يُقاطع به كلام الخطيب، ويُختتم به العرض الفني، تُستقبل به الشخصيات الكبيرة، ويُستكمل به تحقيق الأهداف في ملاعب كرة القدم.. إنه التصفيق. هذا الفعل المنتمي إلى لغة إنسانية واحدة، ويعني عادة تحبيذ قول أو فعل أو عمل أو شخصية، من قبل مجموعة أناس مدعوين علناً أو ضمناً إلى اتخاذ موقف. ولكن إضافة إلى معناه التحبيذي أو الترحيبي، فإن لفعل التصفيق دلالات عديدة مختلفة ومتناقضة، وآداب تطورت بتطور الثقافات.
عن التصفيق ودلالاته يحدثنا فائق حمصي وإلياس سحّاب.
ما من مراجع حددت للتصفيق بداية معينة.. إذ يبدو حسب كل الدلائل أنه ولد بصورة عفوية كجزء من السلوك الإنساني. ومن غير الممكن أن يكون التصفيق قد عنى منذ بدايته ما عناه في أغلب الأحيان: التعبير عن التحبيذ والإعجاب.
في البداية كان التصفيق إشارة سبقت الكلام.. كان فعل مناداة، أو اجتذاب للحيوانات لكي تتقدم وتقع في فخ يُسهّل اصطيادها، أو زجراً وتحذيراً، وربما تضمن صوت ضرب الكفين ببعضهما تلويحاً بالضرب.
ولأن التصفيق هو حركة وبعث صوت ما في الوقت نفسه، سرعان ما اتخذ دلالات أكثر خصوصية، ولا سيما مع ظهور اللغة – حتى في بدايتها – فصار التصفيق تعبيراً عن صخب ما للفت النظر، ومن ثم للتعبير عن الإعجاب.
وفي يقيننا أنه من الصعب ربط بدايات التصفيق المعبر عن الإعجاب بأمة معينة.. خاصة وأن في إمكاننا أن نعثر على إشارات إليه، وغالباً في مجال تحبيذ جمع من الناس لما يفعله فرد منهم، في الملاحم القديمة من جلجامش إلى المهابهاراتا مروراً بالأدويسة والإلياذة وغيرهما. ونعثر على التصفيق أيضاً في محاورات أفلاطون، ولا سيما حين يختتم سقراط – بطل تلك المحاورات – عبارة ما، فيعبر الحاضرون عن موافقتهم بواسطة التصفيق.
وفي هذا الإطار، حسبنا أن نقرأ مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير، حيث يطالعنا فعل التصفيق في واحد من أروع مشاهدها.. بل لعله المشهد الأكثر دلالة على ديماغوجية الساسة في تاريخ المسرح: إثر مقتل قيصر، يقوم سجال خطابي بين بروتوس وأنطونيوس أمام الجمهور. كل منهما يحاول أن يقنع هذا الجمهور بصواب رأيه: بروتوس بضرورة قتل القيصر، وأنطونيوس يشجب تلك الجريمة. فهنا نجد أنفسنا أمام منطقين وخطابين شديدي الذكاء.. أما الجمهور، فإنه يستخدم التصفيق مع الهتاف ليعبر عن رد فعله. والمهم في الأمر أن هذا التصفيق هو ما كان يسعى كل من الخطيبين إلى اجتذابه؛ لأنه في تلك اللحظة كان يعني موقفاً سياسياً محملاً بالدلالات.
تعدد الدلالات
والتصفيق كان دائماً محملاً بالدلالات.. في مجالات السياسة كما في مجالات الفن، وله تقاليده أيضاً. والحقيقة أن التفاوت في مستوى تحريك اليدين خلال التصفيق، لا يقل أهمية في دلالاته عن طول الفترة التي يجري التصفيق خلالها.. وكذلك في عدد المرات التي يصفق فيها الجمهور عند نهاية عرض فني معين.
ومن الأمثلة الشهيرة التي يمكن ذكرها في هذا المجال عازف الجاز الشهير مايلز دايفيس الذي استعيد إلى خشبة المسرح ستاً وثلاثين مرة، بتصفيق كان يزداد حدة في كل مرة، خلال حفل قدمه في المسرح الوطني اللندني عام 1971م. وهو العدد نفسه تقريباً الذي استعيد به العازف روستروبوفيتش على خشبة المسرح نفسه حين قدم أولى حفلات عزفه في العاصمة البريطانية بعد مبارحته الاتحاد السوفياتي هارباً. وهنا، في حالة روستروبوفيتش كان التصفيق فنياً بالطبع، ولكنه كان أيضاً تعبيراً عن موقف سياسي.
ويمكن لمن يحب أن يتوغل في الأمر أن يجد للتصفيق دلالات عديدة غير دلالته الترحيبية، مثل تغطية موقف حرج يتعرض له شخص له مكانته، كالشاعر الذي خانته الذاكرة وهو يلقي قصيدة، فتلعثم وارتبك وسكت.وفي هذه الحال ينم التصفيق عن تهذيب كبير. وفي المقابل، فإن صفقة أو اثنتين ترميان إلى استدعاء نادل في مقهى، باتت اليوم تعتبر أمراً مهيناً ومستهجناً، بعدما كانت هي النظام السائد قبل جيل أو جيلين.
التصفيق في المسرح
من المرجح أن المسرح يشكل واحداً من أفضل المجالات التي تسمح لنا بإضاءة أكبر عدد من جوانب فعل التصفيق والغوص في تفاصيله.
يعود تاريخ التصفيق في المسرح إلى العروض المسرحية الإغريقية، إلا أن هدفه لم يكن إبداء الاستحسان، نظراً لأن حضور المسرحيات كان واجباً اجتماعياً، بل كان يتم في نهاية العرض، وبطلب من أحد الممثلين لتحية الممثلين في بعض الأحيان. أما جمهور المسرح الروماني فعرف نوعاً من التحيّة في نهاية العرض، أطلق عليها بعض الباحثين تسمية التصفيق الصامت، وهي عبارة عن وقوف المشاهدين والقيام بحركة باليدين تشبه إرسال القبل للمؤدين، ولم ينتظم التصفيق، كما نعرفه، إلا في عهد الإمبراطور “أوغست”، في مستهل القرن الميلادي الأول، وخاصة في العروض الشعرية، حيث كان أحد الموسيقيين، وعند نهاية العرض، يعطي الطبقة الصوتية التي على الجمهور اتباعها للتهليل بشكل كورس، ثمّ يتقدم ممثل آخر ليعطي إشارة البدء بالتصفيق.
وظلّ التصفيق في أوروبا مرتبطاً بمزاج الحاكم، الذي كانت تقدم العروض برعايته حتى القرن السابع عشر، فلا تضحك الرعية أو تصفّق أو تستحسن إلا إذا بدأ الحاكم بذلك.
ومع انتشار المسارح في التجمعات المدنية الكبيرة ، في أوروبا (القرن السابع عشر)، وانتشار حركة التأليف المسرحي، وتقديم العروض للعامّة من الشعب، تكوّن جمهور المسرح الحر والذي كان يتجه لحضور العروض بقرار منه، وبدافع الفرجة، وبالطبع كان هذا الجمهور يصفّق مستحسناً ساعة يريد أو يصفّر مستهجناً أو يموء مقلداً الهررة للاحتجاج، وخاصة في إنجلترا حيث كان الرعب يدب في قلب المؤلفين، عند العرض، مما كانوا يسمّونه “MISTER MIAOU” أي “السيد مياو” ويقصدون به الجمهور الذي لن يعجبه العرض. إذن تحرر تعبير الجمهور من أوامر الحاكم، لكنه وقع تحت سلطة مديري المسارح، الذين لجأوا إلى تشكيل مجموعات تعمل لحسابهم بغية قيادة الجمهور في عملية التعبير عن شعوره خلال العرض (التصفيق خاصّة)، وكانت هذه المجموعات تعرف باسم “LA CLAQUE” وسنطلق عليها تسمية “جوقة المصفّقين”. فما هي هذه الجوقة؟
جوقة المصفّقين
جوقة المصفقين هي مؤسسة مؤلّفة من مشاهدين مرتزقة يعملون بقيادة رئيس وهو قائد الجوقة، الذي كان يلتزم بدعم عرض مسرحي لقاء مبلغ من المال، وقد ظهرت هذه الجوقات في القرن السابع عشر كمنظمات محترفة، واستمدت أهميتها في فرنسا خاصّة من التنافس بين المسارح والمخرجين والممثلين وبخاصة النساء منهم.
كان قائد الجوقة يحضر تمارين الفرقة ويقرر مع مدير المسرح أو المؤلف المواقف المراد دعمها، كما كان يقوم بتوزبع المهام على أعضاء الجوقة، فمنهم من مهمته التحريض على الضحك ومنهم من يستثير الجمهور للبكاء ومنهم، وهم الأهم، من يضبط عملية التصفيق، متى وكم، بناءً على توجيهات القائد ووفق رغبة من استأجرهم لقاء مال أو بطاقات مجانية. وقد ظلّ التصفيق محكوماً بجوقة التصفيق وقياداتهم، التي حظيت بدرجات متفاوتة من النجومية في هذا العمل إلى أن ألغاه مسرح “لا كوميدي فرانساز” أي المسرح الوطني، ثم ألغي بقانون فرنسي سنة 1902م.
التصفيق في عادات المسرح في بلادنا
نقل الفرنسيون معهم، إثر حملة نابليون واحتلاله لمصر، تقاليد العروض المسرحية بما فيها، على ما يبدو تقاليد جوقة المصفقين التي نقلت إلينا أخبارها بالتواتر. ففي بداية القرن العشرين ومع انتشار العروض المسرحية في شارع عماد الدين في القاهرة كان بعض المسارح يلجأ إلى استخدام مجموعات من المتفرجين لإثارة التصفيق في القاعات، وغالباً ما كان هؤلاء من العمال القادمين من الريف المصري. كما عرف مسرح “فاروق” في بيروت (لبنان)، في النصف الأول من القرن العشرين، جوقات المصفقين، الذين كانوا يجلبون من سوق الخضار, وفق ما رواه بعض الذين عايشوا هذا المسرح.
وإذا ما حصرنا كلامنا عن التصفيق في زمننا الحاضر، يمكننا التمييز بين عدّة أنواع من التصفيق وهي:
1 –
التصفيق الترحيبي، ويطلقه الجمهور عادة عند فتح الستارة وقبل بداية العرض المسرحي. وهو إشارة استعداد إيجابي من جمهور المشاهدين لتقبل رسالة العرض، وإعلان عن الاستعداد للتفرّج.
2 –
التصفيق الاستحساني، ويقوم به الجمهور عادة خلال العرض، تعبيراً عن إعجابه بموقف أو بأداء ممثّل أو بعبارة أو بحركة إخراجية مشهديّة أو صوتية، أو عند انتهاء مشهد أو فصل.
3 –
التصفيق التشجيعي، ويطلق تعبيراً عن التقدير لممثل ما عند دخوله، وهنا تتفاوت ردّات فعل الممثل، فمنهم من يقف جامداً، ثم ينحني تحية للمصفقين، ثم يعود للتمثيل، ومنهم من لا يكترث ويحافظ على تركيزه متابعاً التمثيل.
4 –
التصفيق المحابي، ويطلق عند تلعثم الممثل أو انطلاقه في الضحك خارج الشخصية التي يؤديها.
5 –
التصفيق المبرمج، وهو التصفيق الذي يطلقه الجمهور في أماكن معيّنة من العرض، وعادة ما يطلقه نفر من المشاهدين بالاتفاق المسبق مع المسؤول عن العرض المسرحي.
6 –
التصفيق الاحتجاجي ويطلقه الجمهور عند تأخر بدء العرض المسرحي عن موعده المحدد.
7 –
تصفيق التحية وهو التصفيق الذي يطلق بعد انتهاء العرض وعودة الممثليين للدخول جميعهم لتحية الجمهور.
آداب التصفيق
الحفلات الموسيقية مثلاً
من المؤكد أن تصفيق الجمهور في الحفلات الموسيقية، يتوزع على أنماط كثيرة من السلوك، لها علاقة بنوع ومستوى الموسيقى التي تقدم على المسرح من جهة، وبمستوى جمهور المتلقين ومستوى المسرح نفسه، من جهة ثانية. ولا شك بأن أشد التقاليد صرامة في هذا المجال هي تقاليد التصفيق في حفلات الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية.
ففي مثل هذه الحفلات، تبدو البلبلة واضحة بين المستمعين غير الملمين بهذه التقاليد والممارسين لها. ولعل العمود الفقري لتقاليد التصفيق في حفلات الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، يستند إلى ضرورة الصمت الكامل والإصغاء الكامل عندما تُؤدى هذه الموسيقى، حتى يصبح السعال مستهجناً (وليس التصفيق فقط).
غير أن التشدد في هذا السلوك الذي يحدد قواعد التصفيق الصارمة، في مثل هذه الحفلات، يصل ذروته في ضرورة الامتناع عن التصفيق إلى آخر القطعة الموسيقية المكونة من عدة حركات موسيقية، فلا يسمح بالتصفيق، إلا عند انتهاء الحركة الأخيرة. ولعل هذه القاعدة بالذات، هي الأكثر تعرضاً للمخالفة من قبل المستمعين غير المتمرسين بمثل هذه التقاليد الثقافية، إذ يصر هؤلاء على التصفيق عند نهاية كل حركة في السمفونية الواحدة (أو السوناتا الواحدة) مما يثير استهجان المستمعين المتمرسين بهذه التقاليد، والمتمسكين بها.
حفـلات أم كلثـوم والمـوسيقـى العـربية
فإذا انتقلنا بالموضوع إلى رحاب الموسيقى العربية، فإننا نقول إن ما يعرفه العرب من تقاليد مماثلة في الحفلات الموسيقية الجادة، ينحصر تقريباً في مجالين عمليين: حفلات أم كلثوم المسرحية الشهرية، وحفلات الموسيقى العربية الجادة كما أرسى تقاليدها الموسيقي الرائد عبدالحليم نويرة، وكما تقدمها فرق الموسيقى العربية المشابهة.
ومع أن تقاليد الاستماع والتصفيق في هذين المجالين، كانت شبيهة جداً بتقاليد التصفيق في حفلات الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، من حيث المستوى الثقافي والوجداني الرفيع، إلا أنها كانت تختلف عنها تماماً في التفاصيل. ففي حفلات أم كلثوم، نمت تقاليد السماع والتصفيق وطلب الإعادة، رويداً رويداً بين أم كلثوم وجمهورها في مختلف البلاد العربية، وخاصة في القاهرة.
تختلف هذه التقاليد تماماً (في الشكل كما قلنا) عن مثيلتها في الحفلات الكلاسيكية الأوروبية، بأنها تتيح للجمهور التعبير عن إعجابه بالتصفيق (وحتى بالهتاف والتهليل) ليس فقط في آخر العمل الفني (الأغنية) بل في آخر كل مقطع منها، بل حتى عند أية نقلة لامعة وسط المقطع تثير إعجاب الجمهور ونشوته. وأحياناً، يستعيض الجمهور عن التصفيق، إذا كان الموقف على حساسية فنية رقيقة وهامسة، بعبارات الهمهمة الهادئة، مثل: آه ويا سلام.
كما أن للتصفيق دوراً بازراً في حفلات أم كلثوم، تعبيراً عن الإعجاب بالمقطع الغنائي المنتهي، وطلباً لإعادته، بأسلوب التصفيق الجماهيري الذي يقاطع المقدمة الموسيقية للمقطع الغنائي الجديد، استعادة للمقطع السابق. حتى أن شيخ النقاد العرب الراحل كمال النجمي، كان يأخذ على جمهور أم كلثوم طمعه الجشع في كرم أم كلثوم بتلبية رغبته الدائمة بالإعادة، حتى أن التصفيق يتحول أحياناً نوعاً من تعبير الجمهور عن “عناده” بضرورة إعادة المقطع الغنائي، خاصة عندما تبدي أم كلثوم رغبتها بعدم الإعادة، إما دلالاً فنياً، أو إرهاقاً، أو رغبة فنية في الانتقال إلى المقطع التالي.
أما في حفلات الموسيقى العربية التي تقدمها فرق الغناء الجماعي الراقية، فتقاليد السماع أقل تعقيداً، إذ ينطلق التصفيق مع نهاية كل أغنية أو معزوفة. والمشكلة الوحيدة التي تبرز في هذا النمط من الموسيقى العربية الرفيعة، اندفاع الجمهور أحياناً، عندما يعتمد اللحن على إيقاع حاد أو راقص، إلى مصاحبة الأداء الموسيقي والغنائي، بتصفيق موقع ينحدر بمستوى الأداء الفني إلى درجة مزعجة، ولا ينفع في مثل هذه المواقف لضبط الحماس الجماهيري المتفلت، سوى قوة شخصية قائد الفرقة.
أما التصفيق المطالب بالإعادة في حفلات الموسيقى العربية الراقية، فيستجاب عادة بإعادة تقديم الأغنية (أو المعزوفة) نفسها، إذا كانت قصيرة، أو إعادة تقديم المقطع الأخير منها، إذا كانت طويلة. ويحدث بشكل استثنائي أن تكون نشوة الجمهور طاغية، لدرجة الإصرار (بالتصفيق المتواصل) على إعادة الأغنية كاملة، مهما كانت طويلة. وغالباً ما ينحني قائد الفرقة أمام إلحاح الجمهور، إذا كان واضحاً ومصراً.
التصفيق الموقـع، والتصفيق الغريزي
غير أن ملف التصفيق في الحفلات الموسيقية، ما زال يحمل أنماطاً أخرى، غير التي استعرضنا في السطور السابقة. من أهمها حتماً، التصفيق المصاحب للأنواع التقليدية من الغناء الخليجي، حيث يتجاوز التصفيق وظيفته المعتادة بالتعبير عن الإعجاب والنشوة في وسط الأغنية أو آخرها، إلى قيامه بدور موسيقي إيقاعي يفوق أحياناً في روعته وجماله دور الآلات الإيقاعية نفسها، ويمتاز هذا النوع من التصفيق الإيقاعي في نمط معين من الأغنيات الخليجية، باعتماده إيقاعات شديدة التعقيد، لاستنادها إلى الإيقاعات المتعاكسة المتصادمة غير المبسطة، الأمر الذي يضفي على الغناء حرارة تمتاز بها الأغنية الخليجية، حتى أن هذا النشاط الموسيقي ذا الطابع الفولكلوري، تحول بعد ذلك من الغناء، إلى مرافقة أهازيج وهتافات الجمهور الذي يشجع فريقه المفضل في كرة القدم، أو منتخب بلاده.
بقي نمط آخر من التصفيق المرافق للحفلات الغنائية تعمدنا تأجيل الحديث عنه، حتى آخر المقال، هو النمط الصاخب، الأقرب إلى الانفجار الغريزي للأحاسيس، وعادة ما يرافق هذا النمط أغنيات الشباب المعتمدة على الحركة اللحنية السريعة، المحفزة على الرقص، أكثر من الغناء. كما أن هذا النمط يروج كثيراً في الأماكن التي تغلب فيها تقاليد السماع الغريزي الصاخب، وتتراجع، بل تختفي، تقاليد السماع الراقي الوجداني المتأمل، لأنها لا تناسب الموضوع أو المكان.
من الطفولة..
إلى شد الميزان المغربي
حينما كنت صغيراً لم يكن هناك شيء يرعبني أكثر من تصفيق والدي. كلما سمعت تصفيقه الحاد الصارم توقعت علقة أكيدة. فأحياناً كنت أرفع عقيرتي بالغناء أو أصرخ في وجه أحد إخوتي خلال استغراق والدي في صلاته. فيأتي تصفيقه الحاد على سبيل التنبيه. تنبيه ضاجّ بالتهديد والوعيد، فأنكمش في مكاني منتظراً أن ينهي والدي صلاته مستعداً للعقاب الذي لا مجال للإفلات منه. والغريب أنني حتى اليوم لم أر والدي يصفّق قط لا سخطاً ولا طرباً. فتصفيقه كان يصلني بالصوت فقط، وما زال يرن في عمق الذاكرة من حين لآخر ليُعيدني إلى زمن الشقاوات القديمة.
أما أنا فقد صفقت كثيراً في حياتي. صفقت طفلاً في أعراس النساء، ويافعاً في مظاهرات الطلبة. صفقت في أمسيات الشعر إما طرباً أو مجاملة، وصفقت في التجمعات النقابية ومسيرات التضامن مع فلسطين والقضايا العربية. لكن التصفيق في كل هذه الحالات كان يأتي دائماً في الدرجة الثانية كنوع من المصاحبة لنشاط أهم: الأغاني في الأعراس والشعارات في المناسبات الوطنية..الخ. إنما هناك حالة أخرى خاصة عشت فيها التوحد التام مع مقام الكفين في نوع من الشطح الذي يصير فيه التصفيق هو الطريق والهدف في الآن ذاته، وذلك أثناء عملية “شد الميزان”.
فلدينا في مدينة مراكش فن شعبي عريق اسمه الدقة المراكشية. ويحتاج هذا الفن إضافة إلى الآلات الإيقاعية التقليدية إلى اليد القوية الماهرة، حتى أن الإيقاع حينما يختل أثناء الوصلة سرعان ما تسمع همهمات من هنا وهناك “طاح أفوس”، أي سقطت اليد. فيستعيد فنانو الدقة حماسهم لينخرطوا من جديد في الطقس حتى تستعيد اليد اشتعالها. لكن الأكف لا تشتعل كلياً إلا في “الميزان”.
فمنذ طفولتنا ونحن مولعون بالموازين. تصفيق مسترسل يتدرج في الحرارة ويغير إيقاعاته من وصلة إلى أخرى. يسخن ويبرد، يحتد ويفتر، لكنه يشتعل في الأخير فتشتعل معه الأكف والأجسام والأرواح أيضاً. ووصلات التصفيق هذه قد تمتد لساعة كاملة.
وكنت وأنا صبي كلما رافقت الأسرة في سفر إلى الرباط أو الدار البيضاء أو غيرها من المدن المغربية الأخرى طلبوا مني هناك أن “أشد لهم ميزاناً” من موازيننا الذائعة الصيت. ودائماً كنت أفشل، ببساطة، لأن العملية تحتاج إلى غابة صغيرة من الأكف. وإذا كان المثل العربي يؤكد بأن يداً واحدة لا تصفق، فالمفروض أن يجترح المراكشيون مثلاً جديداً خاصاً بهم، يوضحون فيه أن كفين يتيمتين لا تشدان ميزاناً. والحقيقة أن للمراكشيين قدرة عجيبة على توليد أصوات عجيبة وقوية من التقاء الأكف ببعضها خلال حفلات التصفيق الإيقاعي المدروس هذه التي كنا ننخرط فيها. حتى أن فرقة حميد الزاهير، أشهر فرقة شعبية مراكشية، حينما قدمت أحد عروضها في اليابان منذ سنوات، صعد الصحافيون عندهم بعد نهاية الحفل وطلبوا منهم بسط أكفهم أمام عدسات المصورين. هكذا صدرت في اليوم الموالي أكثر من صحيفة يابانية تحمل صور الأكف المراكشية السمراء مبسوطة في رضا وتسليم. وكأني بالمصورين الذين التقطوا صوراً لتلك الأكف العجيبة كانوا يريدون أن يؤكدوا لمواطنيهم المذهولين أن الأكف التي فعلت بهم الأفاعيل في سهرة الأمس ليست طبولاً بل هي أكف عادية من لحم ودم.
ياسين عدنان، الرباط