استقبال الآخر هو عنوان كتاب يعده حالياً الدكتور سعد البازعي.
الآخر هو الغرب. أما الاستقبال، فيوضح الدكتور البازعي أنه اعتمده لازدواجية في المعنى تجمع ما بين فتح الباب أمام الوافد أو ملاقاته، والمعنى الفقهي وهو التطلع صوب القبلة، أي جعل الغرب قبلة توجهنا. هذه الإشارة وردت في المحاضرة التي ألقاها المؤلف مؤخراً في نادي المنطقة الشرقية الأدبي، وتركز موضوعها على أطروحة الكتاب، ألا وهي علاقتنا بثقافة الغرب وأشكال تفاعلنا معها.
السؤال ليس جديداً. طرحه المثقفون العرب منذ عصر النهضة في القرن التاسع عشر. وتفاوتت أجوبتهم ولا تزال تزداد تفاوتاً وهروباً إلى الأمام مع تأزم أوضاع ثقافتنا المعاصرة. ما استوقفنا في محاضرة الدكتور البازعي كان العمق الذي تناول فيه مختلف الأطروحات عند النقاد العرب، ودقته في تحليل وتقييم كل منها في مكيال بالغ الحساسية، نابع من توازنه الرائع بين الانفتاح على الثقافات الأخرى والحفاظ على الخصوصية المحلية. ومثل هذا التزاوج بين احترام الأصالة المحلية والانفتاح الواعي على الآخر بات اليوم خشبة الخلاص الوحيدة للخروج بالثقافة العربية من تمزقها الحالي بين متغربين منسحقين أمام الآخر من جهة، ومنغلقين على أنفسهم يعتقدون أن الحضارة برمتها بدأت وانتهت بهم من جهة أخرى.
الأطروحات التي ناقشها الدكتور البازعي باختصار في محاضرته (ويناقشها بتوسع في كتابه المرتقب)، تبدأ بأكثرها تعقيداً عند شكري عيّاد ويمنى العيد وجابر عصفور وغيرهم.. وتنتهي بأبسطها وهي القائلة بوجوب أن نأخذ من الغرب ما يفيدنا ونترك ما لا يفيدنا . وقد أشار الدكتور البازعي إلى هذا الكلام وعلى وجهه علامة ضيق من بساطته وسهولته، إذ أنه لا يعني شيئاً محدداً عند الانتقال إلى التحديات الفعلية. وهو في ردة فعله على حق. وهنا نغتنمها مناسبة لإضافة قول آخر.
إن الأخذ عن الثقافات الأخرى أو التفاعل معها، لا يمكنه أن يكون سليماً إذا جاء بقرار. فكل عمل أدبي أو فني يستحق فعلاً هذا الاسم، هو نتيجة همّ أو اهتمام معين. فعندما يكون هذا الهم أو الاهتمام واحداً عند ثقافتين مختلفتين فلا بأس في أن تستفيد إحداهما من تجربة الآخرى. أما في حال اختلاف الهم أو الاهتمام، فإن تبني أسلوب تعاطي الآخر مع همّه الخاص به لن يؤدي سوى إلى هدر الطاقات عبثاً على أعمال لا يمكن أن يكون لها أي مكان أو مكانة. خاصة وأن الهم العام أو الاهتمام العام لا يمكن استيراده، إنه خاص بكل مجتمع وإن تكرر في مجتمعات عديدة في بعض الأحيان. وهذا ما يفسر محاصرة بعض النتاجات الثقافية الغارقة في تغربها المجاني في دوائر متناهية الصغر، تعجز عن الخروج منها إلى من يفترض أن تكون موجهة إليه.
وماذا عن العالمية؟
منذ ظهور الدراسات الأولى حول اجتماعية الفن والأدب في القرن التاسع عشر، ردد الكثيرون (وربما الآلاف) من الفنانين والأدباء والنقاد بأنه لا يمكن الوصول إلى العالمية إلا انطلاقاً من البيئة المحلية المحددة بدقة. وهذا الحكم لم يأت من باب التكهن أو التبشير، بل نتيجة نظرة شاملة إلى تاريخ الأعمال التي نسميها اليوم عالمية. فعبقرية الناقد أو الفنان تكمن في مواجهة الهم أو الاهتمام المحلي ومعالجته بشكل قابل للإسقاط على اهتمامات إنسانية عامة. المدهش هو أن السؤال لا يزال يطرح عندنا وكأننا أول من فكر فيه..