لم تمنعه إعاقته ولا كرسيّه المتحرك من أن يخطّ لنفسه مساراً فنياً فريداً، راهن فيه على رؤية خاصة تتأسس على إعادة تمثيل الشخوص عبر ذات شاعرية وحساسية فنية مرهفة. فعلى الرغم من إصابته بشلل الأطفال منذ سن الثالثة، استطاع الفنان المغربي كريم ثابت أن يتحرَّك بحرّية كبيرة في كل الآفاق، ليملأ جرح طفولته “المسلوبة” بالضوء والألوان، مما أهلَّه إلى أن يحرز عن وجه حق لقب “فنان السعادة”.
داخل محترفه الصغير في الدار البيضاء بالمغرب، يحاور الفنان كريم ثابت الألوان والظلال، فيختار تارة الباردة، وتارة أخرى الساخنة، وقد يمزج بينهما في أحايين كثيرة، باحثاً على نحو مستمر عن كائنات وأشكــال طفولية متعدِّدة، يرسمها في وضعيات مختلفة بين الوقوف والجلوس والانحناء. وكأني بالفنان يسعى إلى تذويب كل المسافات، وإلى أن يمنحنا الفرصة لنبتسم أمام شخوص تسعى لخلق السعادة في عالم مُتخيّل ومبني بريشة فنان شاعر يعي موضوعاته، فيصهر تفاصيلها بدقة، ويعبّر بها عن رؤيته الذاتية للعالم.
يستمد كريم ثابت من تجربة الذات وجراحاتها وآمالها مادة فنية تزخم بروحانية اللـون، حيث تصبح الألـوان لغــة جماليـة تسعى إلى امتلاك ما لا يتيحه سوى الشعر، فيشدك إليه لحظات بين التأمل والتأويل، كما قال عنه عديد من النقَّاد، لكي تجد نفسك أمام دفق شعري تحاول تأويله وسبر أغواره للقبض على معناه المضمر والخفي.
نشأته الفنية في طفولة صعبة
عشق كريم ثابت الفن والتشكيل في وقت مبكر. غير أن طفولته لم تكن عادية. فقد أصيب بشلل الأطفال وعمره ثلاث سنوات، وهو أمر جعله مقيداً إلى كرسيه المتحرك، محروماً من القفز واللعب. فيقول: “جعلني هذا المرض مختلفاً عن أقراني، ثابتاً في مكاني لا أتحرك إلا للضرورة، وبوتيرة محسوبة سلفاً. واقع صعب ولَّد لدي شعوراً بأنني مقيد ومختلف، إذ عندما كان الأطفال يلعبون ويكتشفون الأزقة والشوارع، كان عليّ أن أكون داخل المصحات والمختبرات من أجل متابعة الفحوصات والتحاليل الخاصة بوضعي الصحي”.
لكن كريم ثابت استطاع وبفضل دعم الأسرة وتوجيهها، وأيضاً بالعزيمة والإرادة القوية التي يمتلكها، أن يمضي قدماً في ما يطمح إليه، معلناً الحرب على واقعه القاسي، فإن خانته قدماه في الوقوف، لن يخونه ذكاؤه وحماسته في التميز، فانكب على التحصيل العلمي، وكتابة الشعر، ودراسة الموسيقى، قبل أن يسلبه الفن التشكيلي الذي وجد فيه نفسه أكثر.
يقول ثابت “كنت عاشقاً للصباغة والألوان منذ صباي، غير أن النظام التعليمي في المغرب لا يتضمَّن شعبة للفنون التشكيلية في جميع مراحل الدراسة، دون الحديث عن الجامعة، لأن ليس عندنا جامعات متخصصة في الفنون التشكيلية. وهذا ما دفعني إلى إيجاد بدائل أخرى. فدرست الموسيقى، وتذوقت الشعر. وأذكر أنني كنت أصغر مشارك في أمسية لمناسبة اليوم العالمي للشعر برفقة الشاعر السوري الكبير علي أحمد سعيد المعروف بأدونيس، وذلك قبل أن أقرر خوض غمار تجربتي في الفن التشكيلي. وحظيت محاولاتي الأولى بتشجيع أسرتي والمقربين”.
ويضيف: “كانت أمي بمثابة “ناقدة أولى” لأعمالي، تبدي ملاحظاتها على اللوحات التي كنت أرسمها، وتشجعني على المضي قدماً. وبعد أن أنجزت عدداً من اللوحات، قررت عرضها في أول معرض فني في كلية الآداب بعين الشق بالدار البيضاء عام 2001م، حيث وجدت دعماً شجعني على المضي قدماً في رحلة الألف ميل.
رحلة الألف ميل بخطوة
خطا ثابت آنذاك أول خطوة نحو المجال الذي يعشقه، وخالجه شعور بالسعادة وهو يخرج من عالمه الضيق إلى فضاء أرحب، يقاسم فيه الجمهور لوحاته.
“كانت أول مشاركة فنية لي خارج المغرب، في فرنسا عام 2006م، إذ تلقيت دعوة من جمعية “إيقاعات وألوان” في نواحي مدينة تولوز، ومثلت بلدي بأعمال تجريدية آنذاك. وهناك التقيت ثُلَّة من الفنانين التشكيليين الفرنسيين، الأمر الذي فتح أمامي عديداً من الأبواب ومكنني من الانفتاح على الأعمال الدولية واكتشاف لوحات فنانين عالميين ومعرفة أين أتموضع أنا من خلال الفن التشكيلي المغربي. وتوالت بعد ذلك مشاركاتي في عديد من المعارض الفردية والجماعية الوطنية والدولية”.
في عام 2014م سافر كريم ثابت الرحال إلى إسطنبول للمشاركة في معرض فني، خاض فيه بمعية فنانين تشكيليين من مختلف أنحاء العالم تجربة فريدة باستخدام المتلاشيات: “وجهت إليّ الدعوة للمشاركة في السامبوزيوم، وكان الموضوع مميزاً نوعاً ما، ويقضي بالاشتغال على المتلاشيات القابلة لإعادة التدوير، مثل الخشب أو البلاستيك أو الورق. كان على كل فنان أن يعمل من خلال رؤيته وأسلوبه الخاص، للخروج في النهاية بعمل فني يعيش مدة طويلة”.
وكان العام نفسه (2014م) فأل خير على الفنان كريم ثابت، إذ منح فيه لقب أفضل فنان تشكيلي عربي في لندن، من خلال مسابقة دولية نظمتها مؤسسة “المجموعة العربية” بلندن، وفي عام 2015م، كانت له مشاركة في “مهرجان الفن التشكيلي العربي الثاني” في دبي. وخلال السنة نفسها شارك في معرض “لدي حلم” في سفارة الولايات المتحدة الأمريكية، وشارك عام 2017 في معرض “ميزيكول” بمدينة الدار البيضاء مسقط رأسه، وغيرها من المعارض التي حاز خلالها جوائز وشهادات تقديرية.
رحلة اللون والشخوص
مرَّت تجربة الفنان كريم ثابت بمجموعة من المراحل، ظل يبحث خلالها عن بصمته وعن الشكل الفني الذي يميزه، انطلاقاً من بحثه في المادة واللون، مروراً بالأشكال والموضوعات. فيقول: “اشتغلت في البداية بمواد متنوِّعة منها النجارة، الجلد، الخشب، واستخدمت الألوان المائية، وبعدها طورت تدريجياً لوحاتي من خلال مشاهدتي وحضوري لمجموعة من المعارض التشكيلية”.
لا يخفي كريم ثابت تأثره في البدايات بالمدرسة التجريدية التي تعتمد في الأداء على إنجاز أشكال ونماذج مجردة تنأى عن مشابهة المشخصات والمرئيات في صورتها الطبيعية والواقعية. “كنت معجباً بتجربة الفنان التشكيلي المغربي محمد بناني، وكانت لوحاته تأسرني، وقد كان محقاً حين شبّه اللوحة بالفِلْم السينمائي الذي يُختار له ألوان تؤدي دور البطولة، وأخرى لأدوار ثانوية”. غير أن ريشة ثابت سبحت بعد ذلك في اتجاهات فنية متعدِّدة: “اشتغلت على الألوان الزيتية، وعلى لوحات ذات العلاقة بأعماق البحار والألوان الزاهية”، قبل أن يستقر إلى اتجاه فني قريب إلى نفسه، ويُعدُّ انعكاساً لشخصيته، ويتمثل في لوحات تحاكي شخصيات وقصصاً وأحداثاً.
ففي عام 2009م، ابتكر ثابت شخصية فريدة للوحاته التشكيلية منحته لقب “صاحب السعادة”، يقول عنها “اكتشفت هذه الشخصية عن طريق الصدفة، وعبرها جسدت حالات نفسية وشاعرية أو مسرحية في بعض الأحيان”.
والمتأمل في لوحات الفنان كريم ثابت يدرك أنه نجح في تحويل محنته الأولى إلى هبة، من خلال سحر الألوان. “فبدأت الذات تتحرر رويداً من عقالها، وبدأت أضواء الشهرة تحوّل الكائن اليائس إلى ذات تضج بالأمل، من خلال مزج الألوان. لكنه لعب محبوك بقواعد وآليات متفق عليها في مجال الفن التشكيلي”، كما يقول الناقد سعيد الشفاج.
يغوص ثابت بريشته بين” البرتقالي – البني- الأحمر ومشتقاته – الأصفر الداكن – الأرجواني، ليمنح شخوص لوحاته وجوهاً طفولية مشعة يبزغ منها الأمل والفرح.
وعن تجربته تقول الكاتبة والإعلامية نادية الصبار: “فن كريم ثابت نابع من ملكة ووعي وإدراك. ولعلي أراه متأثراً بـ “رينوار” الذي تمركزت جلَّ لوحاته حول الجســد الأنثـوي. قد يقـول كثيرون إن هذا ضربٌ من الخيال، ولا يمت بصلة للتحليل الواقعي، على اعتبار أن “رينوار” اعتمـد العري لكشف إبداعاته التي تعتمد أسلوب الكشف في حين اعتمد ثابت عكس ذلك.. تحضر الأنثى، في أعمال الفنان ثابت، مليئة بالحياة والجاذبية، ورمزاً لكل القيم النبيلة والجميلة من حب وعطاء وحياة، كما تحضر في شكل جميل وملامح دون الاكتمال”.
فقد وجد الفنان التشكيلي كريم ثابت ضالته في أسلوب التفصيل والتجسيد الكامل للجزء العلوي من الجسم ولو من تحت حجاب. ولم يعط الجسم نفسه التفاصيل نفسها، فجعله في قوالب فنية تضمره من دون أن تفصّله. وفي الأمر تعبير صارخ عن وضع معيش. فنصفه كتلة جسدية خالية من الحركة ومن الحياة. وفي المقابل، غاص في أدق التفاصيل والجزئيات العلوية حتى بدت حية وتنثر الحياة. وثمة ملاحظة أخرى تستدعي الاهتمام، ألا وهي هو طول الأعناق بلا استثناء في كل الأجسام التي ملأت فضاءات لوحاته، ولعلها للإفادة، على الأقل في ثقافتنا الشعبية، بالشموخ.
من هذا المنطلق يسعى الفنان إلى إغراق المتلقي في حياة جديدة ومساءلتها، ربما لتسهيل هروبه من وجود قليل الإرضاء إلى آخر أغنى، وهذا الأخير يترجم رغبة دفينة في تحقيق حياتنا التي لم تتحقق من خلال شخصيات وأشكال أخـرى يرسمها الفنان بكل ما أوتي خياله من خصب. فيؤثث لنا مسرحاً من الدمى يستحوذ على كياننا بأسره.
إنّ “التجربة الفنية للفنان المغربي كريم ثابت هي ذات طابع ذاتي وأصيل، كونها تبحث عن توازنه مع ذاته وعالمه الطفولي المسحوب منه بالقوة. كما أن ذاتيتها لا تنفي عنها أغراضها الكونية كونها تضطلع كذلك بوظيفة إخراج الكائن من عزلته وفرديته ليؤسس كليته. وهذا ما يشرع الحديث عن وظائف متعدِّدة للفن من هذا المنطلق”، كما تقول عنه الفنانة التشكيلية التونسية دلال صماري.
فرغم كل الصعوبات التي يعاني منها مجال الفن التشكيلي والقطاع الثقافي في المغرب، والتي تغرق الفنانين في تفاصيل تنظيمية وتحضيرية في البحث عن فرص للعرض أو المشاركة في المحافل الدولية، استطاع الفنان العصامي كريم ثابت أن يضع نفسه في مصاف الفنانين العالميين، بموهبته وكفاحه وصدق أعماله في تعبيرها عما في نفس مبدعها. ومن المعلوم أن الانطلاقة الصادقة من الذات والمحلية هي شرط أساسي للوصول إلى العالمية.
سيرة مختصرة
ولد كريم ثابت عام 1980م بمدينة الدار البيضاء، وبها تابع دراسته حتى الثانوية.
حاز شهادة البكالوريوس في اللسانيات العربية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق عام 2004م، من جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء، ثم الماجستير المتخصص في الإشهار والتواصل، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، عام 2009م، ويحضِّر حالياً شهادة الدكتوراة من الجامعة نفسها حول موضوع “التصميم الكرافيكي والتشكيل”.
بدأ مسيرته الفنية في عام 2000م، وفي العام التالي أقام أول معرض فردي لأعماله.
شـارك عام 2006م إلى جانـب فنانيـن تشكيلييـن عالميين في معرض “إيقاعات وألوان” في فرنسا، لتتوالى بعد ذلك المشاركات الوطنية والدولية.
حاز في عام 2014م، لقب أفضل فنان تشكيلي عربي في لندن، من خلال مسابقة دولية نظمتها مؤسسة “المجموعة العربية” بلندن، وفي العام نفسه، شارك في معرض جماعي بإسطنبول. وكان آخر معرض فردي له في قاعة محمد الفاسي بالرباط بدعم من وزارة الثقافة والاتصال بالمغرب، كما شارك في معرض جماعي بلندن ضم نخبة من الفنانين العالميين.
يتقلد حالياً منصب نائب الكاتب العام للنقابة المغربية للفنون التشكيلية، وهو عضو في الجمعية الوطنية للفنون التشكيلية، وعدة جمعيات ومراكز بحث وطنية ودولية.
ماشاء الله عبقري مغربي لم يعطاه حق وافي في مسيرته الاحترافية والفنية.الدولة المغربية من الواجب إعادة حق النظر في المواهب النادرة متل عبقرينا ثالث كريم