مناصب لم تكن متاحة بسهولة لهم فيما مضى، ليس شكلياً.

هذه الكفاءات الشابة تتمتع بأسلحة تحررية ومعلوماتية وتقنية تعطيها ميزة إضافية ليست لدى بقية المشاركين من الجيل الأكبر في فريق العمل. وبالتالي، فهي لديها حصانة نفسية ضد النقد وضد الإحباط أيضاً. وخلال السنوات الأخيرة تنبه الجيل المتقدم في السن إلى أن هؤلاء الشبان والشابات لديهم من الأفكار والاستنتاجات والخيارات الناضجة ما ليس لدى الكبار، أو على الأقل جديرة بأن تُحمل على محمل الجد، ولذلك تهيأ صاحب الخبرة أو الكفاءة من غير الشبان لكي يسمع أفكاراً مفاجئة في نضوجها وصوابها أحياناً، حتى وإن لم يستسغها كلياً أو لم يكن مستعداً لتقبلها لسبب أو لآخر. وتكونت لدى هذا الجيل عادات جديدة في معاملة الجيل الشاب، منها الاستعداد للموافقة على المقترحات الشابة بندية لم تكن معروفة فيما مضى.

شباب بدون إطار
وبعد أن كانت الخبرة هي العامل الأول الذي قد يحدد كفاءة الشخص من عدمها، أصبح قطاع الأعمال بمختلف فروعه يتوجه إلى الشبان ذوي الخبرة الأقل، أو من دون خبرة على الإطلاق. وذلك لأسباب منها أن هؤلاء يرحبون بالتغيير بمرونة قد لا يمتلكها صاحب الخبرة الذي أمضى سنوات من حياته يعمل ضمن نظام معين لا يود تغييره. ونجد هذا واضحاً في مقال نشرته مجلة Fast Company المختصة بقطاع الأعمال. إذ يكتب المحرر مخاطباً رؤساء الشركات: إن أردت أن تعمل شركتك خارج الإطار المعتاد، لم لا تتعلم العمل مع أشخاص لا يعرفون أساساً أن هناك إطاراً؟! . ونرى هذا الاتجاه لدى المراهقين الذين يعتمدون على التعلم الذاتي للحصول على مهارات تكنولوجية متقدمة، وتتكون لديهم أسئلة حول جدوى التعلم الجامعي في عالم تتغير فيه صناعة التكنولوجيا بسرعة ليصبح قضاء أربع سنوات من الدراسة الجامعية ضياعاً للوقت.

ونتيجة لإدراكهم أن العصر متغير، يتمتع الشبان الذين يلتحقون بسوق العمل اليوم بنوع من الذاتية إذا جاز التعبير. فهم لا يتوقعون من الشركات التي يعملون فيها إخلاصاً لهم، وهم بالتالي لا يتوقعون أن يكون هذا الإخلاص للشركة مطلوباً أيضاً، ليس بمعنى التصرف بقلة ولاء أو وفاء أو صدق في عملهم، فهم يتمتعون بأخلاقيات عمل سليمة ويعطون عملهم حقه، ولكنهم لا يرون قيمتهم في قيمة الجهة التي يعملون لأجلها، وإنما يرونها فيما يمتلكون من مهارات بالدرجة الأولى. غالبية هؤلاء لا يتوقعون أن تكون حياتهم المهنية مكرسة لوظيفة واحدة في شركة واحدة، وإنما يرونها كطريق متعرّج ينتقل من منصب إلى آخر، ومن مهارة إلى أخرى. وهذه الذاتية تدفعهم إلى رغبة محضة في إنشاء أعمالهم الخاصة، ففي استفتاء نشره مجلس أبحاث الرأي الأمريكي، دلت النتائج على أن 54 في المئة من الشبان ما بين الثامنة عشرة والرابعة والعشرين مصممين على تأسيس عمل خاص بهم، مقارنة بـ 36 في المئة من الجيل الأكبر ما بين الخامسة والثلاثين والرابعة والستين من العمر. وقدوة هؤلاء هو بيل جيتس الذي غادر مقاعد الدراسة الجامعية، ليتفرغ لإنشاء مايكروسوفت . وفي الوقت نفسه، نجد أن هؤلاء الذين يمكن أن نطلق عليهم روَّاد الأعمال الخلاقين، يصلون إلى مرحلة الدراسة الجامعية ولديهم خبرات عملية في عالم الأعمال تفوق تلك التي كانت لدى آبائهم أضعافاً مضاعفة. فمكتب العمل الأمريكي مثلاً يشير إلى أن نصف المراهقين ممن تجاوزوا الرابعة عشرة من العمر تقلدوا أعمالاً بسيطة مدفوعة الأجر، وتسعين في المئة من هؤلاء كانوا يعملون في إجازاتهم الصيفية، أما طلبة المدارس الثانوية، فيملك أكثر من خمسهم أسهماً يتاجرون بها.

ملمح آخر نراه في شباب اليوم، يختلفون فيه اختلافاً جذرياً عن جيل آبائهم، وأجدادهم. ففي الماضي، كانت الوظيفة تمثل أماناً من الفقر، ولهذا كان الجيل الأكبر سناً يحرص على الالتحاق بوظيفة وبالتالي الحصول على مرتب منتظم. أما جيل اليوم فلا تتحكم في اختياراته رغبته في الأمن المادي والوظيفي، بل إن الدافع الذي يحركه للالتحاق بوظيفة ما هو إجابة السؤال عما إذا كانت هذه الوظيفة ستتيح له فرصة الحصول على مسؤوليات حقيقية ومواجهة تحديات تنمو من خلالها مهاراته. ولطالما كانت القدرة على الصبر مرتبطة بسن النضج والحكمة، كما كان التململ مرتبطاً بسن الشباب والطيش. ولكن جيل الشباب اليوم هو أكثر تململاً من كل الأجيال السابقة. لم يكن لدى الأجيال السابقة قنوات تتيح لها التحرك بسرعة هائلة كما يفعل شبان اليوم. وما زلنا نتذكر انتظار النتائج الدراسية، أو البحث الطويل في المكتبة العامة عن معلومة ما. هذا الانتظار والترقب لم يعد شيئاً يستطيع الجيل الجديد فهمه أو هضمه، فالنتيجة الدراسية نستطيع الحصول عليها في دقائق عبر الإنترنت، والمعلومة التي نحتاج إلى معرفتها يتكفل جوجل بالبحث عنها في ثوانٍ، ثم يلقي إلينا بقائمة طويلة من المصادر التي نستطيع أن نرجع إليها من دون عناء. هذه القدرة على السرعة، ولدت لدى الجيل الشاب دافعاً لا يستطيع قهره لاستكشاف الجديد، والانتقال من تحدٍ إلى آخر من دون انتظار. وبينما كان الجيل الأكبر راضياً بقضاء ساعات طويلة في المكاتب، وسنوات أطول في شركة واحدة، أصبح الشاب اليوم يتطلع إلى موازنة الوقت في المكتب بحياته الاجتماعية ونشاطاته المختلفة خارج نطاق العمل. ونتيجة لهذا، تقدم الشركات الراغبة في توظيف الشباب خيارات مرنة مثل ساعات العمل القابلة للتغيير، والعمل عن بعد. ويتوقع المراقبون أن يصبح من النادر في المستقبل أن تجد موظفاً يقضي 20 سنة من حياته في شركة واحدة، وسنجد أن هذا المعدل سيتراوح ما بين الثلاث والخمس سنوات، وهذا لا يعني أن جودة العمل ستقل؛ إذ أن الشاب يدرك أن كل وظيفة هي درجة في سلم تقدمه العملي، ولهذا نجد أن التعلم المستمر هو أولوية بالنسبة له.

من الانتفاضات المثالية
إلى الواقعية والتنمية
عندما انتفض شبان فرنسا عام 1968م، أُخذ على هذه الانتفاضة توجهها نحو شخص بمكانة شارل ديجول الرئيس الوطني الفرنسي وقتها. ولكنها كانت في الحقيقة جزءاً من ظاهرة أوسع، فأولئك الشبان قاموا غاضبين على نظام اجتماعي متيبس في مناهجه الجامعية ومواقفه السياسية وغيرها الكثير. الفرق بين ظاهرة الشباب الفرنسي في الستينيات أن هذه الظاهرة كانت انفجاراً أولياً ضد مجتمع محافظ وأدواته الصارمة، وكانت انتفاضة متأثرة بأفكار مثالية، علماً بأن هذه الظاهرة التي أدت إلى مناخ جامعي أكثر حرية وانطلاقاً، تعتبر ثمرة لجيل تأثر بالتلفزيون منذ مولده، وأسهم في ابتكار الكمبيوتر والإنترنت وانتشارهما. أما ظاهرة شباب اليوم، فقد استفادت من التطور التكنولوجي، وأصبحت انتفاضتها تتم عبر ممارسة يومية للتواصل مع أدوات التكنولوجيا، وهكذا وجدنا جيلاً ينشأ ببطء في أوكار بعيدة عن الأنظار. شابٌ يختبئ في مربع تتكون زواياه من جسمه ولوحة المفاتيح وشاشة الكمبيوتر المقابلة. يتحول فكره من مثالي إلى واقعي، ومن ثوري إلى تنموي عبر قناة أخرى صقلت قدرة الشباب على اكتشاف ذواتهم، هي ساحات الإنترنت، حيث إن الشاب يتقدم للميدان، دون أن يسمع من يصرخ به متحدياً مستفزاً: هذا الميدان يا حميدان ! لا رقابة ولا تصيّد للأخطاء أو الإيجابيات من قبل الأكبر سناً، وحتى من قبل الأقران. الساحة مفتوحة لاتخاذ القرارات، ولديه القدرة على اختيار ما يريد من مجموعة اختيارات. فإن مارس الحياة في الواقع الافتراضي بما فيه الكفاية، لم يرض أن يقبل بالخيارات المقدمة إليه على طبق من ذهب، بل أراد أن يصنع هو اختياراته، إما بمشروع، أو بموقع إلكتروني، أو بتأسيس جماعة افتراضية ما. هذه الحرية الهائلة التي تتيحها الإنترنت تسمح لأقل الطبائع جرأة بمساحة واسعة لأن تمارس المبادرة بأكمل صورها. هنا، تستطيع أن تدلي برأيك كما تريد، وهنا تستطيع أن تخطئ كما تريد.. وكل خطأ يجوز أن ترجع عنه، وليس من الحتمي أن يعرفه أحد من الأهل أو المعارف. ومن خطأ إلى نجاح ومن نجاح إلى خطأ إلى نجاح، تنمو ثقة الشاب في ذاته، ويكتشف الصواب من الخطأ، ويقدم على اتخاذ القرارات من دون رهبة معيقة لتنفيذه. في الوقت نفسه، نجد أن الساحة الافتراضية أعطت الشبان فرصة لاختبار الرأي قبل الخروج والمناداة به في الواقع الفعلي. يضع الشاب رأيه ضمن الجماعة التي تشاركه اهتماماته، فيشارك من يشارك في النقاش، ويمكن أن يتمخض عن هذا النقاش مشروع كامل ينفذ فعلياً. ليس لأن الفكرة فقط كانت جيدة، بل لأن التواصل بين المهتمين بها سمح بتشكيل فريق عمل منسجم قادر على الإنجاز. كان التلفزيون للجيل الأكبر نافذة جديدة يطل من خلالها على العالم أجمع، ولكن الإنترنت تقدمت خطوة إضافية، وسمحت للجيل الحالي بأن ينتقل من مقعد المشاهد، إلى تمثيل أي دور يريد، وعلى أي مسرح يختار.

للعملة وجهان
في مقال بعنوان رِوِش طحن يقول د. أحمد خالد توفيق: الظروف القاسية التي يواجهها شبابنا، وعلامات الاستفهام التي تملأ المستقبل، ولَّدت فيهم تحدياً قد يتجاوز ما هو مطلوب أو صحي. إن لغتهم قد اتسعت لتحوي عوالم الميكروباص والكمبيوتر ومترو الأنفاق والإنترنت.. المعلومات كثيرة جداً.. الوجوه كثيرة جداً.. لا سبيل لاستيعاب هذا كله إلا بالسطحية والمزيد من السطحية.. كل شيء يجب أن يتم بسرعة وبلا تعمق… لقد تنبأ آندي وارهول – الفنان المجنون غريب الأطوار – بأنه في عام 2000م ستكون فرصة كل إنسان للشهرة ربع ساعة لا أكثر.. يمكن أن نقول أن نبوءته تحققت.. ويمكن أن نضيف إلى الشهرة أن كل معلومة.. كل رأي.. كل انفعال.. فرصته في البقاء ليختمر ربع ساعة لا أكثر.. ويبدو ما يقوله الكاتب منطقياً، ولكن علينا أيضاً ألا نغفل أن للعملة وجهين، وأننا نستطيع أن نجد من يتعامل مع كثرة المعلومات حولنا بسطحية تثير الدهشة بلا مبالاتها، في الوقت نفسه الذي نجد فيه من يتعامل معها بعمق يتجاوز مجرد المواكبة ليصل إلى القدرة على التصنيف والتحليل واتخاذ القرارات بسرعة تثير الدهشة.

ضمن تجربة رائدة أسسها ياسر مروة بعنوان محترَف إبريق الزيت ، وهو عبارة عن مجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم ما بين 8 و 15 سنة، يلتقون ويرسمون، ويمثلون، ويقرأون الشعر، دعا المحترَف الأطفال إلى التأمل في الرسوم المنتجة من قبل أطفال المحترَف، والكتابة من خلال تأملهم هذا عن حكايات حول حقوقهم، وقد صدرت هذه القصص في كتاب بعنوان نور . ومن أبرز ما يلفت الانتباه في هذا الكتاب، وهو ذاته ما علقت عليه السيدة سناء راضي رئيسة لجنة التحكيم في المشروع، هو مدى وعي الأطفال إلى واقعهم، بعيداً كان أم قريباً، وهذا الوعي المبكر هو نتيجة لقدرة الأطفال، الجيل الشاب بعد سنوات قليلة، على مواكبة المعلومات الهائلة التي تصلهم عبر وسائل الإعلام المختلفة.

أنتج وجه العملة الآخر، شباناً يتمتعون بمزايا يظهر تألقها في هذه المرحلة الانتقالية بالذات لأنها مرتبطة بنقيض لها هو الجيل الأكبر حيث إنه لم يعايش أدوات الاتصال الهائلة التي منحتها التكنولوجيا لأطفال الأمس شباب اليوم، بل اضطر إلى إدخالها على نسق حياته المعتاد، واستبدالها بما تعود عليه. لنتحدث مثلاً عن ولع الآباء بالحديث عن قدرات أبنائهم الخارقة في التعامل مع الكمبيوتر.. تأتي الأم إلى المربية لتسر لها بأن ابنتها البالغة من العمر تسع سنوات تجيد استخدام برامج مثل بوربوينت، وبالتالي هي موهوبة لا بد لها من عناية خاصة، ولا تلحظ هذه الأم المهتمة أن زميلات الصف كلهن يتعاملن مع الكمبيوتر بالقدرات نفسها وربما أفضل. لم؟! لأن هذه الفتاة تلعب في ميدان رياضتها المفضل، تعرفه وتحفظ ملامحه عن ظهر قلب، بالإضافة إلى أنها لا تحمل خلفيات الرهبة والهيبة من تعلم ما يجد من برامج الكمبيوتر، بينما لا تزال الأم تكافح لتتقن برنامجاً ما، وتنتقل إلى برنامجٍ آخر رغم استغراب فتاتها الصغيرة، ففي عرفها كل أدوات الكمبيوتر واحدة تقريباً، ومن يستطيع تعلم الوورد ، يستطيع أن يتعلم البوربوينت ، ولكن الأمر كما يقول مارشال ماكلوهان الجهل بكيفية استخدام المعارف الجديدة يتكدس فوق بعضه أضعافاً مضاعفة، وبهذا ينتقل مركز السلطة ولو جزئياً من يد الأب والأم إلى يد الطفل الذي يتعامل مع الكمبيوتر والأدوات التكنولوجية الأخرى كجزء طبيعي من واقعه، كما تفعل الأم أو الأب مع وسائل المواصلات مثلاً، بينما يظل الكمبيوتر بالنسبة لمركز السلطة المفترض في المنزل شيئاً لا بد من التعامل معه بحذر، خطوة بخطوة.

العمل التطوعي رغبة في التغيير
وهناك توجه آخر نشأ جيل العشرينيات فيه هو توجه العمل التطوعي، والمبادرة لأجل التغيير. وهذا التوجه بدا جلياً في تدافع الشباب على الالتحاق بالعمل التطوعي في الجمعيات والمؤسسات الخيرية، ثم إنشاء جماعات للعمل التطوعي لخدمة أغراض إنسانية تراها كل مجموعة هدفاً يستحق العمل لأجله، ومن تتبع برنامج مثل برنامج صنّاع الحياة الذي قدمه منذ فترة الداعية المصري عمرو خالد، رأى أن البرنامج لم ينجح فقط لطابعه الديني، ولكن لاستفادته من دافع مهم يحرك شباب اليوم، وهو العمل التطوعي وتمكينهم من التغيير. ونرى الأمر ذاته في تجاوب الشبان مع البرنامج التلفزيوني يللا شباب الذي قدم للشباب، عن طريق العنوان والمضمون، مفهوماً جديداً للعمل الحركي التنموي. وهذه الكثرة في ممارسة الشباب لعملية المبادرة واتخاذ القرار أهلتهم للحياة العملية وصقلت قدراتهم في الحكم على الأمور.

طاقية الإخفاء.. إلى السقوط
إذن، هل الشباب على الباب، فعلاً؟
بفضل العولمة، فإن ما يسري على دولة صانعة للثقافة العالمية كأمريكا، يسري على أية دولة أخرى ولو متأخراً. موجة الشباب الكفؤ الذي يتولى قطاع الأعمال هي موجة عالية بدأت بالفعل في غمر أمريكا، وبعض دول العالم الغربي، ولكننا في نطاق واقعنا الشخصي نراهم هنا وهناك على الباب، في تجارب صغيرة أو كبيرة على صفحات الإنترنت، ونراهم في عالم الصحافة في تجارب أخرى يحررون مادتها، ويخرجون شكلها الفني، ويقودون طريقها لتحقيق رؤاهم الخاصة، ونراهم في منصب قيادي، في هذه الشركة أو تلك، ونراهم في منظمات خيرية تطوعية تهدف إلى تغيير واقعي ترسمه نظرتهم المختلفة إلى الأمور. خطابنا عن شبابنا العربي خطابٌ متفائل لم يمتلك ثقةً كاملة فيما لديه، مستعجل فرح، مهتز.. يتلبس بلباس المعرفة والوقار أحياناً، ويرتدي طاقية الإخفاء خجلاً، أحياناً أخرى.

الشباب العربي..
من الظل إلى النور
نرى كفاءات عربية شابة ولا نراها. نتساءل عما إذا كانت النماذج التي نراها ضمن نطاقنا الشخصي الضيق هي نماذج معدودة لا تمثل شريحة حقيقية من شباب أنهكهم النقاد والتربويون بتهم السطحية والخواء أم أن هؤلاء هم طليعة مد قادم؟ ثم نرى منتدى عقدته منظمة القيادات العربية الشابة في ديسمبر الماضي، فنتوقف أمام الحدث، ونعرض نماذجاً تبشر بالخير.

منظمة القيادات العربية الشابة هي منظمة غير ربحية تأسست في دبي عام 2004م بمبادرة من الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، تتكون من قادة عرب في مختلف المجالات كقطاعات الأعمال والإعلام والرياضة والصحة، يجمعهم على اختلافهم إدراكهم عبر التجربة الشخصية ما يمكن أن تحققه كفاءة الأداء العملي، والمبادرة في سن مبكرة من نجاح وتميز. ولكي تكون عضواً في هذه المنظمة عليك أن تكون قائداً فعالاً في مجال تخصصك، وأن تكون مؤمناً بالعمل لتفعيل دور الشباب العربي وإعداده لتولي القيادة العربية المستقبلية في مختلف القطاعات.

منظمة أخرى تؤمن بالقيادات الشابة هي شبكة دعم الأعمال العربية ، وهي مبادرة مشتركة بين شركة دبي القابضة ومنظمة القيادات العربية الشابة. تقوم هذه الشبكة بتشجيع رواد الأعمال الشباب، وتكميل المهارات الإدارية لديهم وتقديم الدعم المادي لمن تثبت قدرته على الاستثمار.

ننتقل لنتفحص عن قرب تجارب عربية شابة بدأت افتراضية واكتمل تأثيرها واقعياً.

وقد تكون تجربة عبدالله الشرهان، تجربة رائدة في هذا المجال.

عبدالله شاب إماراتي درس إدارة الأعمال، ويعمل حالياً في إحدى أكبر شركات التسويق الإماراتية. وبالإضافة إلى عمله يرسم عبدالله ويؤلف سلسلة كرتونية معنونة باسم بطلها سوكوول، وهدف هذه السلسلة هو إيصال الرسائل التربوية أو التوجيهية من نفس مستوى الناشئ في صورة صديق له، قريب منه في المظهر والتصرفات. أسست شركة سوكوول في بداية العام 2005م، وتبع ذلك إطلاق بوابة إلكترونية للسلسلة تتيح للشباب المساهمة في إنتاجها، وتحوي ضمن فروعها أكاديمية إلكترونية لتعلم الرسم الكرتوني.

تجربة أخرى تمثلها عشرينات ، والكلمة لها مدلولها الواضح في واقع شبكة الإنترنت، فهي صحافة يفترض أن تهم شباب العشرينيات، ويحررها ويخرجها أيضاً شباب في العشرينيات. بدأت عشرينات كتجربة مؤلفة من فريق مصري شاب، هو ببساطة يرغب في أن ينتمي إلى صحافة يرى نفسه ممثلاً فيها بواقعية وصدق ويدعو الشباب من مختلف الدول العربية للمشاركة معه. اليوم، نجد تقارير عشرينات الصحفية من كافة الدول العربية.

تجربة أخرى يمثلها أصحاب المدونات العربية، يقدمون فيها يوميات لحياتهم كما يرونها. من بين هذه المدونات شخصيات برزت بصفتها الأكثر فاعلية في مجتمع المدونين الافتراضي والفعلي، فظهرت بهية ، وهو موقع مدونة صحفية سياسية فوجئ الكثيرون من متابعي الكاتب المصري محمد حسنين هيكل عندما قال على شاشة قناة الجزيرة: فيه ظاهرة في الإنترنت، المجتمع اللي إحنا مش شايفينه أمامنا، فيه واحد بيكتب باسم مستعار، اسمه بهية، معرفش مين بهية دي، لكن والله أنا بطلب من مكتبي يدونوا لي مقالات بهية كل ما تطلعله مقال أنا بقرأه باهتمام وباحترام أكبر مما بقرأ لأي صحفي في أي جريدة ومدونة بهية يكتبها ثلاثة شبان مصريين اختاروا الاسم رمزاً لمصر.

ومن مصر إلى السعودية، حيث تعرض مدونة سواليف فرح التي تكتبها الطالبة السعودية ذات العشرين ربيعاً، وتقدم سواليف فرح صورة نقدية طبيعية عن مدينة الرياض كتابياً وفوتوغرافياً، وقد توجت صحيفة الإندبندنت البريطانية مدونتها كمدونة أسبوع كامل من شهر يونيو 2005م.

تجربة أخيرة في سياق التدوين الافتراضي، هي تجربة محمد سعيد احجيوج، المعروف في عالمه الافتراضي بـ م. س. احجيوج، وهو في عمر منصور العتيق. يصدر الأديب المغربي احجيوج – رئيس تحرير جريدة طنجة الأدبية – مجلة بعنوان التدوين بلا حدود ، يجمع فيها ما تميز من مقالات المدونين العرب بعد الاتفاق معهم. تقرأ في المجلة وعياً متجدداً بعيداً عن الأطر الجامدة التي اعتدنا رؤيتها في غالبية الصحف العربية، وترى بين صفحاتها انعكاساً لواقع افتراضي تسهل عملية تفهم ملامحه لمن لم يندمج بعد فيه.

وعلى صفحات الإنترنت نجد أيضاً منظمة شبابية عالمية بعنوان Taking IT Global ، ويصف موقعها المنظمة بأنها منبر على الإنترنت للأفكار والتعبير الحر، ومصدر لتوفير الفرص، بالإضافة إلى كونها شبكة متصلة من الشباب النشط ومشروعاتهم الملهمة. منسقة القسم العربي إيمان عبيد، وهي فتاة مصرية لم تتجاوز الثالثة والعشرين من عمرها، نجحت في التنسيق بين أربعين شاباً وشابة من مختلف دول العالم العربي لإنشاء الموقع العربي للمنظمة، وبالتالي السماح لأعضائها من الشباب العرب، التنسيق بين بعضهم البعض في إقامة الفعاليات التي تعبر عن مواقفهم من القضايا العالمية المختلفة على أرض الواقع.

أضف تعليق

التعليقات