يقترن الحديث عن الشيب عادة بالحكمة والتأمل. فهو إيذان بانتقال المرء من طور الشباب إلى الكهولة أو الشيخوخة، وهذا ما يدفع الإنسان إلى النظر فيما مضى وما تبقى من سنين. في هذا المقال، يعرض عماد بو خمسين الأشكال المختلفة التي تعامل بها الشعراء مع الشيب بين مرحبٍ به وذامٍ له.
يمر الإنسان خلال مراحل حياته بتغييرات عديدة، لعل أبرزها هو ظهور الشيب وابيضاض الشعر، وبينما نجد أن أكثر الشعراء قد عدّوا الشيب علامة على رحيل الشباب وتوديع نضارة الحياة، فقد عدّه آخرون دليلاً على الوقار والنضج العقلي. لذلك قد نرى بعض الأمثلة على الترحيب بالشيب، بل ومديحه أيضاً، كقول علي بن أبي طالب، رضي الله عنه:
فأهلاً وسهلاً بضَيفٍ نَزَلْ
وأسْتَوْدِعُ الله إلْفَاً رَحَلْ
فأمّا المَشيبُ فصُبْحٌ بَدا
وأمّا الشبابُ فَبَدْرٌ أفَلْ
سَقَى الله ذاكَ وهَذا مَعَاً
فَنِعْمَ المُوَلِّي ونِعْمَ البَدلْ
ولأن الشيب ضيفٌ قد نزل، فإن للضيف واجب الضيافة والإكرام، ولكن للشيب إكراماً من نوع خاص، كما يرى ذلك دِعْبِل الخُزاعي:
أهلاً وسهلاً بالمَشيبِ فإنَّهُ
سِمَةُ العَفيفِ وحِلْيَةُ المُتَحَرِّجِ
وكأنَّ شَيْبي نَظْمُ دُرٍّ زاهِرٍ
في تَاجِ ذي مُلْكٍ أغَرَّ مُتَوَّجِ
ضَيْفٌ ألَمَّ بمَفْرقي فَقَرَيْتُهُ
رَفْضَ الغِوَايَةِ واقتِصَادَ المَنهَجِ
إذن فالمشيب زينة للرجل، أو هو كالدُرِّ في تاج الملك كما وصفه الشاعر، وهو علامة النضج وترك الغواية، وعلى هذا يوافق ابن الرّومي في قوله مرحبّاً بالشيب أيضاً:
وقُلتُ مُسَلِّماً للشَيْبِ: أهْلاً
بِهَادي المُخْطِئينَ إلى الصَّوابِ
ألَسْتَ مُبَشِّري في كلِّ يَومٍ
بِوَشْكِ تَرَحُّلي إثْرَ الشبَابِ
لقدْ بَشَّرتني بلحَاقِ مَاضٍ
أحَبُّ إلَيَّ منْ بَرْدِ الشَّرابِ
ولكن هل الشيب فعلاً يحملُ معه هذه الصورة الجميلة التي صورتها لنا الأبيات السابقة؟ ترى هل هذا ما أحسسنا به حقاً عند ظهور أولى الشعرات البيض في الرأس؟.. إن ابن الرومي يناقض نفسه بعد أبيات قليلة من نفس القصيدة، فيتحسَّر على شبابه الذي مضى ويقول إنه يستحق أن يُعَزّى على شبابه المفقود:
لَعَمْرُكَ، مَا الحَيَاةُ لكلِّ حَيٍّ
إذا فَقَدَ الشَبَابَ سِوَى عَذابِ
يُذكِّرُني الشَّبَابَ جِنَانُ عَدْنٍ
عَلَى جَنَبَاتِ أنْهَارٍ عِذابِ
فَيَا أسَفَاً، ويَا جَزَعَاً عليهِ
ويَا حَزَناً إلى يَوْمِ الحِسَابِ
أأفْجَعُ بالشبَابِ، ولا أعزّى؟
لقدْ غَفَلَ المُعَزّي عنْ مُصَابي
فمصيبة فقد الشباب تطغى على فرحة الترحيب بالمشيب، إن كان يستحق الترحيب حقاً!!.. وما أكثر الأبيات التي تبكي على رحيل الشباب، ورحيل لذة العيش معه، كما في أبيات الإمام الشافعي:
إذا اصْفَرَّ لَوْنُ المَرْءِ وابْيَضَّ شَعْرُهُ
تَنَغَّصَ منْ أيَّامِهِ مُسْتَطَابُهَا
ويبين لنا بهاء الدين زهير سبب بكائه على الشباب في الأبيات التالية:
نَزَلَ المَشِيبُ، وإنَّهُ
في مَفْرقي لا غَرْوَ نَازلْ
وبَكَيْتُ إذ رَحَلَ الشبابُ
فَآهِ آهِ عَلَيْهِ رَاحِلْ
أتُريدُ في السّبْعينَ ما قدْ
كُنتَ في العِشْرينَ فاعل؟
فواحسرتاه على أيام الشباب التي ضاعت سدى دون أن يستغلها المرء فيما ينفع به نفسه، فهي أيام لا سبيل إلى عودتها، ولا ينفع بعد رحيلها تمني رجوعها.
وقد يلجأ البعض إلى خِضاب الشَّعْر، لعله يستر به شيئاً من البياض، ويعيد بعضاً من رَونق الشباب ونضارته، خصوصاً وأن شيب الرجل له تأثير سلبي على النساء، كما يقول عَلقَمة بن عَبْدة:
فإنْ تَسْألوني بالنّسَاءِ فإنني
بَصِيرٌ بأدْوَاءِ النّسَاءِ طَبيبُ
إذا شابَ رأسُ المَرْءِ أو قَلَّ مالُهُ،
فليسَ لهُ منْ ودِّهِنَّ نصِيبُ
ولكن يبدو أن للشريف الرضي رأي مختلف في الخضاب، فهو في الأبيات التالية يحاور زوجته التي استنكرت عليه شيبه، ويَسوق الحجة تلو الأخرى مدافعاً عن بياض شَعْره، ومُدّعياً أنّ الخضابَ هو نوعٌ من الكذب:
نَبَتْ عَينا أُمَامَةَ عن مَشيبي
وعَدَّتْ شَيبَ رأسي منْ ذُنُوبي
وقالت: لوْ سَتَرْتَ الشيبَ عني
فكَمْ أَخْفى التَسَتُّرُ منْ عيوبِ
فقلتُ لها: أُجِلُّ صَريحَ ودّي
وإخلاصي عن الشَّعْرِ الخَضيبِ
ومَالكِ يَا أُمَامُ معَ الليالي
إذا طَاوَلْنَ بُدٌّ منْ مَشِيبِ
ومَا تَدليسُ شَيْبِ الرّأسِ إلا
كتدليسِ الودَادِ على الحَبيبِ
فالخضاب هو ضربٌ من التدليس والغش كما وصفه الشاعر، وإظهار الأشياء بغير مظهرها الحقيقي. وقد تبعه صَفيّ الدين الحِلّي في ذلك، بعد أن اختصر المعنى وهذبه:
قالوا اخْضِبِ الشيبَ فقلتُ اقْصِرُوا
فإنّ قَصْدَ الصِّدقِ منْ شِيمَتي
فَكيفَ أرْضَى بَعْدَ ذا أنَّنِي
أوّلُ مَا أكْذِبُ في لِحْيَتي
والشيبُ ليس مقصوراً على الرجال فقط، وإنما
هو آفةٌ تصيبُ الرجال والنساء معاً، كما أشار إلى
هذا الشريف الرضي سابقاً، ولكن شتّان ما بين
الاثنين، فشيبُ الرجل زينةٌ ووقارٌ له، ولكن الأمر مختلف بالنسبة للمرأة، كما يوضح ذلك دعبل الخزعلي:
إنّ المَشِيبَ رداءُ الحِلْمِ والأدبِ
كما الشبَابُ رداءُ اللّهْوِ واللعِبِ
تَعَجّبتْ أنْ رَأتْ شَيْبي فقلتُ لها:
لا تَعْجَبي، منْ يَطُلْ عُمْرٌ بهِ يَشِبِ
شَيْبُ الرِّجَالِ لَهُمْ زَيْنٌ ومَكْرُمةٌ
وشَيْبُكُنَّ لَكُنَّ العَارُ فاكْتَئِبي
فينا لَكُنَّ، وإنْ شَيْبٌ بَدَا، أرَبٌ،
وليسَ فيكُنَّ بعدَ الشيبِ مِنْ أرَبِ
وإن كان هذا الشاعر يرى الشيب على أنه رداء الحلم والأدب، فمن العجيب أن هناك من يراه على النقيض من ذلك تماماً، ويدعي أنه دافع لمزيد من التسلية واللهو:
لاحَ شَيْبي فظَلَلْتُ أمْرَحُ فيهِ
مَرَحَ الطِّرْفِ في اللِّجَامِ المُحَلَّى
وتَولَّى الشبَابُ فَازْدَدْتُ غِيَّاً
في مَيَادينِ بَاطِلي إذْ تَوَلَّى
إنَّ مَنْ سَاءَهُ الزمَانُ بشَيْبٍ
لأحَقُّ امْرءٍ بأنْ يَتَسَلَّى
أتُرَاني أسُوءُ نَفْسِي لمَّا
سَاءَني الدَّهْرُ؟.. لا لَعَمْريَ كلا
وهذه الحجة التي أتى بها الشاعر ليبرر ضلاله وغوايته لا تنطلي على أحد بالطبع، وإن كانت الأمثلة على هذا النوع من الناس موجودة فعلاً في واقعنا.. وهذا دليل على قلة العقل وضعفه، كما يعترف بذلك أسامة بن منقذ:
أحْبَبْتُهَا في عُنْفُوانِ الصِّبَا
وقلتُ: إنّ الشّيبَ يُسْلِيني
فَزَادَني شَيْبي جُنُوناً بهَا
حتى كأنّ الشّيْبَ يُغْريني
وكالشّبَابِ الشيبُ، لا مِيْزَةً
بَينهُما عندَ المجَانينِ