قول في مقال

الثقافة الإعلامية
حل، أم ترف؟

الوسائط الإعلامية التي أفرزتها التكنولوجيا الحديثة باتت تلعب دوراً أكبر بكثير من أن يختصر بـ صراع الأجيال حول التلفزيون. ومهما كان الموقف من الثقافة الإعلامية، فلا شك أن استثمار المكامن الإيجابية فيها يقع على عاتق التربويين. الزميلة فاطمة الجفري تناولت هذا الموضوع المهم فيما يلي.
تتعامل الأسرة بمختلف أفرادها مع التلفزيون بطرق مختلفة. الوالدان؟ عداء وحذر وتربص، تحسباً لأي خطر قد يتعرض له الأبناء أطفالاً كانوا أم مراهقين عبر القيم التي تبثها شاشته الفضية. عنف، جنس، تمرد، سوقية، سطحية.. وما إلى ذلك من أخطار لا تنتهي، يحاربها الوالدان بكل ما أوتيا من قوة وسلطة، ومع هذا يعلمان أن قضيتهما في نهاية الأمر لن تسلم من الخسارة. الأبناء، يحبون كل ما يبثه الجهاز السحري فالأطفال يتسلون، والمراهقون يعتبرونه المنهج الدراسي الأول الذي يجدون فيه ما يريدون وما لا يريدون من أجوبة ترضي فضولهم.

وتمضي الأيام، ويرتاح آباء، ويكبر أبناء، وتنشأ أسر جديدة ليصبح القلق وظيفة آباء آخرين.. ولكن الحرب الشعواء على التلفزيون فيما يتعلق بالأبناء وقيمهم التربوية والأخلاقية لم ينطفئ أوارها بعد. المشكلة، أن القلق التقليدي مما يبثه التلفزيون لم يعد كافياً، فعلى التربويين الآن أن يواجهوا أعداءً آخرين كالإنترنت، وحرية النشر، و الألعاب الإلكترونية، والأفلام السينمائية، والأغاني، وألعاب الأطفال، أزياء وإكسسوارات الشباب، وغيرها كثير.

في عالم تغمره التكنولوجيا من كل جانب، يصبح من الصعب أن نغلق على عالمنا الضيق الباب وندعي أننا قد أفلتنا من مسخ التلفزيون، أياً كان هذا المسخ، مادمنا قد أطفأنا الجهاز فوراً بعد انتهاء البرنامج الذي يرتقي إلى معاييرنا الصارمة.

العالم الغربي أدرك هذا مبكراً، ففي السبعينيات من القرن الماضي بدأ اتجاه جديد في عدد من الدول الأوروبية كبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية وكندا، لاستضافة كل ما يؤثر في رؤية النشء لأنفسهم وللعالم الخارجي في الفصل المدرسي، والتعامل معه في حوار صريح ومفتوح بين التربويين والطلبة. هذا الاتجاه سمي بالثقافة الإعلامية (Media Literacy).

عرف دايفيد كونسيدن الثقافة الإعلامية بأنها القدرة على متابعة وتحليل وتقييم المعلومات، بالإضافة إلى القدرة على توصيل المعلومات أو الرسائل عبر وسائط إعلامية مختلفة سواء أكانت مطبوعة أم غير ذلك. في وقت قريب، كنت أستكشف عالم مدونات شبكة الإنترنت، أو ما يعرف باسم البلوجرز، حينما قادتني خطواتي إلى مدونة بعنوان مع نفسي تكتبها غادة محمد محمود، صحفية مصرية في الحادية والعشرين من عمرها. إحدى مدونات غادة كانت بعنوان مصر مش كده احتجاجاً على إعلان تلفزيوني يروج للسياحة في مصر تقول عنه غادة إنه يختصر مصر في أنشطة معينة لا توافق عليها. نتيجة لهذه المدونة، ولرمز مرافق صممته صاحبتها نشأت مجلة نصف شهرية على شبكة الإنترنت هدفها إيصال الرسالة التالية: مصر مش كده، بل هي كذا وكذا وكذا.

سواء اختلفت مع فكرة المجلة أو اتفقت، فأنا لا أستطيع إلا أن أحترم كون المشاركين في كتابة مصر مش كده أصبحوا التغيير الذي أرادوا من العالم اعتناقه، بدلاً من الاكتفاء بمهاجمة فكرة الإعلان، وانتظار وزارتي السياحة والإعلام المصرية لتقدم اعتذاراً رسمياً عما يطرحه الإعلان أياً كان مضمونه.

ما الذي دفع صاحبة الفكرة وزملائها للقيام بالمبادرة بدلاً من انتظار التغيير؟ قد يشير البعض إلى مهنتها كصحفية، ولكن زاوية أخرى للأمر قد تكون مثار نقاش. الأمر أكبر من مجرد واجب تمليه عليها مهنة ما. غادة وزملاؤها، بمفهوم دايفيد كونسيدن مثقفون إعلامياً، ولهذا لم تكتف غادة بمشاهدة الإعلان، بل تحولت من مستهلكة للرسالة الإعلامية التي يطرحها، كملايين المشاهدين من العالم العربي، لناشطة عملت على تحليل هذه الرسالة، وتقييمها بناءً على مفاهيمها الأخلاقية، ثم تفاعلت أكثر لتصل رسالتها إلى العالم وتقول لنا إن بلادها مش كده .

كيف؟!
نسمع كثيراً عن أن الأمية في هذا العصر لم تعد أمية القراءة والكتابة بل أصبحت أمية الكمبيوتر، ولكن قدرة المرء على استخدام الكمبيوتر فقط لا تجعله مثقفاً أيضاً بمفاهيم هذا العصر.. فالحضارة السائدة أصبحت تعتمد على الوسائل الإعلامية المتعددة الوسائط في التعبير عن نفسها، والتواصل مع الآخرين. السؤال هنا: كيف نطلب من أبنائنا الاستمرار في حياتهم المدرسية أو عزلتهم المدرسية، يدرسون تاريخ بلادهم، ويتعلمون طرق حل المعادلات، ويتمرنون على قراءة الشعر الجاهلي والحديث.. وغير هذه من العلوم الأساسية، ونغفل ما يعايشونه يومياً في فناء المدرسة، وفي الأحاديث الدائرة بين أقرانهم، وخارج المدرسة من ثقافة إعلامية.. بدءاً من أحدث فيلم أمريكي يطرح في الأسواق، ومروراً بالإعلانات التجارية التي تحرمهم من الانتماء إلى هذه الفئة أو تلك إن لم يبتاعوا هذا أو ذاك، وانتهاءً بآخر مقالة أو قصة وصلت صناديق بريدهم الإلكترونية؟ كيف نطلب منهم المقاومة، وعدم استهلاك هذه الثقافة السائدة من دون وعي إن لم يقف التربويون ويناقشوا ما يدور على الساحة بحيادية وبعيداً عن دور الواعظ فيما ينبغي وما لا ينبغي علينا استهلاكه.

إذن، هل يكفي أن تتناقش معلمة اللغة العربية مثلاً مع طالباتها حول الحلقة الأخيرة من ذلك المسلسل المكسيكي؟ هل يكفي أن يناقش تربوي آخر وليكن معلم اللغة الإنجليزية أغنية راب مع طلابه؟

كبداية للوصول إلى الطريق الصحيح؟ لا بأس بهذا على الإطلاق. غير أن دمج الثقافة الإعلامية في الفصل المدرسي يستلزم أكثر من مجرد الحديث العشوائي أو غير العشوائي عما يقدمه الإعلام للطلبة. الهدف في النهاية هو بناء مهارات التفكير الناقد لدى الطلبة، وتفعيل الدور الذي يستطيعون لعبه في التعبير عن مشكلاتهم وقضاياهم واختلافهم مع الإعلام أو اتفاقهم معه.

ما هي مهارات التفكير الناقد المقصودة؟

هي القدرة على التفكير الواعي الباحث عن معنى إيجابي لتواصلنا مع الإعلام، وهذا التفكير عملية مستمرة تبدأ بالأسئلة وتستمر باتخاذ الموقف المتشكك الفضولي المثابر الذي يرغب في الحصول على معنى. دور التربوي إذن في هذه المرحلة يكون طرح الأسئلة، وتشجيع الطلبة على طرحها، والتذكير بأن الأمر لا يتعلق بالإجابة الصحيحة فكل منا يرى المعنى من وجهة نظره، ولكن الأمر هنا يتعلق بطرح السؤال الصحيح كقدرة طالبة في الصف الثاني ثانوي مثلاً على تحليل أغنية لكاظم الساهر عن طريق طرح أسئلة كـ: ما هي نظرة الشاعر للمرأة؟ أكان تصوير الأغنية مناسباً لجمهور كاظم الساهر؟ لم اختار المطرب هذا اللحن، وهذه الكلمات ليقدمها في هذا الوقت بالذات؟ هذه الطالبة تستطيع أيضاً أن تربط كل هذا بقيمنا ومفاهيمنا كمسلمين، أو عاداتنا وأعرافنا كعرب.

انتشرت في الأشهر القليلة الماضية موضة ارتداء الأساور المطاطية الصفراء بين أوساط المراهقين. كلما كنت أرى من يرتدي هذه الأساور كنت أطرح سؤالي عرضاً: لِمَ ترتدي الأسورة؟ أهي آخر صرعة في عالم الإكسسوار، أم أنها ترمز إلى شيء معين؟ وكانت الإجابة دائماً: لا أعرف . ليست المشكلة عدم معرفة الشاب بما ترمز إليه الأسورة من التعاطف مع مرضى السرطان، ولكن المشكلة أن أحداً ممن سألت لم يفكر في طرح السؤال قبل أن أطرحه عليه. على التربوي أن يتذكر أن تواصل الطلبة مع الإعلام ربما وازى أو تفوق على تواصله معه. تدريس الثقافة الإعلامية لا يتعلق بقدرة التربوي على متابعة كل ما ينشر أو ما يقدم إعلامياً بل يتعلق بقدرته على ممارسة التفكير النقدي المتسائل دائماً وإرشاد طلابه ليصلوا إلى مرحلة يستطيعون فيها ممارسة هذا التفكير بأنفسهم كجزء من حياتهم اليومية.

نتيجة أخرى لتدريس الثقافة الإعلامية هي قدرة الطلاب على التعبير عن قضاياهم عبر وسائل الإعلام المختلفة. في مهرجان الأفلام المدرسية الرابع الذي أقيم في لبنان، عرض الطلبة مشكلاتهم في أفلام مختلفة قاموا بكتابتها وإخراجها بشكل مستقل. أغلب الأفلام الفائزة كانت تتحدث عن المخدرات، كمشكلة تواجه طلبة المرحلة الثانوية في لبنان. ماذا لو منح الطلبة في أنحاء العالم العربي الفرصة لأن تسمع أصواتهم عبر وسائل إعلام جذابة هي محط اهتمامهم؟ النتائج في تصوري ستكون إيجابية كما رأيتها من خلال المقابلة التلفزيونية مع الطلبة الذين اشتركوا في المهرجان. ففي مرحلة العمل على إخراج الفيلم أو الموقع الإلكتروني على سبيل المثال، سنجد أن التعلم التعاوني هو الأسلوب السائد، فالكل يدرك أن الغاية في النهاية ليست التنافس، وكل وجهة نظر تسهم في عمل الفريق. سنجد أيضاً اختلافاً في مستوى تقدير الذات لدى الطلبة، نتيجة للانتماء إلى الجماعة والعمل على مشروع هو من صميم اهتمامهم. وفي النهاية، سنجد أن الطلبة قد نهضوا من كراسي المشاهدين السلبية، وأصبحوا أبطال المسرحية، يقولون ما يريدون، ويعكسون واقعهم بدلاً من الاستسلام لواقع مختلف عنهم.

أضف تعليق

التعليقات