يتزايد الاهتمام بنشر الأعمال الفنيَّة في أنحاء المدن، وذلك بالدرجة الأولى انطلاقاً من الاقتناع العميق بأهمية الفن في حياة المجتمع وفي سعادته وازدهاره. وقد اتسع هذا الاهتمام ليأخذ أشكالاً متطوّرة مثل إنشاء متاحف الهواء الطلق ومتنزهات الفنون، حيث تكرَّس مساحات من الأراضي ذات الجمال الطبيعي لنشر أعمالٍ فنيَّة في أرجائها، فتصبح مقصداً للنزهة والاستمتاع بالفنون في آنٍ معاً.
إقامة مجسَّمات فنيّة في مواقع محورية في المدن ليست ممارسة جديدة، بل تعود إلى آلاف السنين، لا سيما في البلدان التي شهدت حضاراتٍ مزدهرة. إلا أن إقامة هذه المجسّمات كانت في معظمها لتخليد مناسبة أو شخصية وطنية أو روحية، وكان نمط الأعمال الفنيّة ملحقاً تماماً بنمط العمارة السائد والفنون الكلاسيكية.
لم يكن يُنظَر إلى هذه الأعمال أو إلى وجودها على أنه نشرٌ للفن أو تشجيعٌ له، بقدر ما كانت هذه الأعمال تُعَدُّ جزءاً لا يتجزأ من عمران المدينة التقليديّة. وكثيراً ما كانت تُسمَّى الساحة باسم مجسم ما يتوسطها. ومن نافل الذكر، أن بعض المدن العريقة نمت ضمن حركة حضارية ناشطة في الفن، جعلتها كلها متحفاً فنياً مترامي الأطراف، في الهواء الطلق، مثل روما، العاصمة الإيطالية، حيث يقع نظرك على منحوتة أو عمل فني، كيفما تلفتّ. ومثلها بعض المدن الأخرى كمدينة الأقصر المصرية.
لكن الوضع اليوم اختلف تماماً. فالمدينة الحديثة التي تطوّرت، وطُوِّرَ معها الفنُّ الحديث، انتقلت إلى الاهتمام بنشر الفن في أرجائها من منطلق آخر تماماً، ومن نوع الفن نفسه. أصبح حجم الاهتمام شهادةَ انتماءٍ إلى العصر ودرايةٍ بأهمية الفن في تطوير الوعي الاجتماعي والمستوى الثقافي. لكن بقدر ما يجد هذا التوسع في الاهتمام، ما يستحقه من الحماسة والتشجيع الكبيرين، إلا أنه يواجه أحياناً، بسبب بعض توجُّهات الفن الحديث، بعض التحديات التي لا بد من الاعتراف بها والتعامل معها.
المدينة مُتحفٌ في الهواء الطلق
بدأ هذا المنحى في الستينيّات من القرن العشرين، وأخذ يتوسع محققاً خطوةً جديدة كل بضع سنين. وكان ذلك نتيجة التقاء حاجتين: الأولى توسع المدن نفسها وازدياد ظاهرة المتنزهات العامة في أرجائها، مما زاد من حاجتها إلى أعمال تعزِّز ما يُسمَّى خارطة المدينة الذهنيّة. وأما الحاجة الثانية فهي رغبة مزيد من الفنانين في إخراج أعمالهم من محابس الغاليريات والمعارض، ووضعها في الفضاء الحر أمام الناس العاديين. وجل هذه الأعمال لا يدخل صالات العرض ولا حتى المتاحف.
وهكذا بدأ يزداد انتشار الأعمال الفنية في الطرق وعند المستديـرات، كما في الحدائـق العامـة. ولا تكاد تخلو مدينة معاصرة اليوم من عشرات، بل مئات الأعمال الفنية في مختلف أرجائها، وليس بالضرورة في مواقع محورية مهمة من المدينة. وهي أعمال يتّضح انتماؤها إلى الفنون الحديثة المعاصرة، على تنوّعها.
بدأت تنشر الأعمال الفنية في الطرق وعند المستديرات، كما في الحدائق العامة. ولا تكاد تخلو مدينة معاصرة اليوم من عشرات، بل مئات الأعمال الفنية في مختلف أرجائها، وليس بالضرورة في مواقع محورية مهمة من المدينة. وهي أعمال يتّضح انتماؤها إلى الفنون الحديثة المعاصرة، على تنوّعها.
كذلك انتشرت ظاهرة المتاحف في الهواء الطلق، إلى أن وصلت إلى متنزهات الفنون الآخذة في التزايد وأصبحت مقصداً لمحبي الطبيعة والفن في آنٍ معاً. لا بل هناك مدن عديدة تتباهى بأن المدينة بأسرها هي أشبه بالمتحف المفتوح في الهواء الطلق. وتتوزّع الأعمال الفنية فيها بين منحوتاتٍ مقتناة أو مُكلَّفٍ بها نحاتون، وبين أعمال جداريّة، بعضها ينفَّذ حسب أسلوب الجداريات المعروف، وبعضها الآخر بأسلوب الجرافيتي المنتشر بتزايد هذه الأيام. وفنانو الجرافيتي، الذي هو في الأصل فن تلقائي يقوم فيه الفنان بالرسم على جدار متاحٍ عند ناصية شارع، أصبحوا جمعاً من المتخصِّصين بهذا الفن، فصار يُحسَب لهم حساب.
نزهة الكورنيش الفنية في جدّة
لا شك في أن من المدن التي تستحق بجدارة أن تعتزّ بانتشار الأعمال الفنيّة في أرجائها، مدينة جدةّ. فمنذ فترة، قامت مبادرةُ مؤسسة “فن جميل” لترميم عدد من الأعمال النحتية لبعض كبار الفنانين العالميين. وجرى على نحوٍ موازٍ إعداد كتاب يواكب عملية الترميم التي انتهت إلى متحف في الهواء الطلق من جهة، ومن جهة أخرى أحصت الأعمال الفنيّة التي بلغ عددها ما يقارب الأربعمئة، بعضها لفنانين عرب مقيمين أو غير مقيمين، وبعضها الآخر لفنانين سعوديّين. المعروف طبعاً أن هذه الظاهرة تحقَّقت بشكل رئيس خلال إدارة الدكتور سعيد الفارسي لأمانة المدينة، ثم أضيفت أعمال أخرى في المراحل التالية لأمانته. والحقيقة أن ما يميّز هذه التجربة، ليس العدد الكبير للمنحوتات، ولا حتى كون بعضها لأسماء عالمية بارزة، بل الروحية التي أُنجِزت بها. إذ كان من الواضح لأي إنسان تأخذه الصدفة إلى كورنيش جدة، إحساسه فعلاً أنه في مدينة تحب احتضان الفن. فقد يمشي مسافة طويلة جداً، وهو ينتقل خلالها من منحوتة إلى أخرى بلا نهاية.
ظاهرة المتنزهات الفنيّة (النحتيّة) انتشرت انتشاراً واسعاً في العقدين الأخيرين على الخصوص، حتى أصبحت تُعدُّ ملازِمة للمدينة المعاصرة الراقية. لكن نجاح أعمال النحت في الساحات العامة، يفرضه امتحان قدرتها على اجتذاب الناس إليها، حتى حدود الاسترخاء والارتياح إليها.
وإذا أخذ البعض على عددٍ من هذه المنحوتات أسلوبها التجريدي الشديد، الذي يجعلها بعيدة عن متناول الإنسان العادي واستعداده للاستمتاع بها، إلاَّ أن المناخ العام الذي أضفته على المدينة كان له، وقع طيب في نفوس عامة الناس، أكان بشكل مباشر أو غير مباشر.
علاوة على هذا، شهدت جدة في الحقبة نفسها، بضعة أعمال جريئة وجميلة كَلَّلت هذا المجهود، مثل نافورة جدّة، ومنحوتة الدرّاجة العملاقة، وربما نضيف إليهما مجسمي دوَّار الفلك والأدوات الهندسية من مكتبة المكتبة. وقد تفاعل الناس معها كلها، وكان تفاعلهم هذا موصولاً بالأعمال النحتية الأخرى.
وفي السنوات الأخيرة، بدأ شيء من هذا التوجّه يظهر في مناطق المملكة الأخرى، لا سيما المنطقة الشرقية والعاصمة الرياض. ففي الأولى أُطلقت مبادرةُ “نقوش الشرقيّة”، التي لم تُتَرجَم أولاً إلى ما طمحت إليه؛ لكن في السنتين اللتين تَلَتا المبادرة مباشرة، ظهر عدد كبير من الأعمال الفنية النحتيّة في عدة ميادين وساحات.
وفي الرياض كان هناك توجه قوي نحو إنشاء متنزهات تزيّنها الأشجار والبِرَك والنوافير، داخل المدينة وعلى تخومها، ليس أقلها مشروع تجميل وادي حنيفة. أما مشاريع المستقبل، سواء أكانت في الرياض أم في المدن الأخرى، فبدأت تأخذ منحىً جديداً يتصل بمشاريع طموحة في التطوير المدني.
متاحف بديلة وحدائق بديعة
لكن ظاهرة المتنزهات الفنيّة (النحتيّة) انتشرت انتشاراً واسعاً في العقدين الأخيرين على الخصوص، حتى أصبحت تُعدُّ ملازِمة للمدينة المعاصرة الراقية. فمدينة مثل نيويورك، التي تضم ما لا يقل عن عشرة متاحف كبرى للفن الحديث، تفخر بعدد مشابه من المتنزهات الفنية أو متاحف الهواء الطلق التي تضم عدداً هائلاً من الأعمال لكبار الفنانين، من مستوى بيكاسو وميرو وجياكومتي وأمثالهم. ومن هذه المتنزهات أو الحدائق ما هو ملحق بالمتاحف، مثل متحف الفن الحديث (موما)، أو متحف عائلة روكفلر العريق. ولذا، يقال إنك إذا زرت نيويورك ولم تجد تذاكر لدخول المتاحف لكثرة روَّادها في بعض المواسم، فلا تأسف. إذ إن متاحف الهواء الطلق تستقبلك مجاناً طوال اليوم، وهي لا تقل أهمية عن نظيراتها في المتاحف المقفلة.
وإذا كانت نيويورك حالة خاصة، إلاَّ أنك في أوروبا سوف تجد متنزهات مشابهة في معظم الدول، مثل فرنسا وإنجلترا وأسكتلندا والسويد وغيرها. وعلى الطرف الآخر من العالم، دولتان تتميّزان بمتنزهات النحت، هما اليابان وأستراليا. ولا غرابة في أن يكون لليابان ميل طبيعي لمتنزه الفن، لما للتأمل الروحاني من تراث عريق في الحديقة اليابانية. وإذا كان التأمل في الطبيعة والوجود من أهداف إدخال الفن إلى الحدائق والمتنزهات، فلا شك في أن “حديقة زن”، بكونها مكاناً يمتاز بالسكينة والتوازن، تبعاً للمنحى الآسيوي في التأمل، تُعدُّ مثالاً فريداً في هذا النمط من الحدائق. ومن أشهر الحدائق ذات النسق الفني الياباني، حديقة ملحقة بمتحف أداتشي للفن الذي يضمّ أكبر مجموعة من الفن الياباني العريق، ولكن إلى جانبه الحديقة التي كرَّس مؤسس المتحف سنوات عمره الأخيرة في خدمتها، ووصفها الناس باللوحة اليابانية الحيّة. أما أستراليا فتكاد متنزهات النحت فيها أن تحتضن رسميّاً الفن الأكثر تعبيراً عن ثقافتها وروح الإبداع الفني لديها.
ازدواجية ترافق الفنون المعاصرة
لكن سيرة الأعمال الفنية المعاصرة في الساحات العامة والمتنزهات لم تكن دوماً قصة سعيدة. ولا شك في أن إقامة نُصُبٍ في موقع عام أمام جمهور عام، يحتمل الاعتراض: إما الاعتراض على الموقع، أو الاعتراض على جمالية الشكل، أو حتى على الاثنين معاً. وهذا يتزايد مع تزايد نزوع الفنّانين إلى تحقيق أعمال تتعادل فيها نزعتها الابتكارية مع غرابتها.
ولا بد من الإقرار بأن هذا الاحتمال، بشكل عام، نادراً ما حدث في الماضي، لربما بسبب نمط العمل النحتي التقليدي وحسن اختيار الموقع له.
تتوزّع الأعمال الفنيّة المعاصرة المنتشرة في الشوارع والساحات من جهة، والمتنزهات من جهة أخرى، إلى نوعين من حيث الاقتناء. بعضها يُشترَى مباشرة من الفنان أو صالة العرض، ويُنقَل إلى موقعه الجديد. أما بعضها الآخر فيُكلَّف الفنان/ النحات بإنجازه. وعادة ما يُترَك له تكوين العمل كما يرى، شكلاً ومواد مستخدمة وألواناً وغيرها. وتُوضَع له في حالات معينة، بعض التوجهات أو الضوابط. وحين يُنجِز الفنان العمل ويُرتب نقله إلى الموقع الذي اختير له، يصبح حسن استقبال الناس له مسؤولية الهيئة التي أوصت عليه في الأساس.
الخيار بين جمال الفن وحُسن المدى
إن الاعتراضات التي ساقها الناس على بعض الأعمال النحتية في حالات مختلفة، يجب أن تُراجَع وتُدرَس بجدية وموضوعية وتفَهُّم حقيقي. أما مواجهة الاعتراضات بالاستنكار المباشر والسهل، من قبل الفنانين أو مشجعي الفن الحديث، فقد تضع أصحابها في مواقف محرجة. وإذا كان شكل العمل أو مدلوله يحتمل الاختلاف في الذوق، إلا أن هناك اختلافات على الموقع، جديرة بالنظر أيضاً. وعلى سبيل المثال، كانت هناك اعتراضات على أعمال كبيرة الحجم، رأى البعض أنها تعكّر صفو المنظر الطبيعي، أو تشكِّل حاجزاً يقف حائلاً أمام امتداد نظرهم. وإذا كان لأصحاب متحف ما الحق باختيار ما يرونه من الأعمال داخل المتحف ووضعها حيثما يشاؤون، إلا أن المنطق السليم يقول إن للناس الحق في إبداء الرأي في مثل هذه الاختيارات حين تنتصب أمامهم كل يوم، في المكان العام وأمام أبصارهم. وإذا كان من الطبيعي أن يتوزع الناس أمام أي عمل فني بين مستحسن ومستنكر، إلا أنه يبدو أن حصة الأعمال النحتية في الأماكن العامة من ردود الفعل السلبية، أعلى من غيرها من الفنون، خاصة في أنماطها التركيبيّة الحديثة.
على أي حال، تخضع هذه التجارب، كغيرها من التجارب الإنسانية في الفنون، لقانون التجربة والخطأ. وكم من فنون واجهت الاعتراض ثم قُبِلَت وحوفِظ عليها، بل واستُقبِلَت بالاستمتاع بها على نطاق واسع. ويُتوقع أن تُطالع كل راغب في مواكبة هذه التجارب من الأعمال، ما قد يستنكره أولاً. ولكن مع الوقت، ربما يعود فيرضى بها. وعلى العكس من ذلك، قد تطالعه من الأعمال ما يُعجب به في بداية الأمر، لكنه مع مرور الزمن يجد أن إعجابه في غير مكانه. فالعلاقة بين الإنسان والعمل الفني ليست علاقة بسيطة ولا سهلة؛ وكثيراً ما تتأثّر بلحظة اللقاء الأولى. ولا ريب في أنه بقدر ما يترك وجود عمل فني في موقع ما إحساساً طيباً واستمتاعاً، تكون للفراغ، في أحيان أخرى، قيمة حسية ومزايا لا ريب فيها.
إحساس يخاطب الناس
في نهاية المطاف، ما ينطبق على العمل الفني عموماً ينطبق على أعمال النحت في الساحات العامة. نجاحها يفرضه امتحان قدرتها على أن تجتذب الناس إليها، فتتأملها، وحبذا لو يطول فيها التأمل إلى حد الاسترخاء. وهذا يحدث أمام بعض الأعمال الخالدة التي يتفاعل معها الناس بعاطفة صادقة. ولا شك في أن العمل الذي كوّنه صاحبه بحس حقيقي فطري أو يكاد، وانساب من نفسه انسياباً تلقائياً، لا بد أن يصيب مستوى أعلى من النجاح وحسن الاستقبال. نصادف مثل هذه الأعمال في رحلاتنا، ومنها ما يصل إلى الناس عبر وسائل الاتصال على اختلافها. وإذا كان كل فن يحتاج إلى أن يخاطبك كي يكون فنّاً، فإن الأعمال المخصصة للساحات العامة لا بد من أن تكون مخاطبتها للناس مضاعفة.
اترك تعليقاً