يستضيف هذا الباب المكرّس للشعر قديمه وحديثه في حلته الجديدة شعراء أو أدباء أو متذوقي شعر. وينقسم إلى قسمين، في قسمه الأول يختار ضيف العدد أبياتاً من عيون الشعر مع شروح مختصرة عن أسباب اختياراته ووجه الجمال والفرادة فيها، أما الثاني فينتقي فيه الضيف مقطعاً طويلاً أو قصيدة كاملة من أجمل ما قرأ من الشعر.. وقد يخص الضيف الشاعر القافلة بقصيدة من آخر ما كتب.
ضيف العدد
عبد الرحمن الحبيب
من مواليد القصيم، وحامل لشهادة دكتوراة في العلوم الزراعية. من قادة الرأي، ويعرّف عن نفسه بالكاتب والباحث والمُحكِّم العلمي وليس بالشاعر! علماً بأن القافلة نشرت له في عددها الثاني من العام 2006م، وفي هذا الباب قصيدةً من أرق الشعر، ويعود ليخص القافلة بقصيدة رقيقة جديدة ننشرها في ديوان اليوم.
بعيداً عن التجني..
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر..
إذا حاولنا أن نؤلِّفَ علاقاتٍ وجدانيةٍ بين شعرٍ قديمٍ وآخر حديث، فإننا سنتورطُ في مشتركاتٍ متفرعةٍ متشابكةٍ أكثر من أن تُحدّ، رغم اختلاف المكانِ والزمانِ واللغة. وفي تشابهِ القصائد بين الشعراءِ نكررُ مقولةَ تواردِ خواطر، ذلك أن المشاعرَ الإنسانيةَ تظلُّ هي ذاتها تراودُ الشعراء، على خلاف التجاربِ والخبراتِ العملية تتراكمُ ثم تتطورُ وتتغير..
فقد وقف الشاعر الجاهلي حائراً، أمام جدلية الدهر والموت.. كما نقف حيارى أمام أبيات تميم بن مقبل الموجعة:
إن ينقص الدهر من عوده واف ومثلومُ
وإن يكن ذاك مقدارا أصبت به
فسيرة الدهر تعويج وتقويم
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر
تنبو الحوادث عنه وهو ملموم
ها هو تميم يتمنى لو أنه حجرٌ لا ترهقه الحادثاتُ المفجعات.. فأية حوادث يخشاها هذا الشاعر: تقلبات الزمان أو الخوف من الموت القادم؟ أم هو شيء أخر، كأن يشارك الشاعر الموجودات الأخرى في صفاتها وينفصل عن ذاته وعن الآخرين من البشر ومثالبهم؟ كما قال الأحيمر السعدي:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب
إذ عوى وصوَّت إنسانٌ فكدت أطير
إنه يفرحُ أُلفةً بصوت الذئبِ الشرس، ويكاد يطيرُ من الهلع عندما يسمع صوت إنسان وديع! فالذئب أمينٌ في مسعاه وإن كان وحشياً، والإنسان مراوغ في علاقته وإن كان أليفاً.. في الأمانة أمنٌ واطمئنان وفي المراوغة خشية من كمين! إذن، ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر، تختصر محاولة المرء في الانفصال عن الهموم المؤلمة من خداع الإنسان ومن أذى الزمان، بل وحتى من الحنين القاسي لمن تحبهم ويحبونك.. ما أطيب أن تخرج من كل ذلك إلى عالم الحياد المطلق: حياد الحجر.. وهنا نجد في ديوان اليوم أن محمود درويش قد أكثر من خاطرة بن مقبل الحجرية، ومن آخر ما قاله:
ليتني حجرٌ
لا أحنُّ إلى أي شيء
فلا أمس يمضي
ولا الغد يأتي ولا حاضري يتقدَّم
لا شيء يحدث لي!
ليتني حجر ما
ليصقلني الماء أخضر، أصفر
أوضع في حجرة كمنحوتة،
أو مادة لانبثاق الضروري من عبث اللاضروري…
يا ليتني حجر كي أحن إلى أي شيء!
وإذا كان درويش وردت له نفس خاطرة بن مقبل – أو استلهمها- في بداية هذا النص في عدم تأثر الحجر بالمحيط الذي حوله، فإنه قلَبَها رأساً على عقب في استلحاقه ونهايته، بعلاقة الحجر مع الماء واللون والعشب والزخرفة، وأخيراً مع الانبثاق.. فالحجر يتغير أيضا، لكنه لا يتوجع!! ليحصلَ الشاعرُ من الحجر على صفاء الحنين الإنساني.. حنين نقي خالٍ من مراوغات البشر وتقلبات الدهر! بل إن درويش جعل من الحجر رمزاً للحياة والمقاومة، في قصيدة «أحمد الزعتر» العربي، متنبئاً بثورة الحجارة الفلسطينية قبل ولادتها بعقدٍ من الزمان:
ليدينِ من حجرٍ وزعتر
هذا النشيدُ لأحمد المنسيِّ بين فراشتين
مضت الغيومُ وشردتني
ورمت معاطفها الجبالُ وخبأتني
فالحجرُ أصبحَ يداً تقاومُ، والحجرُ أصبحَ خندقاً يتمترسُ به الفلسطيني.. وجدُّ درويش يصرخ: التصق بالحجرِ كي تنجو، وتشبث كما الجبالِ بالأرضِ فهي أُمكَ التي منحتك الحياة!.. وبين أمسنا ويومنا نسأل: هل حالة الحجر بين تميم ومحمود توارد خواطر أم توارد مصائر كما قال درويش يوماً؟ يبدو أنها توارد المصير الذي لم يتغيَّر منذ بنى البابليون حدائقهم المعلَّقة في الفضاء إلى أن بنى العولميون أبراجهم الناطحة للسماء في عواصم رأس المال.. ونظل نسأل كيف نواجه المصير؟ والشعراء يقولون نواجهه به وعبره وله! وإلا كيف تقول الشاعرة الأمريكية إميلي دكنسون (توفي 1886م) البعيدة زماناً ومكاناً عن بن مقبل:
لا أسعد من صخرة صغيرة
تهيم على الدرب وحدها ، غير معنية بوظيفة
والضرورات لا تخيفها، معطفها بني من عنصر الأرض
يرتديه العالم العابر،
وهي مستقلة كالشمس
تلتصق أو تنفصل بمفردها،
فتشبع قدرها المطلق
ببساطة عرضية
توارد خواطر أم توارد مصائر؟ وإذا عدنا إلى درويش الذي كان من أكثر الشعراء العرب احتفاءً بالفتوة الحجرية لابن مقبل، فنجد أنه أعطى الحجر أفقاً لما قال:
ليت الفتى حجر ٌ
يا ليتني حجرُ..
أكلما شردت عينان
شرَّدني
هذا السّحاب سحابًا
كلّما خمشت عصفورة أفقًا
فتّشت عن وثنٍ؟
أكلما لمعت جيتارة
خضعت
روحي لمصرعها في رغوة السُّفُن
أكلما وجدت أنثى أنوثتها
أضائني البرق من خصري
وأحرقني!
أكلما نوَّر اللَّوز اشتعلت به
وكلما احترقَ
كنت الدّخان ومنديلاً
تمزِّقني
ريحُ الشّمال ويمحُو وجهيَ المطرُ؟
لَيْتَ الفتى حَجَر ٌ
يا ليتني حَجَر ٌ…
وكثيراً ما يتسربل في قصائد درويش السؤال الموجع: «أكلما؟» الذي طالما أطنب في علاقته مع الموجودات: السحاب، الريح، المطر، الحجر، الشجر، الطير، الفراشة، الجيثارة، العينين، الزهرة.. أكلما كان كذا صرت كذا؟ متوجعاً من حالة الإنفعال السلبي، متمنياً حالة الفعل أو على الأقل الحياد الجامد كالحجر.. وكأنه في تكراره « أكلما» يريد أن يقول، ليتني حجر لا أتأثر بما حولي.. وفي « أكلما» نستحضر من ديوان الأمس، الشاعر عبد الله ابن الدمينة:
أإن هتفت ورقاءُ في رونقِ الضحى
على فننٍ غضِ النباتِ من الرندِ
بكيتَ كما يبكي الوليدُ ولم تكن
جليداً وأبديت الذي لم تكن تبدي!؟
إذن مجازاً: «ياليتني حجر».. فالحمامة الورقاء هيجت عواطف الشاعر حتى فاض دمعاً دون مقاومة كما يبكي الأطفال، ودرويش حاذاه قائلاً:
أكلما ذبلت خبيزةٌ
وبكى طيرٌ على فننٍ
أصابني مرض
أوْ صِحتُ: يا وَطَني!
«أكلما» ذات الهاجس الدميني، يجدِّد بها درويش المبنى ولكن قريباً من المعنى، كما في مواضع عديدة، إنها حالة التسأول غير الحجري الذي يتمنَّى أن يكون حجرياً: «أإن» أو «أكلما» حدث شيء في المحيط أو تحركتُ أنا واجهت كارثة؟:
أكلما أطلقت رياحي في الرماد
بحثاً عن جمرة منسيّة
لا أجد غير وجهي القديم الذي تركته
على منديل أمي؟
إنني قابل للموت كالصاعقة..
ها نحن نعود للموت الذي بدأنا به، والذي نقف إزاءه حيارى عاجزين.. وإذا كان قلَّة من الشعراء استطاعوا أن يرْثوا أنفسهم قبيل مماتهم كمالك بن الريب ومحمود درويش وأمل دنقل والسياب، فإن هناك من رثى من مات قبله حتى جعل الكون كله قبراً للمرثي وكأنه يرثي نفسه تماماً، كما قال أبو نهشل متمم بن نويرة عن أخيه مالك:
لقد لامني عند القبورِ على البكا
رفيقي، لتذارف الدموع السوافكِ
أمن أجل قبر بالفلا أنت نائحٌ
على كل قبرٍ، أو على كل هالكِ؟
فقلت له: إن الشجا يبعث الشجا
فدعني فهذا كله قبر مالك
المرثي هنا ليس شقيقاً فقط، بل النفس ذاتها عياناً بياناً، التي رأت العالم كله قبرا بمماتها! لذلك ليس غريباً أن يقول عمر بن الخطاب لمتمم:» ماتنفك تذكر مالكاً على كل حال.. فلم يبك أحد من العرب ميتة ما بكى متمم على أخيه!»
بمثل هذا الشعر المبدع تتخلق حيوات، ويتم إعادة الحياة بشكلها المعنوي بعد أن يفنى شكلها المادي.. ومن مثل ذلك ما قال أيضاً أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لأحد أبناء هرم بن سنان الذي أكثر الشاعر زهير بن أبي سُلمى فيه المدح: كان زهير يجود في أبيك المدح، فقال ابن هرم: وكان أبي يجود له العطاء، فقال عمر: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم! ولذلك بقيت مرثية متمم سيدة المراثي في ديوان العرب، حتى ضُرب بها المثل بين الشعراء.
ومن هنا نفهم في وقتنا الحاضر عندما سُئل الشاعر أدونيس: لماذا الشعر؟ قال: « لأشعر أنني موجود، ولأمارس هذا الوجود.. تجد كل القيم تنصهر فيه.. ترى من خلاله الحب.. الموت .. و.. وحين أبحث عن حل لتناقضات الخارج، فكأني أبحث عن حل لتناقضات الداخل. كأنني أحول العالم إلى شعر.. الشعر رئة العالم ولا أتنفس إلا به..» (منير العكش). وفي ذلك مارس أدونيس وجوده الشعري مع لعبة الزمن بطريقة حيوية تشع نضارة، لكنها تنتهي بالمحتم: الموت، والحنين للحياة:
أعيش مع الضوء عمري عبير يمُّر
وثانيتي سنواتُ
وأعشق ترتيلة لبلادي
تناقلها كالصباح الرعاةُ؛
رموها على الشمس قطعة فجر نقيٍّ
وصلوا عليها وماتوا-
إذا ضحك الموتُ في شفتيك
بكت، من حنين إليك الحياةُ.
وإذا جاز لنا أن نختم الخيال الجميل للشعراء في صيرورة الحياة والموت، والحجر والبشر، وعلاقة الأحياء والجمادات، فمن المناسب أن نستعيد الواقعي القاسي بفيلسوف الشعراء، البصير أبي العلاء المعري، ومن الطريف التشاؤمي أنه تهكَّم على وجْد الشعراء السابقين واللاحقين بنوح الحمامة، ثم أوجعنا حكمةً جافةً حين ذكَّرنا بأننا نمشي فوق أجداث آبائنا، وبالتأكيد سوف يُمشى على أجداثنا من أبنائنا، وكأنها لزوم ما لا يلزم!:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعي إذا قيس
بصوت البشير في كل ناد
أبكت تلكم الحمامة أم غنت
على فرع غصنها المياد
صاح هاذِ قبورنا تملأ الرحب
فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطأ فما أظن أديم
الأرض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم العهد
هوان الآباء والأجداد
سر إن أسطعت في الهواء رويدا
لا اختيالا على رفات العباد