«الجبيل مدينة تاريخية عريقة» هو عنوان استطلاع أعدَّه سليمان نصر الله ونشرته القافلة في عددها لشهر ربيع الآخر 1392هـ (مايو / يونيو 1972م) وتركَّز بشكل أساسي على تاريخ المدينة. وفيما يأتي مقتطفات منه…
الطريق إلى الجبيل مسفلتة، وهي تخترق سبخات متصلة واسعة تتخللها تلال مغطاة ببقايا أشجار النخيل مما يحمل على الاعتقاد بأنها كانت مأهولة في زمن مضى. وفي الربيع تكتسي الأرض، بعد أن يجودها الغيث بالكلأ الأخضر، فتبدو خلابة بجمالها الطبيعي الأخاذ، وقبل مدينة «الجبيل» بنحو 15 كيلومتراً يقع «الجبيل البري»، وهو جبل صغير على يسار الطريق يقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة الجبيل، ويرتفع عن سطح البحر 93 متراً. والوافد إلى مدينة الجبيل يجد نفسه في مدخل «شارع الصفاة» الذي تحف به الأنوار والأشجار التي غُرست حديثاً، وهو يخترق الجبيل من وسطها حتى يفضي إلى مبنى الجمارك والميناء التي تربض فيها «السنابيك» و«الجلابيت» وغيرها من القوارب..
يعتقد بعض سكان مدينة الجبيل أن الاسم الذي تُعرف به الآن هو مستحدث نسبياً، ولم يلتصق بها إلا منذ نصف قرن تقريباً، وأنها كانت تُعرف قبل التسمية الجديدة باسم «عينين»، وهو الاسم الذي لا تزال تردده أواسط نجد وشمالها. ويذهب البعض الآخر في تعليل اسم «الجبيل» إلى أنها اكتسبته من موقعها بين «الجبيل البري» و«الجبيل البحري».
في تاريخ الجبيل
ويرى بعض المؤرِّخين أن الفينيقيين أقاموا في بادئ الأمر في جزيرتي «تيروس» التي هي «تاروت» الآن و«آراد» إحدى جزر البحرين والتي تُسمَّى الآن «عراد»، ومن ثم انتشروا على ساحل الخليج وأنشأوا مدناً عامرة. ولم يقتصر نشاطهم التجاري على مياه الخليج، بل امتدَّ نفوذهم إلى البحر المتوسط وأقاموا لهم على سواحله وفي جزره مدناً ومستوطنات عديدة تشبه في أسمائها المدن التي أنشأوها على سواحل الخليج العربي لتذكرهم بموطنهم الأول. حتى أنهم، بعد نزوحهم إلى الشمال، اتخذوا من عسيب النخل شعاراً لهم ورمزاً لدولتهم التي اتسعت رقعتها، فصوروه على مسكوكاتهم وأوانيهم.
ازدهرت الجبيل إبان العصور الإسلامية المتعاقبة كمرسى تجاري على الخليج العربي الذي أصبحت تحوطه دول إسلامية وبلغت فيه التجارة أوج ازدهارها بفضل استتباب الأمن وتوفر الحماية، فغدا الخليج همزة الوصل بين الشرق والغرب. ثم جاء البرتغاليون في مطلع القرن السادس عشر وبسطوا نفوذهم على الخليج العربي وسيطروا على هذا الممر الحيوي واحتكروا تجارة اللؤلؤ، وأسسوا لهم مراكز دفاعية في كثير من مدنه وموانئه. ولم يلبث أن وفد الأتراك إلى هذه المنطقة حوالي منتصف القرن السادس عشر وتغلبوا على البرتغاليين وأجلوهم عنها. وعاشت هذه المنطقة ردحاً من الزمن نهباً للفوضى ومسرحاً للمنازعات إلى أن استولى جلالة الملك الراحل عبدالعزيز آل سعود على الأحساء وطرد الحامية التركية عام 1913م (1331هـ) وبذلك ساد الأمن والرخاء والاستقرار.
نافذة الأحساء ونجد
بلغت الجبيل من الازدهار والرخاء ما لم تبلغه مدينة بحرية في المنطقة الشرقية قبل اكتشاف البترول. فقد كانت الميناء الرئيسة لنجد والمنطقة الشرقية.
فقد كانت هذه الميناء تعج بالنشاط والحركة. تؤمها القوارب الشراعية من الهند والبحرين والكويت والبصرة وإيران محملة بالبضائع من أقمشة ومواد غذائية ومحروقات، فتلقي مراسيها في فرضة الجبيل لتفرغ أحمالها، ومن ثم تتولى سفن الصحراء نقلها إلى قلب الجزيرة العربية.
مهنة تتلاشى
وكانت الجبيل من المراكز الرئيسة على الخليج العربي لصيد اللؤلؤ. فقد عرف عن أهلها منذ فجر التاريخ ركوبهم البحر والتوغل فيه واقتحام أهواله غير عابئين بما يعترضهم من مخاطر وصعاب، حتى أصبح يطلق عليهم «سادة الشراع». ومهنة الغوص لاستخراج اللؤلؤ من المهن التي مارسها أهل الجبيل كمصدر رزق لهم. فعندما يحين موسم الغوص الذي يمتد عادة من شهر مايو إلى شهر أكتوبر يتأهب البحَّآرة والمشتغلون بالغوص لهذه المناسبة التي تُعد من أكثر المناسبات إثارة وأشدها خطورة، ويعدون لها كل ما يحتاجون إليه وهم في عرض البحر، كيف لا وأن بريق اللآلئ القابع في قعر البحر يداعب مخيلاتهم ويستحوذ عليهم، فقد يعود واحد منهم بثروة ضخمة وآخر بخفي حنين، وثالث قد لا يعود…
اليوم
رغم الانحطاط في الحركة العلمية والأدبية الذي ابتليت به هذه المنطقة خلال العهد التركي، نجد أن أهل الجبيل يُقدِّرون العلم حقَّ تقدير، ولذا فقد وجدت في الجبيل كتاتيب كثيرة واكبت ازدهار الحركة التجارية فيها في الأزمان الماضية. وبعد أن وطَّد الملك الراحل عبدالعزيز، طيب الله ثراه، أركان الحكم في هذه المنطقة، واستتب الأمن وعمَّ الاستقرار أمر بفتح أول مدرسة فيها عام 1357هـ، أطلق عليها «مدرسة الجبيل الأميرية»، ثم تغيَّر اسمها إلى «مدرسة عبدالعزيز آل سعود». وفي عام 1375هـ، افتتحت مدرسة متوسطة بدأت بحوالي 25 طالباً. ومع الإقبال الشديد على التعليم افتتحت الحكومة عام 1381هـ «مدرسة فيصل بن عبدالعزيز الابتدائية». ولم تغفل الحكومة تعليم الفتاة في الجبيل فافتتحت فيها عام 1383هـ مدرسة ابتدائية، ثم معهداً متوسطاً عام 1386هـ تخرَّج فيه 25 طالبة. وتضم مدارس الجبيل في العام الدراسي الحالي نحو 1500 طالب وطالبة.
وبلدية الجبيل تعمل كل ما وسعها من جهد لإبراز المدينة في المظهر اللائق بها، فتشق الشوارع وتغرس الأشجار وتنشئ الحدائق والمتنزهات العامة وتنظم الأسواق. وهي ماضية في خطتها لتجميل المدينة بإنشاء كورنيش على طول الشاطئ سيبدأ تنفيذه قريباً. وأبناء الجبيل إزاء ذلك التطور ينظرون بعين التفاؤل إلى مستقبل مدينتهم مع المشاريع الحيوية التي ستتبنَّى الدولة تنفيذها هناك.
ونحن إذ نودع الجبيل نردد مع الشاعر منصور علي منصور وصفه لها:
يحيط بها النخيل وقد تعالى
تلوح قطوفه رطباً جنيَّا
يلطفها نسيم البحر صيفاً
وتلبس من لآلئه حليا
أفاض كنوزه فيها وألقى
لها من صيده طريا