اقتباس، استعارة، استلهام، أو بكل بساطة سرقة؟
لكل من هذه التعابير دلالته، ولكن الجوهر واحد. فلا يستعمل أي منها إلا عند وجود سمات مشتركة، وأحياناً هي نفسها، بين نتاجين إبداعيين، أحدهما سابق الآخر، أي أن الثاني يحاكيه أو يستوحيه، أو يسرقه جزئياً أو كلياً وينسبه إلى نفسه.
عن الاقتباس ومكانته في تاريخ الآداب والفنون، والحدود الفاصلة بينه وبين السرقة، تقدِّم القافلة هنا أربعة إسهامات مختلفة تتناول هذه القضية التي قد تكون أطول القضايا الثقافية عمراً، وأكثرها إثارة للجدل أمام أعمال إبداعية عديدة في شتى الميادين.
الاقتباس وشكسبير..
ومعاني الجاحظ الملقاة على الطريق
إبراهيم العريس
قد يكون من المفيد أن نبدأ بالتذكير بواحدة من أغرب الدراسات الأدبية التي ظهرت في أواسط القرن العشرين. وفيها قال مؤلفها, وهو ناقد إنجليزي, إن الموضوعات الأساسية لكل الأعمال الأدبية والفنية لا يتعدى تعدادها ستة وثلاثين موضوعاً. ومن هنا فإن كل إبداع العالم, شرقاً وغرباً, شمالاً وجنوباً, وفي كل زمان, يدور حول هذه الموضوعات . أما المهم، فهو كيف يعالج كل مبدع الموضوع نفسه, معالجة مختلفة عمن سبقه، ممهداً الطريق لمن سوف يأتي بعده ليخوض اللعبة بدوره على نحو مختلف.
قد يكون في هذا الكلام شيء من المبالغة, لكنه في نهاية الأمر منطقي. ومن دون أن تجدنا في حاجة إلى تعداد تلك الموضوعات التي يتحدث عنها هذا الناقد, ننتقل إلى مثال حي قد يعبِّر وحده عن هذه المسألة برمتها, والمثل هذا له اسم كبير: وليم شكسبير.
العبقرية والاقتباس
إن وليم شكسبير هو في المقاييس كافة وحسب كل استطلاعات الرأي, وحسب كل رصد لحضور أي فنان أو أديب في كل العصور التي تلت حقبة ظهوره, هو أعظم كاتب مسرحي أنجبه الإنجليز. وهو على الأرجح واحد من أعظم عشرة أو عشرين كاتباً أنجبتهم البشرية في تاريخها. ومع هذا ليس من بين النصوص العديدة, المسرحية خاصة, التي كتبها صاحب هاملت و عطيل و ماكبث وغيرها من الروائع, أي نص كان هو مبتكره الأصلي. كل ما كتبه شكسبير هو إعادة تفسير و حكي من جديد لأحداث أو منتجات فكرية أو أدبية, كانت موجودة من قبل. أخذها, اشتغل عليها, أعاد صوغها ثم دفع بها إلى ممثليه وجمهور مسرحه ثم إلى المطابع فحملت اسمه إلى الأبد. من هنا نعرف أن هاملت وروميو وجولييت وتاجر البندقية ودانكان وليدي ماكبث وعشرات غيرها من وجوه كانت لها حياتها السابقة, الحقيقية إن كانت مستقاة من التاريخ, والوهمية إذا كانت من إبداع كتَّاب سابقين. وجدها شكسبير ملقاة على الطريق , إذا استعرنا هنا مسألة المعاني التي كان يتحدث عنها شيخ التراث النثري العربي الجاحظ, استحوذ عليها وعاد ليوظفها في كتاباته.
من ناحية مبدئية يعد هذا, في أقصى الحالات سرقة أدبية. لكنه في تعبير أخف وطأة اقتباس . غير أن الواقع يقول لنا مع ذلك إن في كل هذه الأعمال الشكسبيرية يتجلى أمر أساسي: عبقرية شكسبير. فكيف نوفق هنا بين مسألة العبقرية التي يترتب عليها أن يكون ثمة خلق وابتكار أصلي, وبين واقع تعامل شكسبير مع حكايات وأحداث تاريخية وشخصيات سابق وجودها على وجوده؟
وهنا ندخل في صلب قضية الاقتباس. وربما في قلب مسألة التنويع أيضاً, والتنويع هذا يحضر عادة في الموسيقى حيث يستعير المؤلف الموسيقي جملة لحنية من سلف, ويعيد الاشتغال عليها. ولعل حال يوهان برامز أوضح مثال, إذ نجد من أعماله تنويعاً على نشيد هنغاري بل نجد أيضاً تنويعاً على لحن قديم له. وكذلك نجد أن عمل باخ الشهير المسمى تنويعات على غولدبرغ إنما هو إعادة اشتغال على جمل موسيقية سابقة.
بين الاقتباس والسرقة
غير أن هذا كله يجب أن تكون له حدوده, فالخط الفاصل في هذا المجال بين الاقتباس و السرقة الصريحة, واهٍ للغاية. وتحضرنا هنا حكاية ذلك الموسيقي الذي جاء مرة إلى توسكانيني يسمعه لحناً وضعه. وإذ راح الموسيقي يعزف اللحن أمام توسكانيني, راح هذا يرفع قبعته تحية بين الحين والآخر. وفي النهاية توقف الموسيقي الشاب عن العزف والتفت إلى المعلم الكبير يسأله, باستغراب, لماذا يرفع قبعته؟ فأجابه: تحية لكل الموسيقيين الذين مرّوا أمام سمعي . وكان يعني بهذا طبعاً, أن ما سمعه إنما هو تجميع لجمل موسيقية اقتُبِسَت من عدد من الموسيقيين, بشكل فاضح يتجاوز مسألة التنويع والاستلهام والاقتباس.
لكن الاقتباس ليس سرقة بالطبع, ولا سيما حين يقر المبدع بذلك! وحين يكون العمل المقتبس أشهر من أي توضيح في شأنه. وهنا أيضاً نجد ألاَّ بأس من الحديث عن حال بعض الجمل الموسيقية التي كان موسيقار الجيل محمد عبدالوهاب يستعيرها من موسيقيين عالميين ويدمجها في ألحانه, هنا وهناك. إن هذه الممارسة التي تعد رائجة في مجال الفنون, جرَّت على صاحب كليوباترا و الغندول تهماً وصلت إلى منظمة اليونسكو, مفادها أن هذا الفنان الكبير لطش من جوزيبي فردي في أهون عليك ومن بيتهوفن في أول نوطات أغنيته أحب عيشة الحرية وما إلى ذلك. وراجت هذه التهم حتى اليوم الذي عثر فيه مهتم بالموسيقى على إعلانات قديمة عن ظهور أسطوانات لعبدالوهاب, تحمل إضافة إلى اسم الأغنية عبارات مثل ويتضمن اللحن موسيقى مأخوذة من مسيو فردي ليتبين أن عبدالوهاب كان يفعل هذا عن قصد ودراية, أولاً لحبه لتلك الجمل, وثانياً لأنه كان يبتغي تعويد أذن المستمع العربي على تلك الألوان الموسيقية الغربية.
وهنا تحضرنا حكاية جديدة: في الستينيات لحَّن الأخوان رحباني أغنية جديدة لفيروز هي يا أنا..يا أنا اقتُبِس لحن بدايتها من السيمفونية الأربعين لموزارت. وكان الأمر, عند هواة الموسيقى وحتى العاديّين منهم, أفصح من أن يقولاه. ومع هذا قالا وكتبا على أسطوانة الأغنية نفسها إن اللحن لموزارت. وحدث حينئذ أن صحافياً لم يقرأ هذا الكلام، وذات يوم استمع بالصدفة إلى سيمفونية موزارت, ولم يكن يعرفها! فاعتقد أن أحداً ما سرق موسيقى الرحابنة. وحين فاتح أصدقاء له بالأمر, أفادوه أن الموسيقى لموزارت الذي عاش قبل منصور وعاصي الرحباني بقرنين. فإذا به ينقلب ضد هذين ويكتب بالمانشيت العريض في صحيفته ما معناه أن الرحبانيين سرقا موزارت!
هنا يتجلى خيال الفنان
هناك خلط فاضح بين السرقة والاقتباس وحتى التحية , إذ إن ثمة مبدعين يدخلون في أعمالهم اقتباساً صغيراً عابراً من أعمال يحبونها لسابقين, على سبيل التحية.
غير أن الأهم من هذا طبعاً, يبقى الاقتباس ممارسة إبداعية حقيقية وأصيلة. ومهما يكن، فإن هناك عدداً كبيراً من أنواع الاقتباس, أهمها الاقتباس عن السابقين في الصنف الإبداعي نفسه. وهو يراوح بين اقتباس فكرة أساسية: كأن يقتبس نجيب محفوظ مثلاً, الفكرة الأساسية -كتابة تاريخ عائلة على خلفية الأحداث التي تعيشها بيئتها-, في روايته الأشهر الثلاثية عن ساغا آل فورسايت لغاسورتي, أو عن بوديروك لتوماس مان, أو يقتبس جيمس جويس روح الشخصية الأساسية في روايته يوليسيس عن الإلياذة.
وهناك الاقتباس من أحداث ووجوه تاريخية, كأن تلهم شخصية جان دارك, كتَّاباً مثل شيلر وبرنارد شو وحتى برتولد بريخت. وهنا نفتح هلالين لنذكر أن مجرد المقارنة بين ما كتبه كل من هؤلاء للمسرح انطلاقاً من شخص البطلة الفرنسية المناضلة وعلاقتها بالإنجليز, يكفي في ذاته لتفسير هذه الممارسة كلها. وذلك من خلال تفسير كل واحد لدوافعها وحكايتها, تفسيراً يساير فكره وعقيدته وما إلى ذلك.
وهناك الاقتباس من الطبيعة, كما في الرسم والموسيقى, كأن يدمج المؤلف الموسيقي في عمله أصواتاً توحي بها الطبيعة إليه, (ينطبق هذا بشكل خاص على كل افتتاحيات أوبرات ريتشارد فاغنر), أو ينقل الفنان الانطباعي ما يراه من الطبيعة في لوحته. بيد أن هذا النقل يجب ألاَّ يكون حرفياً. بل, لكي يمكن أن نعدَّ الفنان مبدعاً كبيراً, لا مجرد حِرَفي ماهر, يجب أن يمر بمرشّح أساس هو خيال الفنان الذي يحكم نظرته. فحين يرسم إدوار مانيه أشخاص على شرفة أو يرسم بيلا سكويت لوحة تمثل استسلام المدافعين عن مدينة أمام المنتصرين, لا يكون لدينا أي شك في أنهما ينقلان من الواقع أو من التاريخ, لكن ما ينقلانه هو المظهر فقط, أما إبداع كل منهما فيكون في المشاعر التي يضفيها على ما ينقل, من العلاقات التي يوحي بوجودها بين الشخصيات.
بل إن فن بيلا سكويت, مثلاً, وصل إلى مستوى من الرهافة والإبداع, جعله يدفع بعض الشخصيات المرسومة إلى أن تنظر مباشرة نحو المكان الذي يفترض أن الفنان يراقب الحدث منه, ما يوحي إلينا عبر نظرة الآخر هذه, بوجود الفنان شاهداً, غير محايد, على الحدث. إنه هنا ينقل الواقع, لكن وجوده هو الذي يضفي على هذا الواقع معاني لا يراها أي شخص آخر. وفي يقيننا أن سر اللعبة الفنية كله هنا في هذه النظرة، في لعبة إعادة التفسير.
تاريخ متواصل
فحين ينقل أكيرا كوروساوا, المخرج الياباني الكبير, رواية الأبله لدوستويفسكي, أو مسرحية ماكبث إلى السينما فإنه إنما يعيد خلق العمل من جديد, ويكون بهذا حلقة في سلسلة متتالية جوهرها هذا العمل. فكل نقل لشيء هو إعادة تشكيل وتفسير له. بل إن في وسعنا أن نوصل هذا المنطق إلى غاية إضافية: إن قراءة قارئ عادي عملاً ما, إنما هي إعادة تشكيل له من جديد, وإعادة تفسير. فشكسبير يستقي موضوعه من سلف له, كان اقتبسه بدوره من سلف آخر أو من التاريخ الحي. ثم حين يقدِّم مخرج مسرحي أو سينمائي عملاً لشكسبير فهو إنما يقتبسه بدوره في فنه وعلى طريقته, متملكاً إياه مثل تملك أي مبدع لمعاني الجاحظ الشهيرة. إذ حين يقول الجاحظ إن المعاني ملقاة على قارعة الطريق فإنه بكل وضوح يتحدث مباشرة عن مسألة الاقتباس: يمكن لأي مبدع أن يلتقط تلك المعاني ليعيد صوغها في تعبير جديد.
والاقتباس الحقيقي هو هذا. فهل نضيف أن تاريخ الفن الحقيقي هو كله, تاريخ لاقتباس على اقتباس على اقتباس؟
الاقتبـاس فـي المـوسيقـى..
الأكثـر شهرة وإثارة للجدل
إلياس سحَّاب
مع إن تاريخ الفنون قد عرف منذ القدم ظواهر التأثر العام لشعوب بشعوب أخرى، كما عرف ظواهر تأثر أجيال فنية بالأجيال الفنية التي سبقتها، ومع إن الشائع والعادي تأثر فنانين بفنانين آخرين من أبناء الجيل ذاته، وفي حضارة وثقافة الشعب الواحد، ومع إن حالات التأثر هذه، بين الشعوب وبين الفنانين، كانت في كثير من الأحيان تتخذ شكل الاقتباس المباشر وغير المباشر، الواعي واللاواعي، في جميع الفنون، فإن ظاهرة الاقتباس الموسيقي هي التي شغلت العرب المعاصرين أكثر من غيرها من ظواهر الاقتباس في الفنون الأخرى، لسببين أساسيين:
أولاً: لأن فن الموسيقى والغناء شغل العرب المعاصرين في القرنين الأخيرين (التاسع عشر والعشرين) أكثر مما شغلهم أي فن آخر.
ثانياً: لأن التطور الكبير الذي شهدته الموسيقى العربية والغناء العربي في مرحلة النهضة الأولى، في القرن التاسع عشر، والنهضة الثانية، في القرن العشرين، قد شهد بروزاً واضحاً لحالات التأثر والاقتباس، لا سيما عند المجددين الموسيقيين الذين احتكوا بالموسيقى العثمانية في عاصمة الإمبراطورية الأستانة في القرن التاسع عشر، وبالموسيقى الأوروبية الكلاسيكية والشعبية والخفيفة، في القرن العشرين.
لمحة تاريخية عن التأثر والاقتبــاس
يشيع خطأ الاعتقاد بأن التأثر والاقتباس، في الموسيقى بالذات، نقيض للأصالة. غير أن وقائع تاريخ الموسيقى في نهضات جميع الشعوب، بما في ذلك النهضة الموسيقية العربية بمختلف مراحلها منذ فجر النهضة العربية وحتى يومنا هذا، تشير إلى أن ظواهر التفاعل مع الحضارات الموسيقية عند الشعوب الأخرى، أخذاً وعطاءً، كانت أساسية، حتى في أكثر المراحل قدماً في التاريخ، وأكثر المراحل ازدهاراً. فتاريخ ولادة الشخصية التاريخية المميزة للموسيقى العربية في الحجاز أولاً ثم في بلاد الشام، في عهد الدولة الأموية، وفي بغداد العباسية، تشير بوضوح إلى تأثر الموسيقيين العرب بالحضارتين الموسيقيتين البيزنطية والفارسية، ثم حدث التداخل الحضاري الكبير في الموسيقى بالذات طوال القرون الثمانية من عمر الدولة العربية في الأندلس، حين دخلت عناصر موسيقى بعض الشعوب الأوروبية (على بدائيتها في ذلك الوقت) في تطعيم شخصية الموسيقى العربية الوافدة إلى الأندلس أساساً مع زرياب، القادم من قلب الحضارة العربية في بغداد، ثم تحولت الموسيقى العربية الأندلسية بكامل عناصرها إلى قاعدة حضارية أساسية، قامت على أساسها نهضة الموسيقى الأوروبية الكبرى في القرون الوسطى، حتى القرن السادس عشر.
فـي القرنيـن التاسع عشر والعشريـن
ومع إن الحياة الموسيقية في مصر قد شهدت في القرن التاسع عشر بؤرتين للتأثر بالموسيقى الأوروبية، من خلال بعثات محمد علي لدراسة الموسيقى العسكرية الأوروبية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وإنشاء دار الأوبرا المصرية مع افتتاح قناة السويس في عهد الخديو إسماعيل (1869م)، فإن طبيعة الموسيقى العربية الشرقية، مالت إلى التفاعل والاقتباس خلال رحلات كبار الموسيقيين المصريين إلى الأستانة، وأشهرها رحلات عبده الحمولي ومحمد عثمان. وليس هناك دراسات تشير بوضوح ودقة إلى أن الحمولي وعثمان قد نقلا ألحاناً تركية أو عثمانية نقلاً كاملاً أو جزئياً، وأدخلاها في إطار أعمالهما الموسيقية، لكن المؤكد أنهما نقلا مقامات موسيقية لم تكن في الموسيقى العربية موجودة أو كانت نادرة الاستخدام، مثل مقامات: الحجاز كار كورد والنهاوند والعجم. وقد أدى هذا النقل إلى إثارة غلاة المحافظين من موسيقيي ذلك العصر، حتى أن هؤلاء اتهموا الحمولي وعثمان بالتخريب لاستخدامهما هذه المقامات الغريبة على الأذن العربية في ذلك الوقت.
وفي مطلع القرن العشرين، راحت نوافذ التفاعل وأبوابه تنفتح بين مصر ومحيطها العربي (خاصة بلاد الشام)، فكانت رحلة سيد درويش الفنية الطويلة إلى حلب، عاصمة الموسيقى العربية في بلاد الشام، حيث استوعب الرصيد الأساسي من التراث الموسيقي. حتى أن بعض الموشحات التي تحمل في مصر اسم سيد درويش، ما زال أهل الموسيقى في حلب إلى يومنا هذا يعدونها من التراث الحلبي الذي نقله سيد درويش إلى مصر، وأشهرها موشح يا بهجة الروح . غير أن ذلك يقتضي منا القول إن بعض المقطوعات الغنائية الشهيرة التي تدخل في إطار ما يسمى القدود الحلبية هو نقل لأعمال غنائية مصرية من القرن التاسع عشر، وأشهرها على سبيل المثال آه يا حلو، يا مسليني التي لحنها شيخ ملحني القرن التاسع عشر في مصر، عبدالرحيم المسلوب.
عبـدالـوهاب وفـريـد الأطرش
ومحمد فوزي
غير أن باب الاقتباس الموسيقي الذي نتحدث عنه الآن، فتح على مصراعيه في الربع الثاني من القرن العشرين، عندما نضجت ابتداءً من عقد الثلاثينيات آثار احتكاك الموسيقيين العرب المعاصرين بالموسيقى الأوروبية، وعندما اكتمل الانتقال التاريخي الكبير في الموسيقى العربية من النهضة الأولى (القرن التاسع عشر) إلى النهضة الثانية (القرن العشرين)، وهي النهضة التي كان من أبرز عناصر التجديد فيها، الانتقال من التخت الموسيقي (المكون من أربع أو خمس آلات فقط) الذي يقتصر دوره على مرافقة المغني وترداد ما يؤديه بصوته، إلى الأوركسترا الكبيرة المستعارة أساساً من الموسيقى الأوروبية ونهضتها التي نضجت عبر ثلاثة قرون ونيف.
اندفع كل الموسيقيين العرب الذين التزموا تماماً استخدام الأوركسترا الكبيرة، إلى فتح آذانهم وخيالهم الفني على آفاق التعبير الواسعة التي تتيحها هذه الأوركسترا، وعلى إبداع ثلاثة قرون متواصلة لعباقرة الموسيقى الكلاسيكية من الأقطار الأوروبية كافة، ووصل التأثر بهذا الإبداع أحياناً إلى حد الاقتباس، وهذا إغراء قلَّما نجا منه ملحن عربي كبير، خاصة إذا كان ذا نزعة تجديد جريئة، وموغلاً في استخدام طاقات الأوركسترا الكبيرة. ومع إن الاقتباس الموسيقي ارتبط، أكثر ما ارتبط في أذهان عامة المستمعين، بالموسيقار محمد عبدالوهاب؛ لأنه كان الأكثر صراحة وجرأة في تلك الممارسة، التي لم ينكرها أبداً، إلا أن الاقتباس من الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، وحتى الخفيفة، هو كما يؤكد التاريخ الدقيق للموسيقى العربية في القرن العشرين. عادة مارسها، بنسبة أو أخرى، كل المجددين الذين استخدموا الأوركسترا الكبيرة، ومنهم على سبيل المثال فريد الأطرش ومحمد فوزي، وحتى كمال الطويل ومحمد الموجي ومنير مراد في القاهرة، والأخوان رحباني وزكي ناصيف وتوفيق الباشا وخالد أبو النصر في لبنان.
ومع إن هذه الأسطر لا تكفي لاستعراض شامل لظاهرة الاقتباس، التي يحلو لبعض غير المتعمقين جعلها رديفاً لما يسمونه السرقة الموسيقية، فإن الدراسة الموضوعية الدقيقة والمقارنة الجادة بين الأعمال الموسيقية العربية التي اعتمدت في جزء منها على الاقتباس، وبين الأعمال الموسيقية الأوروبية الأصلية، تؤكد أن الاقتباس كان على أنواع ودرجات متفاوتة، وأن أياً من كبار الملحنين العرب الذين مارسوه، لم يتجاوز الاقتباس في مجمل أعمالهم نسبة، في الاعتماد على الجمل الموسيقية المقتبسة، تسمح بالتشكيك بمكانتهم الإبداعية، أو أصالتهم الإبداعية، كما يذهب بعض المتطرفين في هذا الموضوع، الذين يغلب عنصر الإثارة والسطحية على كتاباتهم.
حاولت بعض هذه الكتابات إيجاد معيار موسيقي علمي لرسم الحدود المسموح بها وغير المسموح بها في الاقتباس، فاستعارت مقولة نسبتها إلى منظمة اليونسكو العالمية، تشير إلى أن الحدود المسموح بها للاقتباس هي أربعة قياسات (موازير) موسيقية، أما ما يتجاوز ذلك، فيعد انتحالاً وسرقة يفترض أن يعاقب عليها قانون الملكية الفكرية.
لكن هذا المعيار العلمي الجاف لا بد أن يحل محله معيار فني إبداعي بحت، وإلا فلن يكون بإمكاننا أن نفهم أعماق ظاهرة الاقتباس في الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية حتى بين عباقرة تلك الموسيقى.
إذ إن بعض أعمال العبقري الموسيقي الأكبر باخ مثلاً هي اقتباس مشهور ومطول من أعمال لموسيقي من أسلافه هو بوكستهودة، كما لا تخلو أعمال موزار من اقتباس واضح عن سلفه هايدن. وكذلك بتهوفن اقتبس المدخل الشهير لسمفونيته الخامسة (الذي اقتبسه عنه عبدالوهاب في مقدمة أحب عيشة الحرية) عن رقصة إيطالية، وخلاصة القول هي أن عدد القياسات الموسيقية المنقولة ليس هو الذي يسمح بالتمييز بين السرقة الفنية والاقتباس الفني الطبيعي والممارس في كل حضارات الشعوب الحية. لكن المعيار الأجدر بالصفة العلمية، هو الذي تقاس به درجة نجاح (أو عدم نجاح) الموسيقي المقتبس في جعل اقتباسه محركاً لإبداعه الشخصي، لا أن يكون عمله بلا أي قيمة فنية، سوى قيمة ما اقتبسه عن سواه.
ولو طبَّقنا هذا المعيار الموضوعي، على اقتباس كبار الملحنين العرب، إما تأثراً بعضهم بالبعض، أو تأثراً بالموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، فسنجد أن ليس هناك ملحن عربي كبير ذو قيمة، استمد قيمته الفنية من الاقتباس، أو تجاوز في ذلك حدود التأثر الفني المعمول به في كل العصور، وفي كل الحضارات، ولدى كل الشعوب، وفي كل الفنون، وعند أكبر الفنانين، وليس فقط في الموسيقى.
حول الاقتباس في الفن التشكيلي
محمد شرف
لا بد بدايةً, من إقامة الفرق بين الاقتباس الفني وما يعنيه من إنتاج عمل معيّن بحسب معايير متشابهة, أو قريبة من الأصل الذي يصبح أحياناً أقرب إلى قاعدة يُرتكز إليها, أو كاستعادة لفكرة ما, وإعادة صوغها على نحو متراوح في اختلافه عن ذاك الأصل, خلافاً للنسخ أو التقليد, وما يؤديان إليه من إعادة إنتاج العمل في شكل شديد الشبه أو مطابق للأصل, ولا تعيّن درجة الاختلاف بينهما سوى مهارة الناسخ أو المقلّد.
وطبيعي أن يشهد تاريخ الفن التشكيلي عدداً من حالات الاقتباس ذات وجوه وأنماط وأساليب مختلفة, فتصعب الإحاطة بكل مراحلها وتفاصيلها. ولذا فسنتعامل مع هذا الموضوع على نحو انتقائي بدءاً من عصر النهضة.
يتفق المؤرخون, أو عدد منهم, على أن عام 1296م بداية لعصر النهضة الأوروبية, في المجال الفني على الأقل, وهو العام الذي شرع فيه الفنان الإيطالي جيوتو برسم جدارية كبيرة في مدينة أسّيز. وكان هذا التاريخ بداية للمراحل الأولى من العصر الذي شهد, على نحو لافت, معالجة جملة من الموضوعات ذات الطابع الديني. فقد اشتد الطلب على فناني ذلك العصر لا سيما البارزين منهم, لتناول موضوعات معينة, وكان التركيز عليها أكثر من سواها لكونها تعبِّر عن حقب وأحداث معينة من التاريخ. نفذ تلك الأعمال فنانون كبار أمثال ساندرو بوتيتشللي وفيليبو ليبي وبيروجينو ورافائيل وميكال أنجلو وآخرون. وقد تطابقت أعمالهم في تأليفها وفي طريقة توزيع عناصرها, إلى حد ما, مع الأوصاف والتفاصيل الواردة في الكتب أو على ألسنة المؤرخين. هذا الأمر جعل شخصيات تلك اللوحات معروفة وشبه معلومة, وكذلك الأمكنة التي كانت, ذات يوم, مسرحاً لأحداث تاريخية ترسَّخت في الأذهان ضمن معطيات اجتماعية وجغرافية معلومة أيضاً.
وإذا كنا نلحظ أشكالاً متعددة من الاقتباس في لوحات أولئك الفنانين, فإن السبب يُعزى أولاً إلى التطابق النسبي بين أعمالهم مع التوصيف التاريخي الذي ذكرناه, كذلك يمكن تفسير التشابه بين بعض أعمالهم على أساس عودة الطالب إلى أعمال الأستاذ . فليوناردو دافينشي تتلمذ على فيروكيو, ورفائيل تتلمذ على بيروجينو, وتتلمذ آخرون على من سبقهم من فنانين, والتلميذ يقلِّد معلِّمه عادةً أو يقتبس عنه أسلوباً فنياً, أو طريقة معينة في رسم التفاصيل, أو نمطاً تأليفياً, والتشابه بين أعمال هذا وذاك ليس سوى نتيجة لهذا الواقع. وعلى سبيل المثال لا الحصر, نلاحظ أن ميكال أنجلو كان قد وقع تحت تأثير لوكا سينوريللي ولو على نحو عام وشمولي, أو مفصَّل أحياناً, إذ كان قد عاين ودرس جداريات هذا الأخير المرسومة في مدينة أورفيتو, قبل تنفيذ عمله الشهير الذي سيبقى محطة خالدة في تاريخ الرسم الجداري: سقف قبة سكستين في الفاتيكان, إضافة إلى أحد جدران القاعة الذي رسم عليه الحكم الأخير . وفي كلا العملين, أي لدى سينوريللي وميكال أنجلو, هناك استحضار لكثير من الناس ضمن نمط شبه بانورامي.
لم يقتصر التأثر المتبادل ومسألة الاقتباس في جميع أشكالها على فناني عصر النهضة, بل لقد ترك فنانو ذاك العصر, أثراً كبيراً لدى أجيال كاملة من الرسامين, امتدت مفاعيله حتى بروز التيارات الفنية الحديثة. لقد أحدث ظهور الانطباعية, في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, ثورة جديدة في عالم التشكيل, وولدت مذّاك تيارات فنية عديدة, كان كل منها الامتداد الطبيعي الأكثر تطوراً, وتناقضاً أحياناً مع التيار الذي سبقه, فيما يُعد استجابة طبيعية لمتطلبات وظروف اجتماعية وفنية مختلفة. وقد اتخذ كل من هذه الاتجاهات أسلوباً معيناً في التعاطي مع اللوحة, واتخذ الاقتباس ميزة الالتزام, في شكل أو في آخر, لخطوط أسلوبية تميز هذا التيار أو ذاك. ولو نظر البعض, من غير المتخصصين أو المهتمين في تاريخ الفن, إلى نتاج التكعيبيين لعسر عليه التفريق بين أعمال بيكاسو وبراك, في مرحلة من تاريخ الحركة التكعيبية. ولم يتوانَ بعض الفنانين ذوي الصلات بتيارات تشكيلية حديثة عن العودة إلى أعمال زملاء لهم من أجيال سابقة لمعالجة أعمال هؤلاء, ضمن المنحى التأليفي نفسه, ولكن من وجهة نظر ذاتية ومختلفة. وهذا الأمر ينطبق على فرنسيس بيكون, الفنان الإنجليزي الذي عاد إلى بعض أعمال فان جوخ ليرسمها, مرة أخرى, من زاوية بعيدة نسبياً عن النسخ التقليدي, لكنها تستحضر مناخاً معيناً, وكأن في الأمر ما يشير إلى رغبة بيكون في عيش لحظات الشعور نفسها التي عاشها فان جوخ. ولا يخفى علينا شعور الإعجاب الذي يكنّه بيكون له, فكلا الفنانين من طينة بشرية-فنية واحدة, وكلاهما غريب الأطوار… على طريقته.
لكن الحالة التي يجب التوقف عندها هي تلك العلاقة التي جمعت فن بيكون بنتاج بيكاسو, والتي استدعت أهميتها وعمقها إقامة معرض خاص في باريس في شهر أيار من العام الماضي, تحت عنوان: بيكون-بيكاسو , وإصدار كتاب خاص سمي حياة الصور . فالدلائل التي تشير إلى الأثر الذي تركته أعمال بيكاسو في نتاج بيكون ليست قليلة. ويقدم هذا النتاج أمثلة ساطعة على مسألة الاقتباس مع الإشارة, مرة أخرى, إلى أن الحديث عن التقليد المباشر لن يكون في مكانه. فالتأليف الهندسي واللون الثنائي اللذان شغلا بيكاسو في عشرينيات القرن الماضي, إضافة إلى مقاربات أخرى لمسألة التشكيل, هي عناصر سنراها لدى بيكون في سنوات لاحقة.
في كثير من أعمال بيكون, خلال سنوات تكوّنه الفني, كان يمكن رؤية بيكاسو. الرأس الملوّن على نحو تعبيري, الذي عُثر عليه عام 1966م, وقام جدل حول تاريخ تنفيذه إلى أن عده دافيد سيلفستر من نتاج عام 1930 أو 1934م, يشهد لتلك العلاقة الأسلوبية ببيكاسو. وهناك وجوه أخرى مشوّهة تشكيلياً يعود بعضها إلى السبعينيات, أي مرحلة النضج الفني, تجمعها خطوط تأليفية بوجوه بيكاسو. ولدى معاينة أعمال المعرض، لا يصعب الاستنتاج أن تأثير بيكاسو لا يمكن حصره في نواحٍ جمالية, أو موضوعات أو أسلوب تعبير, بل يبدو لنا أن فن بيكاسو كان يسكن نتاج بيكون في مجمله بشكل أو بآخر. لا بد لنا من الاستنتاج, نهاية, أن الاقتباس في الفن التشكيلي ظاهرة شائعة, أما الحديث عن ضرورتها أو عدم ضرورتها فما زال موضع جدل. الفنان الأكثر معاصرة يولِّد أو ينتج ذاك الذي سبقه وفق منطق مخالف للصواب من التأثير المقلوب . يقول الكاتب والناقد بريزون في معرض كلامه عن تحليل ميك بال المتعلق بالمفهوم الشائع لمسألة التأثير , وفي هذه العبارة الملغّزة ما يكفي لوصف العلاقة الجدلية بين المقتبِس والمقتَبس عنه في مجال التشكيل الفني.
الاقتباس المسرحي
فائق حميصي
يكون الاقتباس المسرحي على مستويين أو صعيدين. الصعيد الأول هو محض أدبي ويرتكز على إعادة كتابة قصة مسرحية وتعديل حيثياتها كي تتوافق مع الفكر الفلسفي أو الاجتماعي السائد في عصر مختلف عن العصر الذي كتبت فيه. أما الصعيد الثاني فهو محض فني ويكون لأسباب تتعلَّق برؤية إخراجية جديدة ومبتكرة تستدعي تعديل حيثيات الرواية أو حتى المسرحية.
فرض الاقتباس الأدبي، تاريخياً، نفسه، تبعاً لتبدل معتقدات الكتَّاب وتطور مفاهيمهم، فكثير من الروايات الإغريقية أو الرومانية القديمة حيث يسيطر الأبطال الأسطوريون على الأحداث ومصائر البشر، كان لا بد من إعادة روايتها وفقاً للمفاهيم الفكرية التالية، ثم وفقاً إلى مفاهيم المجتمع الصناعي وصولاً لمفاهيم التحليل النفسي ثم التحليل المادي مع انتشار الفكر الماركسي أو الفكر العبثي بعيد الحرب العالمية الثانية ولا سيما في أوروبا.
أما الصعيد الفني فبدأ مع تشكّل نظريات جديدة في الإخراج المسرحي وفي أداء الممثل لا سيما مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وصولاً إلى تطور التقنيات التكنولوجية واستخدامها ضمن عناصر الإخراج الفني (نهايةالقرن 20 وبداية 21).
من هنا لا يرى أكثر المسرحيين أن كلمة اقتباس هي الكلمة المناسبة لما يفعلونه، عندما يستندون في عروضهم إلى رواية أو قصيدة أو حدث واقعي، بل يفضلون كلمة مسرحة أو توليف، حين يستندون لعدة مصادر في بناء عرضهم المسرحي. ويذهب بعض المخرجين إلى استعمال عبارة الكتابة الإخراجية لمسرحيات كلاسيكية يرون ضرورة لإلغاء مقاطع منها أو زيادة مقاطع عليها تخدم صيغة المسرحية المشهدية. وعلى سبيل المثال إن اقتباس مسرحية لشكسبير وتحويلها إلى مغناة يستدعي، على الأقل، تحويل الحوار إلى نصوص شعر يمكن تلحينها، مثلما أدى تحويل روميو وجوليت إلى باليه إلى إلغاء النص بكامله.
والجدير ذكره أننا لا نجد كلمة اقتباس في القواميس الخاصة بفن المسرح إلا وتصاحبها كلمة مسرحي، أي نجد عبارة اقتباس مسرحي ، وتفسَّر على أنها إعادة ترتيب أو صياغة. وفي قواميس أخرى يسمون الاقتباس إعداداً. ولا نجد كذلك كلمة مقتبس ضمن قائمة العاملين في العرض المسرحي.
وعليه، يبدو أن المسرحيين لا يسألون إن كان اقتباسهم سرقة أم لا، بل يرون في إعادة الصياغة المشهدية لمسرحية أو مسرحة رواية أو قصيدة أو حدث ما عملاً إبداعياً مبتكراً لا تنطبق عليه كلمة اقتباس.