وفقاً لتقرير صادر عن “برنامج رصد القطب الشمالي وتقييمه”، سيصبح هذا القطب خالياً من الجليد بحدود عام 2040م، نتيجة احترار الكرة الأرضية. الأمر الذي سيؤدي إلى ارتفاع مستويات مياه البحار والمحيطات، بشكل يهدِّد معظم مدن العالم الساحلية بالغرق.
ومن المعروف أن أربع عشرة مدينةً، من أصل أكبر سبع عشرة مدينة في العالم، هي مدن ساحلية، كما أن حوالي نصف سكان العالم يسكنون في هذه المدن وفي المناطق الساحلية الأخرى. ويتوقع علماء السكان أن هذه النسبة ستتضاعف في العقد أو العقدين المقبلين.
تنتشر هذه الأعداد الكبيرة من البشر على مسافات تتراوح بين 60 و200 كلم من الشواطئ باتجاه الداخل. ولذا، عندما تغرق نتيجة لارتفاع مستوى المياه، فإن الانتقال إلى الداخل يصبح صعباً، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا التغيير سيترافق مع انتشار الحرائق بوتيرة أكبر مما هي عليه.
ومن الأدلة الواقعية على ذلك عاصمة إندونيسيا جاكرتا التي تغرق سنة بعد سنة. إذ يظهر من بعض النماذج الهندسية أن %95 من القسم الشمالي منها سيغرق بحلول عام 2050م، بسبب ارتفاع مستوى مياه المحيط وانزلاق التربة بمعدل 25.4 سنتيمتر كل سنة.
ويتوقع علماء المناخ أنه بحلول نهاية هذا القرن سترتفع المياه حوالي 65 سنتيمتر كحدٍ أدنى، وعند منتصف القرن المقبل ستغرق مدنٌ كثيرةٌ حول العالم. وكثير من الجزر ستختفي. فأين سيذهب كل هؤلاء الناس؟
محاولات سابقة
في عام 1972م، أسس المليونير الأمريكي مايكل أوليفر دولة ذات سيادة قبالة ساحل تونغا. فقد اختار الشعاب المرجانية الضحلة التي تحيط بها التيارات البحرية، وتعاقد مع شركة لبناء جزيرة من العدم بواسطة تجريف الرمل من قاع البحر. وأطلق أوليفر على جزيرته الصغيرة اسم جمهورية مينيرفا، وأعلن استقلالها وصك عملتها الخاصة، الأمر الذي أثار غضب دولة تونغا المجاورة. بمرور الوقت، استعاد البحر تدريجياً الرمال، ولم تعد يوتوبيا المليونير الصغيرة موجودة.
كما جرت لاحقاً محاولات لبناء نماذج من مدن صغيرة عائمة من قبل مغامرين أمريكيين، مثل مشروع “سيستيد” بالقرب من سان فرانسيسكو عام 2008م ولكن تيارات المحيط القوية حالت دون ذلك. وانتقلت هذه المحاولات عام 2017م إلى مناطق أكثر هدوءاً في جزر بولينيزيا، ووقّعت اتفاقية مع سلطات تاهيتي. ولكن أعمـال شغب حالت أيضاً دون ذلك.
اهتمام دولي جدّي
في شهر مارس من العام الجاري، جمع “برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية”، حول طاولة مستديرة، عشرات العلماء والمهندسين والفنانين والمستثمرين لمناقشة إمكانية إنشاء مدن عائمة، أو ما سموه “مدينة المحيط” كمنصة قابلة للتوسع للحضارات البحرية المقبلة، وكحل عملي لهذه المشكلات البيئية المصيرية التي سبق ذكرها. واللافت أن موقع الاجتماع في مدينة نيويورك على ضفة النهر الشرقي، كانت له دلالته، لأن قاعة الاجتماع نفسها قد تصبح تحت الماء خلال قرن.
“مدينة المحيط” هو اسم المشروع الذي دعا إليه برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية لمناقشة إمكانية إنشاء مدن عائمة كمنصة قابلة للتوسع للحضارات البحرية المقبلة.
والحال أن ليس هناك أي حـل آخر ضمـن التكنولوجيا المتوفِّرة حالياً لهذه المشكلة. والدليل على ذلك هو أن المشروع الضخم، الذي يُعدُّ الأكبر من نوعه في التاريخ، لحماية نيو أورلينز في الولايات المتحدة بعد إعصار كاترينا، والذي اعتُبر حصناً لا يقهر، قد أخفق في الغاية من إنشائه رغم إنه كلف 14 مليار دولار.
ويقول في هذا الخصوص “فيلق المهندسين في الجيش الأمريكي” الذي صمم ونفذ المشروع، “إن النظام سيتوقف عن توفير الحماية الكافية في أقل من أربع سنوات بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر وتقلص السدود”، كما أشارت مجلة “ساينتيفيك أمريكان” في عددها لشهر أبريل 2019م.
ويبدو واضحاً، أن الحل شبه الوحيد لسكان المناطق الساحلية هو في بناء مدن عائمة، تعالج النقص الحاد في المساكن من ناحية، والتهديدات الناجمة عن ارتفاع منسوب مياه البحر من ناحية أخرى.
ويقول مارك كولنز مدير شركـة “أوشيانيـك” والمشارك في اجتماع الأمم المتحدة لبناء مدن المستقبل العائمـة، إنه “سيتم تصميم الهياكل نفسها لتحمل جميع أنـواع الكوارث الطبيعية، بما في ذلك الفيضانات وأمواج تسونامي وأعاصير من الفئة الخامسة.
وبادئ ذي بدء، وقبل الشروع في بناء المدن العائمة، يتعيَّن التفكير بطريقة تبقي هذه المدن مكتفية ذاتياً لفترة طويلة من الزمن في حالات الكوارث الطبيعية الكبيرة. وتتبادر إلى الذهن فوراً تقنيتان يمكنهما مساعدة المدينة على البقاء مكتفية ذاتياً خلال إعصار أو كارثة طبيعية لفترة طويلة؛ الزراعة العمودية تحت مياه المحيطات والزراعة العمودية فوقها. وبما أن النوع الثاني معروف ومعمول به منذ فترة، يبقى الدفع بفكرة الزراعة تحت مياه البحار قدماً.
وتقضي هذه الفكرة بوضع أقفاص أسفل المنصات العائمة يمكنها حصاد الأسقلوب (نوع من الرخويات) وعشب البحر أو غيره من أشكال المأكولات البحرية، واعتماد أنظمة أكوابونيك التي تستخدم براز الأسماك للمساعدة في تخصيب النباتات.
الموقع والبناء
أما موقع المدينة البحرية المرتقبة، فيتوقع له أن يكون على بُعد حوالي كيلومترين من الساحل، وأن تكون هذه المدينة متحركة بشكل يمكن سحب منصاتها إلى مواقع آمنة أكثر في عمق البحار في حال وقوع كارثة.
وسيتم تعزيز وربط المنصات العائمة بواسطة تقنية معروفة بالصخور الحيوية. وهي مادة تتشكَّل عن طريق تعريض المعادن تحت الماء لتيار كهربائي، الأمر الذي يؤدي إلى تشكّل طبقة من الحجر الجيري أصلب من الخرسانة بثلاث مرات، ويتميز بأنه يطفو على سطح الماء. ويمكن لهذه المادة إصلاح نفسها طالما أنها لا تزال مكشوفة للتيار البحري، ما يتيح لها تحمّل الظروف الجوية القاسية.
وستكون مواد البناء مستدامة مثل الأخشاب والخيزران. كما يمكن استعمال تقنية تم اكتشافها حديثاً، ربما تشكِّل ثورة في مجال البناء، وهي الخشب الشفاف بدل الزجاج. وستكون هذه المدن مصممةً أيضاً لتفكيكها حتى تتمكن الأجيال المقبلة من المهندسين المعماريين من إعادة تطبيق مفاهيم جديدة عليها.
أما من ناحية هندستها، فيقول المهندس المعماري الشهير بجارك إنجيلز، أحد مصممي المدن العائمة المستقبلية “ستكون المدينة أساساً عبارةً عن مجموعة من المنصات السداسية التي يمكن لكل منها استيعاب حوالي 300 شخص”.
يُعدُّ الشكل السداسي واحداً من أكثر الأشكال المعمارية كفاءة، تماماً كما في أشكال الشمع داخل خلية النحل. فمن خلال تصميم كل منصة على شكل سداسي، يأمل المصممون في تقليل استخدامهم للمواد، وتقسيم المدينة إلى مجموعات تتألَّف كل واحدة من ست منصات لتكوِّن قرية، وتحتوي المدينة بأكملها على ست قرى، أي ما مجموعه حوالي 10,000 نسمة.
لن تسمح القرى البحرية بوجود سيارات أو شاحنات عالية الانبعاث. وبدلاً من ذلك، سيتم الاعتماد على تقنيات جديدة مثل النقل والشحن بواسطة الطائرات بدون طيار. كما أن المدينة لن تحتوي على أي شاحنات لجمع القمامة، بل ستقوم أنابيب القمامة الهوائية بنقل القمامة إلى محطة الفرز، حيث يمكن إعادة تدويرها.
ويمكن للمدينة العائمة أن تستعين بتقنية استخراج المياه من الهواء، التي طورها البروفيسور عمر ياغي من جامعة بيركلي، والتي سبق للقافلة أن نشرت مقالة عنها.
يبقى حل مشكلة التأقلم مع سكنٍ هزازٍ طوال الوقت. ومن غير المعروف التأثير طويل الأمد على الصحة الجسدية والنفسية لهذا الوضع الجديد.
اترك تعليقاً